كتاب عربي 21

سنة حبس انفرادي

شريف أيمن
1300x600
1300x600

تمر في هذه الأيام ذكرى اعتقال رئيس حزب مصر القوية ونائبه، الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والأستاذ محمد القصّاص، وكان قد سبقت اعتقالهما ولحقته؛ حملة اعتقالات طالت مرشح الرئاسة الفريق سامي عنان، رئيس أركان الجيش المصري الأسبق، والمستشار هشام جنينة، الضابط والقاضي ورئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الأسبق، واستمرت حملة اعتقالات معارضين للنظام إلى الآن، فرأس النظام المصري، رغم محدودية قدراته، يقظ ومتنبه جدا لما يمس أمنه الشخصي، أو مقعد الرئاسة الذي استولى عليه عبر بحور من الدماء، والدماء بطبعها لا تروي شاربها، بل تدفعه إلى سفك المزيد منها.

مر عام بأكمله، قبع فيه الرجل السبعيني في سجن انفرادي دون أي اعتبار لسنه وحالته الصحية. صحيح أن ما جرى مع المرشد السابق للجماعة الأستاذ عاكف، وما يجري مع القاضي الجليل محمود الخضيري، أعطى صورة عن مدى فُجور النظام وتجاوزاته التي لا حد لها، لكن قلوب المحبين تتعلق بالآمال، وإن كانت حبال الآمال بالية.

مر عام بأكمله على الرجل الذي مثّل أحد الجسور بين الإسلاميين والعلمانيين من جهة، وبين المسلمين والمسيحيين في مصر من جهة أخرى، وبين السنة والشيعة من جهة ثالثة، وهو إن كان لا يحتكر تلك الحالة، إلا أنه أحد تجلياتها المضيئة على المستوى الوطني، وهو مَعْقَد للوئام في زمن الصراع والحروب التي اشتعلت بالمنطقة، لما يحمله من ثقافة متجذرة في المنطقة مرتبطة بدينها، ولما يحمله من وعي سياسي فاق به أقرانه، ربما نختلف مع بعض تقديراته، ولا يمنعنا الاختلاف من تقدير الرجل في المجمل؛ إذ من خِفة العقل إهدار الكُل لأجل الجزء، كما لم يمنعه اختلافنا من إبداء المودّة لناقده وسماع النصيحة، وما شهدتُ أحدا أحاط نفسه بهذا الكم من الشباب ليعاونوه، وينزل على رأيهم.

 

ربما نختلف مع بعض تقديراته، ولا يمنعنا الاختلاف من تقدير الرجل في المجمل؛ إذ من خِفة العقل إهدار الكُل لأجل الجزء، كما لم يمنعه اختلافنا من إبداء المودّة لناقده وسماع النصيحة

امتاز أبو الفتوح بالقدرة على الفصل بين النظام السياسي والوطن، ولم يدَعْ مناسبة التقى فيها دبلوماسيين غربيين، إلا دعاهم إلى استثمار حكوماتهم في مصر، ابتغاء تخفيف معاناة الفقراء، وقد زاد النظام من إفقارهم دون اكتراث لاحتياجاتهم، ونزاهته السياسية دعت وزير خارجية دولة أوروبية ليوصي خَلَفه بالذهاب لعبد المنعم أبو الفتوح، إذا احتاج إلى الاستماع إلى وجهة نظر غير منحازة عمّا يحدث في مصر.

كذلك القصاص تم زجه بسجن العقرب سيئ السمعة، في زنزانة انفرادية لا يكلم أحدا، ولا يشارك أحدا الطعام، ولا أنيس له في حبسه، وإذا جنّ عليه الليل غيّبوا عنه الضوء، ليجمعوا على صاحب القلب النقي وحشة الوحدة مع وحشة السجن. كل من له علاقة بالشأن العام في مصر، يعلم قيمة الدور الذي كان يقدّمه القصاص لوطنه، وكل من يقترب من القصاص، يعرف أنه رافض للسفر خارج مصر حُبا منه لوطنه، لكن النظام السياسي يحتكر مفهوم محبة الوطن، ويقرنها بدعمه، وعندما قرر اعتقال القصاص، استولى على شقته الخاصة لعدة أسابيع، وفوجئت زوجته بعد دخول مسكنها باختفاء ذهبها كله، لتتأكد أوصاف عصابة الحكم وقطّاع الطرق على من يُفترض بهم حفظ الأمن.

 

نموذج للوصل بين كل التجمعات السياسية في مصر، وهذا ما يقلق النظام المستبد المعنيّ بانقسام المجتمع ونُخبته السياسية، ليظل هو المنفرد بالمشهد في ظل الانقسام بين الجميع

النُّظم الرشيدة لا تعتقل وتقتل وتحكم أحكاما شديدة القسوة على معارضيها، والنّظم الذكية، سواء كان هذا النظام مستبدا أو غير مستبد، تستفيد من نماذج الاعتدال المتواجدة بين رموز المجتمع المدني. والقصاص نموذج للوصل بين كل التجمعات السياسية في مصر، وهذا ما يقلق النظام المستبد المعنيّ بانقسام المجتمع ونُخبته السياسية، ليظل هو المنفرد بالمشهد في ظل الانقسام بين الجميع، وهذا هو دافع النظام الأحمق في التنكيل به ومنع الدواء عنه والأُنْس بالخلائق، ولو كان في النظام بعض رُشد لسعى إلى تعزيز المجتمع السياسي بحلقات وصل كالقصاص، ليجد معاونة أهلية في كل الشؤون، لكن انعدام الرشد صفة لصيقة بالاستبداد.

 

أحوال المعتقلين بمصر بشكل عام لم تبلغ هذا الحد من التردي، الذي يصل إلى حد تعمد الإهمال الطبي الذي ينتج عنه القتل، أو إخفائهم بصورة قسرية لمدد تصل إلى سنوات

بعد مرور سنة من الحبس الانفرادي لكليهما، بما يحمله هذا النوع من الاحتجاز من قهر وإضعاف، كانت مكافأة النظام منع الزيارة أيضا عنهما لعدة أيام، لتمنع المتنفّس الباقي الوحيد لهما، ولغيرهما من المعتقلين، وعندما تم السماح للأُسَر بالزيارة، كانت من خلف حاجز زجاجي، ولدقائق معدودة وبحضور أفراد أمن.

إن أحوال المعتقلين بمصر بشكل عام لم تبلغ هذا الحد من التردي، الذي يصل إلى حد تعمد الإهمال الطبي الذي ينتج عنه القتل، أو إخفائهم بصورة قسرية لمدد تصل إلى سنوات في حالات، وبعضهم يتم قتله فيما بعد، بزعم أنهم كانوا في اشتباكات مع الأمن، والجرائم التي يقوم بها نظام السيسي تزيد العداء والاحتقان، ولا تؤدي إلى استتباب الأمن كما يروّج أو يظن، ومهما بلغ بطشه فإن ذكرى إسقاط مبارك ستظل ماثلة في الأذهان، وتداعب مخيلة من أسقطوه، وقد كان مبارك أشد قوة منه، وإن لم يكن بنفس شراسته.

التعليقات (0)

خبر عاجل