قضايا وآراء

في وداع العام 2018

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

تُودع البشريةُ عام 2018 وتستقبل سنة جديدة (2019)؛ يتطلع الجميع أن تكون سنة أمن واستقرار ورخاء، وأن يُعوض الناسُ خلالها ما فَقدوه، وعجزوا عن تحقيقه.. هكذا هو حال لسان الناس، وبهذه اللغة تتفاعل البشريةُ في كل بقاع العالم، وتعبر عن تطلعاتها. وسينتهي العام الجديد، وتجد البشريةُ لسانَ حالها يُردد الكلماتِ نفسها، ويتطلع إلى التمنيات ذاتها.. إنها المفارقة التي تسكُن روح البشرية، وتستمر مستبدةً بها.

لا تبدو صورةُ العالم الذي نودعُ عامَه جاذبةً ومُشجعةً على الفرح، مهما قيل عن الإنجازات والفتوحات العلمية، كما لا تُقنع خطابات ساسته مهما امتلكت من بلاغة التعبير، ودقة البيان، بأننا نسير حقا نحو بناء مجتمع دولي يؤوي الجميع، ويضمن للعامة شروط العيش المشترك.. ما يبدو ضاغطاً وغير قابل للاختلاف أنه بقدر ما تقدمت البشرية بفعل العلم وسلطة الفكر على طريق تطويع الطبيعة وترويض المجهول وقهر الخوف؛ بالقدر نفسه عجزت عن تحويل نتائج تقدمها إلى خيرات مشتركة، وقيم مقتسمة، بل الأخطر، ساعدها التقدم العلمي على إعادة إنتاج مصادر العنف، ومنطق القوة، وبثِّ روح اللاعدالة، وتكفي إطلالة بسيطة على أحوال المعمور، وقراءة سريعة في أرقام ومعطيات أوضاعها، لإثبات صحة هذا العجز وصوره.

 

بقدر ما تقدمت البشرية بفعل العلم وسلطة الفكر على طريق تطويع الطبيعة وترويض المجهول وقهر الخوف؛ بالقدر نفسه عجزت عن تحويل نتائج تقدمها إلى خيرات مشتركة


احتفل قادةُ أكثر من 80 دولة أمام قوس النصر في العاصمة الفرنسية، قبل أقل من شهرين، بالذكرى المئة على إعلان انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد جاءت كلماتُهم وتصريحاتُهم وتمنياتُهم مُجمعةً على خطورة الحرب ومآسيها على تقدم الإنسان وكينونته، لكن الحقيقة أن الحرب بكل أشكالها ظلت مشتعلةً قبل احتفالِهم، وأثناءَه، وما زالت قائمة، وستظل، طالما أن أسبابها موجودة ومتأصلة، وعصية عن الاجتثاث. لننظر إلى القتلى بالجملة في مواقع النزاع، وهم في غالبيتهم من الفئات المستضعفة والهشة، من النساء والأطفال والمسنين، ولننظر إلى الذين هُجِّروا من أوطانهم عُنوة وبغير حق، بسبب الصراع على الثروة والسلطة، ولنشاهد المناطق التي فتكتها المجاعة والمرض، ودخلت دائرة النسيان، ونمعن في أكبر عمليات اغتصاب للأرض والمجال، وأقدمها تاريخيا، كما هو حال فلسطين المحتلة.

المفارقة إذن، أن الفتوحات العظيمة التي نجح فيها العقل البشري خلال القرنين الأخيرين؛ لم تواكبها فتوحات في بناء منظومة قيمية وثقافية قادرة على ترشيد خسائر الحروب والصراعات، وترجيح العيش المشترك ونبذ العنف والإقصاء، وضعف العدالة وانعدامها في الكثير من الأحيان.


أوضاعنا لا تختلف عن أوضاع العالم من حولنا، بل لا نتردد في القول إنها أكثر دقة وصعوبة، والمؤشرات كثيرة ومتعددة للتدليل على صحة هذا النظر

فحين ننتقل من العام إلى الخاص، ونطل على بلادنا العربية، نجد أن أوضاعنا لا تختلف عن أوضاع العالم من حولنا، بل لا نتردد في القول إنها أكثر دقة وصعوبة، والمؤشرات كثيرة ومتعددة للتدليل على صحة هذا النظر. لنُمعن في حال العمل العربي المشترك، ومآل بيت العرب (الجامعة العربية)، التي تُعد أقدم تنظيم إقليمي على الإطلاق، ولنتساءل: لماذا كان نصيبها التعثر وتواضع الإنجاز، بينما فعل غيرها من التنظيمات الكثير والكثير؟ بل حتى الاتحادات الإقليمية الفرعية، كما هو حال مجلس التعاون الخليجي، توقفت لأسباب لا يقبلها العقل والمنطق، ولا حتى المصالح القُطرية الضيقة.. أما قضايا الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، فما زال منسوب العجز فيها مستمراً وضاغطاً، ومكبلاً لإمكانيات الانتقال نحو الأفضل.. ناهيك عن مشكلة الانكشاف إزاء الخارج والتبعية المستدامة له ولمؤسساته.


نعت باحث عربي أبناء أمته منذ سنوات بأنهم "خرجوا من التاريخ"، وقد سوّق فكرة "خروج العرب من التاريخ" قبل حصول ما حصل في سنوات العشرية الثانية من الألفية الثالثة، فماذا عساه يقول اليوم بعدما دبَّت الفتنة، وعمّ الانقسام، وتبدد ما بقي يقاوم الزوال والاندثار؟.. ربما لم يبق في مُكنِه ما يقول، والصمت حكمة، كما يقال.

لعل من الخطورة بمكان التأكيد على أن الفشل الذي ألمّ بالحراك العربي فتح الباب واسعا بعودة الممارسات السابقة بشمولية أكثر، وقسوة أكبر

يودع العرب العام 2018 والحرقة تأكل الكثير منهم؛ لأن ما تطلعوا إليه، وناضلوا من أـجله في سياق حراك مجتمعاتهم، لم يتحقق، بل عاد بالوبال على الكثير منهم، بل إن لسان حال بعضهم يردد: لو عادت عقارب الزمن إلى الخلف، وبقيت أوطانهم على عللها، ومثالب ممارسات حكامها.. ولعل من الخطورة بمكان التأكيد على أن الفشل الذي ألمّ بالحراك العربي فتح الباب واسعا بعودة الممارسات السابقة بشمولية أكثر، وقسوة أكبر، والقادم في علم الله.

وفي كل الأحوال لا يملك المرء سوى أن يتفاءل بالقادم، ويتوق لأن تكون سنة 2019 لحظة إعادة امتلاك مجتمعاتنا العربية لإرادتها المستقلة في التعبير عن تطلعاتها، والمشاركة في تقرير مصيرها، وأن تهب ريح اليقظة على ربوعها، كي تُحول العُسر إلى يُسر، وتُثبت لنظيراتها من المجتمعات البشرية أنها شبيهة لها في الخلق والإبداع والعطاء الحضاري.

التعليقات (0)