كتاب عربي 21

عن نفاس الثورة السودانية والنفس الطويل

جعفر عباس
1300x600
1300x600

ليست الحكومة السودانية وحدها من يحاول إخافة الجماهير السودانية، التي تهتف يوميا بسقوطها، بل يمكن القول بأن هناك بين عامة الناس وبعض النخب، من يقول إن تحَمُّل حاكم ظالم أو فاسد، خير من نقلة تقود إلى ليبيا أو يمن أو سوريا جديدة، وهؤلاء هم المتشبعون بثقافة أن الجن الذي يعرفه الشخص سلفا، خير من الجن مجهول الهوية، (ولا علينا أنهم في الجنجنة سواء).

 

لحى من صنف مخصوص

ولأن الحكومة السودانية وليدة الانقلاب العسكري في 30 حزيران/ يونيو 1989، ظلت تزعم أن شعارها هو "الحاكمية لله"، (ولا علينا أنها حرصت على تشكيل برلمانات بمراسيم تفيد بأنها مسؤولة عن التشريع، وأعضاؤها من البشر وليسوا ملائكة)، فإنها وكلما وجدت نفسها محشورة في زاوية ضيقة تؤلب الناس عليها، استعانت بذوي لحى من الصنف الذي قال فيه الشاعر:

ألا ليت اللحى كانت حشيشا / لتعلفها خيول المسلمينا


فجاراه آخر:

ألا ليت اللحى كانت كنافة / فنُطعمها عيال المسلمينا

وشيوخ السلطان أولئك، الذين ليس لهم من المشيخة الحقة سوى الذقون، ما خذلوا الحكومة، فكلما أخفقت هتفوا بأنها ابتلاءات من عند الله، وأن الشكوى من أمر الله حرام، أما إذا طلبوا منهم التهليل لإنجاز ما، فإنهم يحدثون الناس عن البشريات التي أتت بها الحكومة (ولا عليهم أنهم ينسبون البلاء لله جل وعلا، والبشرى للبشر).

وكما حدث في كل بلد مسلم ضج أهله وضاقوا من ظلم الحكام ولصوصيتهم ودمويتهم، وتداعوا إلى الشوارع ناشدين الخلاص، تبارى شيوخ حكومة السودان لنهي الناس عن الخروج على الحاكم، دون أن يقولوا لهم ما إذا كان الرئيس ـ حاليا ـ عمر البشير وصحبه قد خرجوا بمجنزراتهم ودباباتهم في عام 1989 على حكومة أبي لهب وسيدته الأولى حمالة الحطب؟

 

إقرأ أيضا: الحكومة السودانية بين خياري النحر والانتحار

كشفت مواكب الغضب المطالبة برحيل حكومة المشير البشير إفلاس أهل الحكم التام وعجزهم، حتى عن حلو الكلام، وقد عابت الحكومة في بداية الأمر على المواطنين نفاد صبرهم لانعدام الخبز والدقيق والوقود بشقيه السائل والغازي وخواء خزائن البنوك من النقد السائل، ولما حلت المطالبة برحيل الحكومة محل الشكوى من الضائقة المعيشية، صار أقطاب الحكومة يشكون بدورهم من المظاهرات لم تعد مطلبية مشروعة بل تسلل إليها "ذوو أجندات سياسية".

وما البأس في نزول ذوي الأجندات السياسية الساحة المطالبة بتفكيك الحكومة؟ وما الغاية أصلا من وجود تنظيمات لها أجندتها السياسية؟ أليست الغاية هي الوصول إلى دست (صدر/منصب) الحكم؟ ألا تتباهى تلك الحكومة بأنها حاورت اثنين وثمانين حزبا سياسيا وحركة مسلحة للتوافق حول شكل وأسلوب الحكم؟ أم إنها تريد من جميع الأحزاب الحقيقية أن تحذو حذو تلك التي تمت فبركتها من أجل الحوار الافتراضي، بركوب قطار الحكم، ولكن في عربات الدرجة الرابعة؟

 

