قضايا وآراء

أيها القاضي العربي: الاستقالة أكرم

غازي دحمان
1300x600
1300x600

على مدى سنوات القسوة الثمان السابقة، اعتدنا على كل أنواع الألم. سقطت الكثير من الأوهام والاعتقادات، وانكشفت كل خبايا عصابات الحكم العربية والمؤسسات الكاريكاتورية التي يستخدمونها كأدوات لإخضاع البشر. لم يعد ثمّة ما هو مستور، كما لم يعد ثمّة استحياء من العار، ربما وحدهم الذين استشهدوا، نجوا من رؤية هذا الهوان.

انهيار مؤسسات القضاء في العالم العربي كان واحدة من الانهيارات المروعة، بل يمكن القول انكشاف انهيارها؛ لأنها لم تكن صالحة إلا في الخيال الذي يفترض أن القضاء هو العدل والحق، ذلك أنه كما الدبلوماسية والجيش والشرطة وأجهزة الأمن؛ يستحيل عبورها إلا لمن توافق عليه أجهزة العصابات العربية وتثق به، أي ما لم يكن ابن تلك الأجهزة.

 

انهيار مؤسسات القضاء في العالم العربي كان واحدة من الانهيارات المروعة، بل يمكن القول انكشاف انهيارها؛ لأنها لم تكن صالحة إلا في الخيال الذي يفترض أن القضاء هو العدل والحق

ورغم ذلك، ورغم معرفة أغلبنا بهذه الحقيقة المؤسفة، إلا أن عقولنا لم تستطع تصوّر أن تصل الأمور الى هذا الحد من الانحدار اللا أخلاقي. ثمّة حدود لمقدرة عقولنا على تصوّر مدى الانحطاط الذي يمكن أن يصل له أعضاء عصاباتنا الحاكمة، فعقولنا تخجل من اقتراب تلك المساحات القذرة، لكن يبدو أن عصابات الحكم العربية لا تخجل من التعري من كل أخلاق أمامنا.

"أنا خصيمك أمام الله يوم القيامة، أنا واللي معايا مظلومين وانت عارف ده كويس".. كانت تلك كلمات محمود الأحمدي، الشاب المصري الذي حكم بالإعدام مع ثمانية آخرين؛ للقاضي الذي لم يجد سوى كلمة ساذجة للرد على هذا الكلام: "بس انت اعترفت"! ولم يهتم القاضي بمعرفة الكيفية التي اعترف بها محمود ومن معه، مع أن أصغر طفل في حي شعبي فقير في مصر يعرف كيف تتم الاعترافات. ليس ذلك وحسب، فالأمر أصبح حديث أفلام السينما ومسلسلات التلفزيون وروايات الأدباء. ليس بالكهرباء وحدها التي يصعقون بها الأعضاء التناسلية للسجناء، ولكن بالاغتصاب أيضا، وبجلب زوجات وبنات المساجين واغتصابهن أمام عيون أزواجهن وآبائهن.

روى بعض الذين كتبت لهم الأقدار الخروج من سجون العصابات؛ حجم العذاب الذي يواجهه السجناء، وكيف أنهم يتمنون الموت ألف مرة كل يوم. البعض منهم بعد خروجه يفضل الصمت، إما شفقة بأهله وأحبته من سماع ألم قد لا يطيقون تحمله، أو لأن العذاب الذي رآه تعجز اللغة عن وصفه. بعضهم قال لو تعرف شعوبنا ماذا يحصل في السجون لأبنائها، لبكوا دما بدل الدموع، وكثير من نساء سوريا حمدن الله يوم سماع نبأ موت أبنائهن في السجون لمعرفتهن بأن بقاءهم أحياء في السجون يعني موتهم عشرات المرات.

 

كثير من نساء سوريا حمدن الله يوم سماع نبأ موت أبنائهن في السجون لمعرفتهن بأن بقاءهم أحياء في السجون يعني موتهم عشرات المرات

القضاة هم أكثر من يعرفون هذه الحقائق، في الغالب لا يستطيعون النظر في عيون الضحايا؛ لأنهم يعرفون تماما مدى ما يتعرضون له، وأكثر من ذلك، يعرفون أن أغلب قضايا الاغتيالات تقوم بها أجهزة أمنية لحسابات سلطوية معينة، وأحيانا يكون الهدف منها تغطية على سحق المعارضة، وفي أحيان كثيرة يكون وراءها صراع بين الأجهزة الأمنية نفسها؛ لأن الشخصية التي يجري اغتيالها تكون مقربة من جهة على حساب جهة أخرى، ويعرف القضاة أيضا أن من يصادق على الحكم بإعدامهم لا يمتّون للقضية موضع النظر لا من قريب ولا بعيد، لكن يجب إغلاق الملف وتحميل أحد ما المسؤولية.

بعد اشتعال ثورات الربيع العربي، انكشف القضاء بوصفه ذخرا استراتيجيا للعصابات العربية الحاكمة، ومجالا عزيزا على قلوبهم، فهم رغم كل علاّتهم، إلا أنهم يبدون حرصا هائلا على إدراج ما يقومون به من قذارات وأعمال منحطّة؛ تحت حكم القانون الذي لا يعترفون ببنوده إلا ساعة يريدون تكييف مواده لتتناسب مع جرائمهم، وما أسهل من مط قواعد القوانين لجعلها لحافا يغطي جرائم هذه العصابات.

 

كل المناصب التي يتولاها مدنيون في أنظمة العصابات ليست سوى مناصب وقتية، إلى حين إغراق صاحب المنصب بمسؤولية ارتكابات أجهزة العصابة

كل الفساد الذي يجري في العالم العربي، وكل الجرائم التي يتم ارتكابها، ستجدها في الغالب موثقة؛ هذه العصابات لا تترك شيئا للصدفة. هناك من يقبل أن يكون ممسحة لأوساخ هؤلاء مقابل الحصول على المكاسب، وهناك من "يشيل" هذه الجرائم، حتى إن كل المناصب التي يتولاها مدنيون في أنظمة العصابات ليست سوى مناصب وقتية، إلى حين إغراق صاحب المنصب بمسؤولية ارتكابات أجهزة العصابة.

أيها القضاة العرب، الاستقالة أكرم لكم من أن تكونوا شهود زور على قتل أولاد الناس، وأفضل ألف مرة من المشاركة بالجريمة، على الأقل أنتم تعرفتم في يوم ما على أصول الحكم والعدالة، ويجب ألا تستخدموها بطريقة غير صحيحة، وإذا لم تستطيعوا تطبيقها، فالأكرم ألا تحرفوها.

التعليقات (0)