مقالات مختارة

الديمقراطية: بين التراجع واستعادة المبادرة

شفيق الغبرا
1300x600
1300x600

لقد تراجعت الديمقراطية في دول كثيرة في العالم وذلك بفضل عودة التسلطية والديكتاتورية بالإضافة لصعود الصين وروسيا.


لكن الفكرة الديمقراطية ليست قائمة على فرضية التقدم والانحسار الديمقراطي بقدر ارتباطها بتحولات أعمق تسبر غور النفس البشرية. فلولا بحث الإنسان الدائم عن الكرامة والعدالة والمساواة، كما وعن الحرية والمشاركة ومحاسبة قادته ونقدهم لما تطورت الديمقراطية بالأساس. لقد كان نشوء الديمقراطية في البداية فعلا إبداعيا في مواجهة الاستبداد والتسلط، ولازال هذا الخيال قائما بين شعوب العالم لأنه مرتبط باحتياجات أساسية للإنسان.


لهذا يخطئ من يعتقد من النخب المسيطرة خاصة في العالم العربي أن الفكرة الديمقراطية في طريقها للانهيار، بل في أفق الزمن القادم هي في طريقها لتجميع قوتها ولبناء موجة جديدة ستشمل مجتمعات ودولا شتى.


ليست هذه هي المرة الأولى التي تبدو الديمقراطية وكأنها في طريقها للانكماش والانهيار. فبعد الحرب العالمية الأولى ساد الاقتناع بنهاية الديمقراطية التي كانت قد شملت بضع دول في العالم الغربي. ففي البداية تحولت روسيا للاتحاد السوفيتي الشيوعي. فالشيوعية السوفيتية كانت بطبيعتها صاحبة رسالة عالمية معادية للديمقراطية. لكن مع صعود النازية والفاشية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بدا وكأن عصر الديمقراطية قد انتهى لصالح ديكتاتوريات جديدة في ألمانيا وإيطاليا.


لكن انتصار الديمقراطية في الحرب العالمية الثانية واجه تحديات كبرى من خلال انتشار الشيوعية بنفس الوقت، وهذا جوهر الحرب الباردة. لقد نافست الشيوعية النظام الديمقراطي الرأسمالي وهددته في أسس بنيانه الفكري وأوشكت على إسقاطه في مواقع كثيرة في العالم. حتى النمسا كانت على وشك أن تتحول للشيوعية. 


لكن الشيوعية لم تصمد أمام الديمقراطية، ففي أواخر ثمانينيات القرن العشرين انتهت المنافسة بين الديمقراطية والأيديولوجية السوفيتية الشيوعية لصالح الديمقراطية. لكن انتصار الديمقراطية في بداية تسعينيات القرن العشرين لم ينه المنافسة، فقد صمدت الديكتاتورية وصعدت معها (وفي عقر دار الدول الديمقراطية الغربية) في السنوات القليلة الماضية الأيديولوجيات القومية والشعبوية والعنصرية.


الديمقراطية فكرة قابلة للتأقلم، وهذا جانب أساسي في قوتها. لقد تغيرت الديمقراطية القديمة التي عرفها القرن الثامن عشر والتاسع عشر. فعلى سبيل المثال نجحت الديمقراطية في استيعاب احتجاجات الريف البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر ونجحت فيما بعد في إدخال الضمان الاجتماعي وقوانين العمل والتقاعد بفضل احتجاجات عمالية كبرى (تلك سياسات أخذتها الديمقراطية من الفكر الشيوعي). لهذا نجحت الديمقراطية في مواجهة المد الشيوعي من خلال تطوير مبادئها لتشمل الاعتناء بحقوق الطبقات الدنيا.


الموجة القادمة والرابعة للديمقراطية ستكون ايضا ذات انتشار عالمي، إذ ستركز على مواجهة الشعبوية وقيم التعصب والتفرقة والعنصرية والحريات بكل إشكالها، ستواجه هذه الديمقراطية الظلم الذي تتعرض له الطبقات الشعبية في معظم دول العالم بما في ذلك في الولايات المتحدة ودول الغرب (الاحتجاجات في فرنسا ومواجهة ترامب في الولايات المتحدة).


في الموجة الجديدة للديمقراطية لن يكون مقبولا تمركز الثروات بيد 5% من أصحاب النفوذ. في أجواء كهذه من الطبيعي أن نرى صعود للفكر اليساري والفكر النقدي المتصالح مع الديمقراطية.


إن أهم حليف للديمقراطية مرتبط بتطلعات الشعوب نحو الحرية ومساءلة حكوماتهم وقادتهم. ومن حلفاء الديمقراطية الرأي العام العالمي، فهو ذات الرأي العام الذي تبنى قضية جمال خاشقجي، وهو ذاته الذي يتبنى موقفا من سياسات الرئيس ترامب الشعبوية، بل هو نفسه الذي يبرز أصوات تتحدى الصهيونية بسبب احتلالها واضطهادها للشعب العربي الفلسطيني.