إقرأ أيضا: منظمو الاحتجاجات بالسودان يدعون لموكب غاضب نحو البرلمان

ولأن مواكب الغضب في البلاد متواصلة منذ شهرين، دون أن تنجح في غاية إسقاط الحكومة، فقد بات بعض أقطاب الحكم يستخفون بها، معتقدين بأنها "شدة وتزول"، وزبد سيذهب جفاء وتبقى الحكومة رغم أنوف الناس، وفي هذا الاعتقاد جهل بميكانيزمات الثورات بمدها وجزرها، وثورة كان مهرها الدم كما هو الحال في السودان، لا يمكن أن تخبو كليا، فقد تخفت حينا ويهدأ أوارها، ولكن الثورات الشعبية دائما ما تسلك طريقا ذا اتجاه واحد، يؤدي إلى الغاية المنشودة، حدد الشاعر الفذ أحمد فؤاد نجم تلك الغاية في قوله:

يا شغالين ومحرومين/ يا مسلسلين رجلين وراس/ خلاص، خلاص، مالكوش خلاص/ مفيش بديل مفيش مناص/ يا تجهزوا جيش الخلاص / يا تقولوا للعالم خلاص

ولكن وبالمقابل فإن الحكومة السودانية، وإن كانت عاجزة عن أن تقول للناس "احكموا علينا بأعمالنا"، وعن الاستنجاد بجماهير تهب عفويا لنصرتها، فإنها تملك مخالب وأنيابا من فولاذ، تستخدمها بفظاظة لترويع الخارجين عليها، بعد أن تأكد لها أن السجن والتشريد ما عادا أداتين ناجعتين للترويع والتطويع والتركيع، بمعنى أن تلك الحكومة قوية فقط، لأنها تحتكر أدوات القمع والعنف.

 

إقرأ أيضا: هكذا علقت الحكومة السودانية على المظاهرات التي تجتاح البلاد

ولكنها حتما وقطعا ليست أقوى من حكومة شاه إيران، وديكتاتور الفلبين فرديناند ماركوس، وكلاهما كان مؤيدا من الراعي الأكبر للأنظمة القمعية، الولايات المتحدة، ولا من الاتحاد السوفييتي الذي كانت فيه ترسانة نووية تكفي لتدمير كوكب الأرض سبع مرات، تحت تصرف قادته، ولما هبت الجماهير ضد أولئك القادة، تفتت إلى ذرات تمثلت في قيام عدد من الجمهوريات التي ضاق الأطلس المعاصر بها.

وتلمس في بعض المنتديات السودانية المطالبة برحيل الحكومة، أن هناك من عيل صبرهم ويرون أنهم سيّروا مئات المواكب، وهم يهتفون "تسقط بس#"، ويطالبون بالتصعيد المتمثل في العصيان المدني، وينسى هؤلاء أن السودان خَبِر الثورة الشعبية قصيرة النفس في أيلول (سبتمبر) من عام 2013، وأن جنين الثورة كي ينمو معافىً يجب أن يكمل نموه في رحم الشارع وألّا يأتي قيصريا، كي تكون هناك فترة نفاس تعقب قدوم الجنين يحظى فيها الأخير بالرعاية الشاملة من الأسرة؛ (وفترة نفاس المرأة السودانية أربعون يوما تبدأ منذ لحظة هبوط الجنين ولا شغل للنفساء خلال تلك الفترة سوى الاهتمام بنفسها ووليدها، فما بالك إذا كان المولود وطنا كاملا بملايين البشر).

باختصار: الثورات لا تعرف الـ "شورت كط"، أي الطريق المختصر، ولا بد أن تكمل دورتها حتى لا يأتي سيسي وينفرد بثمارها.

 

إقرأ أيضا: أكاديمي سوداني: الحركة الإسلامية لا تحكم والحل بيد الجيش

التعليقات (1)
حمدى مرجان
السبت، 16-02-2019 05:28 م
يوجد سيسي امريكي دائما وجاهز ، تحت الطلب ، فوق دبابة او داخلها ، ينتظر اشارة او مكالمة او زيارة السفير ، يا بؤس الشعوب العربية