قضايا وآراء

"الاستثناء التونسي".. أو إعادة إنتاج النظام مع "تعديل" نمط اشتغاله

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

قد يكون من المشروع عند تتبع المسارات المختلفة لبلدان الربيع أن نتحدث عن "الاستثناء التونسي"، فتونس لم تعرف انقلابا عسكريا كالذي عرفته مصر، ولم تكتو بنيران الحرب الأهلية كما هو شأن ليبيا أو اليمن، ولم يستطع نظامها أن يستمر انطلاقا من تحالفات دولية وإقليمية كما هو حال النظام السوري. ولكننا أيضا قد لا نحتاج إلى تبني نظرية "المؤامرة الكونية" أو مفهوم "الربيع العبري" كي نتساءل عن معنى هذا الاستثناء وطرائق اشتغاله ومحصوله بعد سبع سنوات من ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر- 14 كانون الثاني/ يناير المجيدة.

وللإجابة الأولية عن هذه القضايا، يمكننا أن ننطلق من سؤال محوري نصوغه على الشكل التالي: هل "الاستثناء التونسي" هو مسار حقيقي للانتقال الديمقراطي، أم إنه تعبير مجازي عن حقيقة سلطوية مؤداها استمرارية المنظومة القديمة في الحكم (بخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الكبرى) بطريقة "ناعمة" و"ديمقراطية"، بعد أن استحال عليها (لأسباب موضوعية) أن تعيد مواقعها ومصالحها بالقوة العارية (أي بالانقلاب).

منذ الأيام الأولى للثورة، كان من الواضح أنّ مساراتها ستتحدد بصورة كبيرة بطبيعة العلاقة التي ستجمع بين المستفيدين منها (وهم أساسا من أصحاب السرديات الكبرى، خاصة الإسلاميين واليساريين)، كما كان من الواضح أيضا أن الخاسر الأكبر من الثورة (أي التجمعيين والشبكات الجهوية والزبونية المرتبطة بهم) لن يقبل بالأمر الواقع، وسيحاول اللعب على التناقضات بين الإسلاميين والعلمانيين (في المستوى المحلي)، وعلى القوى الإقليمية والدولية التي تتوجس خيفة من النموذج الثوري التونسي، تلك القوى التي ستسعى في الحد الأقصى إلى دعم سيناريو انقلابي صريح، ولكنها ستسعى (في الحد الأدنى) إلى إضعاف مسار الانتقال الديمقراطي بدعم التناقضات الأيديولوجية، وفسح المجال أمام ممثلي المنظومة القديمة للعودة إلى المشهد العام، باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية"، ومن سدنة "النمط المجتمع التونسي" المهدّد بحركة النهضة وبالإسلاميين عموما.

 

استمرارية المنظومة القديمة في الحكم (بخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الكبرى) بطريقة "ناعمة" و"ديمقراطية"، بعد أن استحال عليها (لأسباب موضوعية) أن تعيد مواقعها ومصالحها بالقوة العارية (أي بالانقلاب)


لو أردنا اعتماد الاستعارة، لقلنا إن "كعب أخيل" الثورة التونسية كانت الصراعات الهوياتية والثقافية التي طبعت الثورة التونسية منذ أيامها الأولى. ففي ظل احتدام الصراعات الدائرة بين الإسلاميين واليساريين، كان من المستحيل مجرد التفكير في أن تجمع بينهما "كتلة تاريخية" بالمفهوم الغرامشي للكلمة. وبدل تلك "الكتلة التاريخية" المهدرة، كانت الصراعات الهوياتية تدفع نحو تشكيل "كتلتين أيديولوجيتين" لا وظيفيتين من منظور استحقاقات الثورة: كتلة أيديولوجية أولى شكّلها التقارب "المذهبي" بين السلفية وحركة النهضة أساسا (وهو تقارب تحكمه وحدة الخلفية المذهبية والمظلومية والاستهداف الممنهج من "العائلة الديمقراطية")، وكتلة ثانية شكّلها التقارب "البراغماتي" بين القوى اليسارية وورثة التجمع، بقيادة حركة نداء تونس. وقد نتج عن الكتلة الأيديولوجية الأولى نوع من التهاون النهضوي بالخطر السلفي على مقومات العيش المشترك بين التونسيين، وأفرزت الكتلة الأيديولوجية الثانية عودة التجمعيين إلى واجهة المشهد السياسي، باعتبارهم الطرف الأقوى والأقدار(ماديا ومؤسساتيا ورمزيا من خلال السردية البورقيبية) على حماية "النمط المجتمعي التونسي".