 

الرأي العام قوة هائلة ومخزون قادم للديمقراطية وحقوق الإنسان.


لو دققنا أكثر في المشهد الملتبس كونيا سنجد أن دولة كبرى كروسيا لا تمتلك فكرا قابلا للانتشار في العالم، فنظامها يقوم بالأساس على فكرة الدولة السلطوية، وهي دولة ينخرها الفساد، ويتحكم فيها مجموعة من كبار المتنفذين والمسيطرين على النفط والغاز. هذا النموذج لا يمكن حمله على أجنحة العالمية وهو لا يصدر قيم الحرية لأحد. الرئيس بوتين معلم للمستبدين في العالم، لكنه ليس مفيدا لحراكات الشعوب والقوى التحررية التي تريد نظاما مسائلا ومختلفا عن النظام الذي يقوده بوتين. بوتين ظاهرة روسية، على أهميتها لروسيا، لا تحمل رسالة عالمية.


بنفس الوقت لم تعد الصين وهي الدولة الكبرى الثانية، صاحبة رسالة عالمية كما كان الأمر في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. لا تمتلك الصين ما تصدره فكريا أمام الأيديولوجية الديمقراطية والحقوقية، كل الذي تستطيع عمله أن تستمر الصين في صعودها الاقتصادي والذي يصاحبه انغلاق سياسي إلى أن تواجه معوقات سياسية واجتماعية، فهي حينها ستقف عاجزة عن مواجهة التحولات الاجتماعية العميقة التي ستقرع أبوابها. النموذج الصيني عاجز عن مواجهة فرضية مغرية عالميا كفرضية «الشعب مصدر السلطات». لهذا تنطلق التجربة الصينية من أن الحزب هو مصدر السلطات، وهذا نموذج يصعب تصديره إلا من خلال الانقلابات الديكتاتورية التي لم تعد الشعوب تتقبلها.


إن فكرة الحرية والظلم والعدالة الاجتماعية وإنشاء نظام مساءل وتغير حكومة بواسطة صناديق الاقتراع، وحرية الصحافة وحرية التعبير هي من محركات القرن الواحد والعشرين وهي ليست معزولة عن بناء نظام اقتصادي عادل ونظام اقتصادي حيوي. هذه المنظومة الفكرية ستزداد قيمة بفضل تركيز الحراكات الديمقراطية على العدالة الاجتماعية وحقوق الطبقات المهشمة ومن لا صوت لهم.

 

الديمقراطية قادمة في إطار موجة رابعة، بل إن المواجهة القائمة في الولايات المتحدة حول سياسات الرئيس ترامب الشعبوية ستكون احد مكونات استعادة الديمقراطية بل وتعميقها في العالم. من السودان للقاهرة ومن الولايات المتحدة لليمن وفلسطين ومن الدول العربية من الخليج للمحيط يبحث الإنسان عن حق التعبير وعن تقرير مصيره وعن واقع يحترم الإنسان ويمنع القمع والانتهاك.

 

عن جريدة القدس العربي اللندنية

1
التعليقات (1)
الصعيدي المصري
الخميس، 17-01-2019 04:43 م
كمصري .. انظر الى التجارب القطرية الخاصة بكل دولة عربية هي جزء من كل يتفاعل مع النهوض العربي اجمالا بين فاعل ومفعول وكما كان الربيع العربي في تونس ومصر حافزا لبقة الدول العربية للنهوض والمطالبة بالحريات .. وبعد موجات الثورات المضادة التي نجحت مرحليا خاصة في مصر وسوريا وليبيا واليمن .. الا ان للحكاية بقية هناك وعي متنامي لا يمكن كبته او ايقافه جرى في نهر العقل العربي الجمعي هذا الوعي وان لم يظهر تأثيره الآني الا انه بناء تراكمي وان كان بوتيرة بطيئة نحو تحرر الفكر العربي الشعبي من قبضة الشمولية وتقديس الحاكم الفرد في المدي القريب او المتوسط ( وليس البعيد) سيظهر ان ثورات الربيع العربي بدأت لكي تكتمل رغم كل العوائق الانقلاب العسكري الدموي (الهولوكوستي ) في مصر على سبيل المثال بدأ قويا دمويا .. ولكن الآن ظهر جليا حتى لمن ساندوه من العلمانيين والليبراليين واليساريين كيدا في ديمقراطية اتت بآخرين ينتمون الى ايدلوجية اسلامية .. هؤلاء بدأوا يكتشفون ان الديمقراطية وحدها هي القادرة على بناء ونهضة الامم الديمقراطية هي وحدها من تحمي الجميع ضد مستبد انقلب وسينقلب تدريجيا حتى على من ساندوه ودعموه