قضايا وآراء

مئة عام على "الثورة الأم" (1919)

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
مئة عام تمر هذه السنة (9 آذار/ مارس) على ثورة 1919م الثورة الأم في تاريخ مصر الحديث، إذ حملت هذه الثورة ألف ميلاد وميلاد، ومهما قيل في الثورات وعنها، إلا أن مصر ما قبل 1919م شيء وما بعد 1919 م شيء آخر تماما. وليست هناك مبالغة في أن الثلاثين عاما التي جاءت بعدها حملت لنا كل ما جعل مصر بالفعل "تاج العلاء في مفرق الشرق"، كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم رحمه الله، في قصيدته الشهيرة التي أوصلتها حنجرة أم كلثوم بألحان السنباطي؛ إلى الناس العاديين في المدن والقرى والنجوع.

وتأكيدا للمقولة السابقة، سنجد أن ثلاثي هذه القصيدة المغناة كانوا من غرس تلك العقود الثلاثة الأكثر خصبا وثراء وعطاء وإنتاجا في كل تاريخ مصر الحديث. كانت ثورة 1919م ثورة شعبية بالمعنى الحرفي كما يقولون، إذ شارك فيها الجميع، من فلاحين وعمال وطلبة ومثقفين مسلمين ومسيحيين الصغار والكبار، وكان أبرز مظاهرها بالطبع مشاركة المرأة المصرية للمرة الأولى التي تخرج فيها مشاركة في المجال العام. غطت الثورة كل ربوع مصر في القاهرة والأقاليم والأرياف، ولعل أهم تجليات هذه الثورة الكبرى هي وحدة وإرادة الجماعة الوطنية في مصر وتشكلها على نحو فريد.

لا يذكر التاريخ تأريخا عن ثورة 1919 إلا ويذكر أحد أهم معالم تلك الثورة، وهو أن عالم دين مسيحي (قمص) اعتلى منبر الأزهر في سابقة تحدث للمرة الأولى في تاريخ مصر والأزهر، ليخطب في جموع المصريين؛ معلنا أنه مصري أولا ومصري ثانيا ومصري ثالثا وأن الوطن لا يعرف مسلما ولا قبطيا، بل يعرف فقط "مجاهدين" (تذكروا جيدا هنا أن هذا الوصف صدر من قس وفى بدايات القرن الماضي!!)، دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء. وإذا كان الإنجليز يتمسكون بوجودهم في مصر بحجة حماية الأقباط، "فليمت الأقباط ويحيا المسلمون أحرارا". ويضيف ساخرا: وليحيا الإنجليز لأنهم استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجاجتهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحدة المقدسة الملتهبة.

إنه القمص مرقص سيرجيوس (1882-1964م)، الذي تحدث من فوق منبر "الأزهر الشريف"، مربط فؤاد المصريين وملاذ دينهم ودنياهم، والذي تنبح حوله الآن وحول علمائه الأجلاّء كلاب الشوارع الضالة، بغرض إقصائه من أي تأثير في الشأن العام للوطن والدولة والمجتمع.

ولد القمص سرجيوس بجرجا سنة 1882م والتحق بالمدرسة الإكليركية وتخرج في 1903، وتمت رسامته كاهنا عام 1904 على ملوي، ثم الفيوم والزقازيق وفي عام 1907 عمل وكيلا لمطرانية أسيوط حتى 1912، ثم أرسله البطريرك (كيرلس الخامس البابا 112) ليصبح وكيلا لمطرانية الخرطوم. وفي السودان بدأ كفاحه ضد الإنجليز، فأصدر هناك مجلة المنار المرقسية في 1912 (على نسق منار رشيد رضا التي صدرت عام 1898م)، التي تدعو لوحدة المسيحيين والمسلمين في كفاحهم ضد المحتل؛ الذي سيأمر بترحيله من السودان ليغادرها في 1915 متجها لمصر ولينخرط في صفوف الحركة الوطنية، حتى يكون دوره الأكبر في ثورة 1919، ليكون خطيبها الأول كما وصفه سعد زغلول، زعيم الثورة ورمزها الأوضأ (1858-1927م). ومما يذكر للقمص سرجيوس أيضا أنه عندما اعتقلته السلطات الإنجليزية في رفح 80 يوما، هو والشيخ مصطفى القاياتي (1879-1927) الذي كان ينبه دائما إلى أولوية التكوين الوطني للجماعة المصرية على الاستقلال السياسي، وإلى أن التفرقة الدينية أكثر خطرا من الاحتلال ذاته. وكان يرى في الشراكة الوطنية بين المصريين على اختلافهم ركنا أساسيا من أركان النهوض الوطني، ينسجم فيها الدين مع الوطنية، وتتسق فيها الوطنية مع الدين، كما ذكر الحكيم البشري في كتابه الأروع والأشهر "المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية".

أثناء رحلة الـ80 يوما هذه في المنفى، أرسل القمص سيرجيوس خطابا للمندوب السامي البريطاني صمؤيل هور (أو هور بن الطور كما كان يسميه المصريون)، قال فيه: كانت الفرمانات العثمانية إذا القس ارتكب ما يستوجب السجن فليسجن في البطريركية. واذا كان هذا ما منحه الأتراك للأقباط، فهل تعتقل دولة الإنجليز رجال الدين المسيحيين؟!