في هذه السياقات، كنا في الظاهر أمام صراع بين مشروعين مجتمعيين متناقضين، ولكننا كنا في الحقيقة أمام خطابين صداميين يخدمان المشروع المجتمعي القائم بصورة مقصودة أو غير مقصودة. فالنهضة التي أرادت أن تظهر بمظهر الشريك للقوى العلمانية، كان قد أضعفها سلوكها السلبي أمام السلفية وتهديداتهم المتتالية للسلم الأهلي ولنمط حياة المواطنين، وهو ما جعلها بالتالي في موضع الاستهداف من كافة خصومها. فحركة النهضة قد أعطت خصومها (بل أعداءها الذين يتمثلون الصراع معها باعتباره صراعا وجوديا) الحجج اللازمة لاتهامها بالمسؤولية عن جميع انحرافات الثورة ومفاعليها الكارثية، خاصة تردي الأوضاع الأمنية (وهي مسؤولية تتراوح عند هؤلاء بين المسؤولية القانونية والمسؤولية السياسية). أمّا القوى اليسارية، فإنها بتغليبها منطق الصراع الثقافي وباستصحابها لثنائية التناقض الرئيس (مع الرجعية الدينية) والتناقض الثانوي (مع الرجعية البرجوازية)، قد وجدت نفسها تُطبّع مع ورثة التجمع وتعتبرهم جزءا من "العائلة الديمقراطية"، وهو خيار جعل صراع القوى اليسارية ينحرف عن مدارات الصراع الطبقي إلى مدار الصراع الهوياتي، كما جعل تلك القوى تضع رساميلها الرمزية وملحقاتها النقابية والجمعياتية والإعلامية في خدمة المنظومة القديمة، ولو على حساب الثورة.

 

كنا في الظاهر أمام صراع بين مشروعين مجتمعيين متناقضين، ولكننا كنا في الحقيقة أمام خطابين صداميين يخدمان المشروع المجتمعي القائم بصورة مقصودة أو غير مقصودة

مهما كانت تبريرات حركة النهضة والقوى الديمقراطية لطبيعة أدائها بعد الثورة، من المؤكد أنها تتحمل جميعا مسؤولية كبيرة في نجاح استراتيجية المنظومة القديمة لإعادة التموضع والانتشار. وقد كان الصراع الهوياتي الثقافوي هو المدخل الملكي الذي تسرب منه ورثة المنظومة القديمة للانقلاب على استحقاقات الثورة، ولضرب مسار الانتقال الديمقراطي وإفراغه إلى الحد الأقصى من قوته التحريرية. فقد نحجت المنظومة القديمة في احتواء النهضة والقوى اليسارية (المنتمية أساسا إلى الجبهة الشعبية) في لحظات مختلفة، كما نجحت تلك المنظومة في جعل النهضة واليساريين مجرد "ملحقات وظيفية" بمراكز القوى داخل النواة الصلبة للبنية السلطوية؛ المتحكمة في تونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.

يستطيع كل من تدبّر العلاقة بين "البنية الجهوية الزبونية" للسلطة في تونس منذ العهد البورقيبي، وبين "اللوبي" الذي استطاع بعد الثورة أن يفرض السيد الباجي قائد السبسي، ومعه حكومة "الجنسية المزدوجة"، على جميع الفاعلين السياسيين بعد حكومتي التجمعي القحّ محمد الغنوشي، وأن يصل إلى النتيجة التالية التي يمكن صياغتها بهذا الشكل: بعد الثورة التونسية، لم يكن الصراع السياسي والثقافي والإعلامي والمدني والحقوقي بين الإسلاميين والعلمانيين في جوهره صراعا بين مشروعين مجتمعيّين (لأنّ الذين يحملون مشاريع مجتمعية "ضدية" وانقلابية حقيقية (السلفية وحزب التحرير واليسار الفوضوي) لا يملكون قاعدة اجتماعية تسمح لهم بذلك، ولا يملكون كذلك الدعم الإقليمي والدولي للوصول إلى "الطوبى" التي يؤمنون بها)، بل كان صراعا بين خطابين أيديولوجيين يتنافسان على إعادة التوازن الذي افتقده نظام المخلوع ابن علي، ولكنهما خطابان يختلفان في الآليات التي المستعملة للوصول إلى تلك الغاية التي انتدبتهما الدولة العميقة (وساداتها في المركز الإمبريالي وهوامشه الاقليمية) للقيام بها ، أي إنهما يختلفان فقط في كيفية "شرعنة" نفس الاختيارات الاقتصادية لخدمة المركّب الأمني- المالي- الجهوي الحاكم قبل 14 كانون الثاني/ يناير، وبعده بفضل منطق "استمرارية الدولة" الذي لا محصول له إلاّ استمرارية القوى الناهبة لهذه الدولة.

 

لم يكن الصراع السياسي والثقافي والإعلامي والمدني والحقوقي بين الإسلاميين والعلمانيين في جوهره صراعا بين مشروعين مجتمعيّين

بعد الثورة، أدرك المركّب النيو- ليبرالي، ذو النواة الجهوية المعلومة، أنّه لا يستطيع تجاوز المفاعيل الكارثية لـ"اختلاله البنيوي" بعد رحيل رأس النظام (وبعد الواقع الجيوسياسي المنبثق من "الربيع العربي") إلاّ عبر عملية "تعديل ذاتي" (AUTOREGULATION). وقد تمت تلك العملية - من جهة أولى - بتوسيع قاعدة المستفيدين منه جهويا وحزبيا وجمعياتيا (مع المحافظة على نواته الصلبة ذاتها)، وتمت كذلك - من جهة ثانية - بـ"توسيع" القاعدة الأيديولوجية للنظام كي تنفتح على المكوّن الإسلامي وعلى ديمقراطية صورية (مراقبة جيدا ومتحكم في نتائجها مسبقا بفعل المال السياسي "المشبوه"). وقد اختار المركّب الجهوي-المالي- الأمني الحاكم هذه الاستراتيجية، بحكم فشل النموذج السلطوي القائم على استبعاد الإسلاميين من الحقل السياسي القانوني، وبحكم هشاشة القاعدة الأيديولوجية للنظام، تلك القاعدة اليعقوبية- التنويرية التي أظهرت الثورة محدوديتها وعطالتها، رغم التحالف "البراغماتي" مع العقل اليساري "التقدمي" الذي روج لمقاربة ثقافوية كادت تحصر مكاسب النموذج المجتمعي التونسي في معطيات حقوقية؛ أريد لها التغطية على واقع اللامساواة والتخلف والتبعية المنحدر من الاختيارات النيو- ليبرالية المتوحشة للسلطة قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011.

لقد نجحت النواة الصلبة للمنظومة القديمة (بدعم من حلفائها الإقليميين والدوليين) في جعل سقف الصراع بين جميع الفاعلين الجماعيين (يمينا ويسارا) هو التنافس المحموم على تقديم "غطاءات أيديولوجية" متباينة، لخدمة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نفسها. كما نجحت تلك المنظومة في حرف الصراع عن مداراته التحررية والمساواتية (فرديا وجهويا) إلى مدارات الصراع الهووي ومتاهاته. وهو ما يعني ضرورة الاشتغال على الجملة السياسية التي وُظّفت لتحقيق تلك الغايات، وتمريرها وكأنها مكسب لا شر تحته، خاصة تعبير "الاستثناء التونسي". فهذا التعبير (الذي هو عندنا لحظة من لحظات هيمنة الأساطير المؤسسة "للنمط المجتمعي التونسي") يحتاج إلى مراجعات جذرية تتجاوز مجرد التغني بـ"الاستقرار الحكومي"، والنجاة من"الانقلاب" أو "الاحتراب الأهلي"، وذلك بهدف مساءلته في مستوى الإنجاز.

 

هذه الوقائع لا تعني بالضرورة شيطنة "الاستثناء التونسي"، بل كل ما تعنيه هو التعامل النقدي معه باعتباره أداة وظفتها السلطة لتكريس خياراتها ومصالح من يقف وراءها

رغم أهمية المكاسب الجزئية التي يحيل إليها "الاستثناء التونسي"، فإنها لا تستطيع أن تغطي على الواقع السلطوي الجديد: أولا، عودة المنظومة السابقة إلى مركز السلطة، وانتقال اليسار والإسلاميين إلى وضعية التابع لمراكز القوى المهيمنة على تلك المنظومة. ثانيا، فشل النخب اليسارية والنهضوية (مهما كان موقعها) في تقديم بدائل معقولة لكسر منوال التنمية الموروث عن المنظومة السابقة، وللانعناق من التبعية الاقتصادية والثقافية للمستعمر القديم. ولا شك في أن هذه الوقائع لا تعني بالضرورة شيطنة "الاستثناء التونسي"، بل كل ما تعنيه هو التعامل النقدي معه باعتباره أداة وظفتها السلطة لتكريس خياراتها ومصالح من يقف وراءها. وقد حان الوقت لتحريرها من الاحتكار السلطوي، وتوظيفها لنسف تلك الخيارات أو على الأقل تصحيحها.

التعليقات (0)