سنذكر له أيضا موقفه الكبير في الاجتماع الذي عقد في البطريركية عقب تولي يوسف وهبة باشا الوزارة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1919، وطالبه ضمن آخرين في برقية؛ برفض المنصب احتراما للوطن المقدس. وكان عدد كبير من الأقباط قد أصدروا "بيان احتجاج" على وزارة وهبة باشا هذه؛ بعنوان "بيان إلى الأمة المصرية"، جاء فيه :علمنا أن صاحب المعالي يوسف وهبة باشا قد قبل في الظروف القاسية العصيبة التي تجتازها الأمة أن يقوم بتشكيل الوزارة، بعد البلاغ الرسمى الأخير الذي تضمن تمسك الإنجليز بالحماية على مصر، وحيث إنه لا يمكن تفسير هذا القبول إلا بقبول الحماية والعمل تحت لوائها ومعاونة لجنة ملنر في تقرير مصير البلاد، وحيث إنه يُخشى أن يعتبر الإنجليز الذين يسعون جهدهم لتشويه حركتنا الوطنية ووحدتنا القومية؛ قبول الرجل لهذا المنصب بمثابة إرضاء لأقباط مصر أو فريق منهم في وزارته، فالأقباط يرون أنفسهم مضطرين إلى أن يتقدموا بصفتهم أقباطا لإظهار شعورهم حيال هذا الحادث، لذلك فهم يعلنون براءتهم من كل رجل أو هيئة تقبل الحماية أو تساعد على تعضيدها.. لكل هذه الأسباب يعلن الموقعون على هذا اشتراكهم مع سائر طبقات الأمة المصرية في الاحتجاج على تشكيل الوزارة الجديدة.

ومن أشهر الأسماء التي سنرى توقيعها على البيان: القمص مرقص سرجيوس، وسامى أخنوخ فانوس، أحد من قامت على أكتافهم الجامعة المصرية، ووليم مكرم عبيد، الذي سيصبح الابن الروحى لسعد زغلول ومصطفى النحاس والذي سيعلن في احتفال عام تخليه عن اسم (ويليم) كي يصبح اسمه "مكرم عبيد"، وهو مصري الدلالة بالمعنى الكامل.

سنقرأ في كتاب الحكيم البشري ما يدهشنا أكثر وأكثر، ذلك أن القمص سرجيوس تعود على الكتابة في صحيفة الوطن المتعصبة، وكان كثير التباكي على ما آل إليه وضع الأقباط منذ القرن السابع الميلادي (دخول الإسلام مصر)، ولكن الثورة تصهر وعيه بلهيبها وتحوله من النقيض إلى النقيض، فإذا به مع الشيخين مصطفى القاياتي ومحمود أبو العيون من أخطب من عرفتهم المنابر والكنائس، حضا على جهاد الإنجليز وعملا على توثيق عرى الترابط بين المصريين، ولذلك وقف على منبر الأزهر ليقول جملته الشهيرة التي ذكرناها سابقا: إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية القبط، فأقول ليمت القبط وليحيا المسلمون أحرارا، يقول الحكيم البشرى معلقا على هذه العبارة: أنها تحمل أبلغ تعبير عن رفض ما يسمى بالحماية الإنجليزية للأقلية وعن الثقة بترابط المصريين جميعا، والذي ظهر بقوة أثناء انعقاد اللجنة العامة المشكلة لوضع دستور سنة 1923 (أحد أهم ثمرات ثورة 1919م)، ورفضهم لأن يتضمن الدستور أي نص على تمثيل نسبي للأقباط في البرلمان، كما ذكر زاهر رياض في كتابه "المسيحيون والقومية المصرية".

حين يحاصرنا الحاضر بما ننكره ونكرهه ونرفضه، سيكون علينا إذن أن نلوذ إلى الماضي النبيل نستروح روحه وأفكاره وأيامه عساها تكون منارا ودليلا. فالناس هم الناس والوطن هو الوطن والدين هو الدين.

كرين برينتن (1898-1968م) الأستاذ في هارفارد وصاحب الكتاب الأشهر "تشريح الثورة" أو
"دراسة تحليلية للثورات" (ترجمة سمير الجلبي)، قال: "قبل اشتعال أي ثورة تكون هناك عادة حالة من التوترات الاجتماعية والسياسية بسبب التدهور التدريجي لقيم المجتمع.. وإن معظم الثورات تنتهي عموما بالعودة إلى حيث بدأت، وتنشأ بعض الأفكار الجديدة ويتحول هيكل القوة قليلا وتطبق بعض الإصلاحات ويمحى أسوأ ما في النظام القديم، غير أن الوضع القائم يصبح مشابها للوضع في فترة ما قبل الثورة وتشرع الطبقة الحاكمة مرة أخرى بمسك القوة.. والتغيير الذي تطمح إليه الثورة في العادة يحدث بسبب التطورلا بسبب الثورة نفسها؛ لأن التغيير نتاج منظم وسلمي وتدريجي".

كلام برينين كان في الأساس يعكس رؤيته للثورات الأربع الكبرى التي اتخذها نماذج دراسة في الكتاب: الإنجليزية (1688) والأمريكية (1775) والفرنسية (1789) والروسية (1917). الكتاب على أي حال صدر عام 1938م، وفي عام 1964م أصدره مرة أخرى بتوسع في شرح فكرته الأساسية. وأفكار الكتاب مفتوحة على أستنتاجات عدة، لكننا هنا نقف عند وصفه "التدهور التدريجي لقيم المجتمع".
التعليقات (0)