كتاب عربي 21

فتنة رامي مالك (مقالان)

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
نِمْتْ وفي رأسي هذا العنوان "فتنة رامي مالك"، واستيقظت بعد ساعات على مشهد انفجار عربة الماكينات في قطار متحرك على رصيف في المحطة المركزية للسكة الحديد في قلب القاهرة. كان المشهد صادما للدرجة التي تربك المشاعر، وتجعل من أي كلام مجرد ثرثرة لن تنفع في إصلاح الحياة البائسة لملايين الفقراء الطيبين في بلدي التعيس..

مواطن يهرول كشعلة نار متحركة يبحث عن مغيث، وآخرون لم تكن لديهم فرصة للنجاة واحترقوا في أماكنهم، كأني أشاهد أحد أفلام الأدرينالين التي تبالغ في تصوير الكوارث ومناظر الفزع، وتمتمت في نفس بالعامية المصرية: خلاص وصلنا للمحطة الأخيرة وبيولعوا فينا بجاز، فالنظام ينفق بمفاخرة لبناء قلعته الإدارية المهيبة، ويستنكر إنفاق الأموال لصيانة وإصلاح السكة الحديد..

النظام ينفق ويتفاخر بإنجازاته (غير المرئية) في الحرب على الإرهاب في سيناء، ويرفض بشدة خوض أي حرب ضد الإهمال وضد الفساد، مع أن ضحايا الطرق، وضحايا حوادث السكة الحديد في مصر، تفوق بكثير ضحايا الإرهاب في سيناء، وهذا يعني أن مثل هذه الحوادث والانفجارات ليست "حوادث فردية يقع مثلها في كل بلاد العالم المتقدم"، لكنها جرائم إهمال وفساد واستهانة بحياة الركاب والمسافرين والعاملين. فقد قرأت قبل ايام عن حادث خروج قطار دولي فائق السرعة عن مساره، في نهاية رحلة من ألمانيا إلى سويسرا، وأخذتني الاستنتاجات لكارثة دموية مخيفة.. تخيلوا قطارا يتحرك بسرعة الصاروخ يخرج عن مساره ويصطدم بأي شيء؟ ماذا تكون النتيجة؟ وعرفت أن هذا ليس الحادث الأول من نوعه، لكنه الثاني على نفس الخط، وظللت أتتبع تفاصيل الخبر وأعيد قراءته وأنا غير مقتنع بوجود قتلى ولا أعداد كبيرة من المصابين، فقط إصابات خفيفة لعدد قليل من الركاب!! وهذه المفارقة لا تعني أن الله رحيم مع الألمان وقاس معنا، لكن تعني أن هناك أنظمة تهتم بالصيانة وتأمين حياة شعوبها، وأنظمة أخرى تستهين بشعوبها ولا تقدم لهم أية خدمات إلا خدمة الموت السريع، ولا تعترف بأي تنوع إلا تنوع طرق وأسباب تعذيب وقتل المواطنين.

 

 

النظام ينفق ويتفاخر بإنجازاته (غير المرئية) في الحرب على الإرهاب في سيناء، ويرفض بشدة خوض أي حرب ضد الإهمال وضد الفساد، مع أن ضحايا الطرق، وضحايا حوادث السكة الحديد في مصر، تفوق بكثير ضحايا الإرهاب

رحم الله ضحايا جريمة الإهمال، ورحم كل الطيبين على الأرض.

(2)
عندما شاهدت الفيديو المرعب لحادث سكة حديد مصر، توقفت عند مشهد الرجل الذي يهرول بلا وعي والنار تمسك به، فيهبط الدرج في أحد الأنفاق، ثم يسقط على الأرض، ثم ينهض ويعاود صعود الردج إلى الرصيف، وهو مشتعل تماما، كان الرجل يبدو لمن يشاهده: حائراً متردداً يتحرك بلا مقصد ولا اتجاه، لكنه في حقيقة الأمر كان يفتش بالوعي الكامن عن طريقة لا يعرفها للنجاة.. عن أحد ما.. عن وسيلة ما، عن مصادفة أو معجزة.

قلت لنفسي: أنا هذا الرجل.. كلنا هذا الرجل..

فنحن نكتوي بالنار ثم نتخبط ونهرول في اللااتجاه، ونصطدم ببعضنا، ونقع على الأرض ثم نقوم، وقد يصدم بعضنا الآخر أو يصيبه بأذى، لكن هذا كله غير مقصود.. المقصود هو النجاة، المقصود هو العثور على سبيل لإطفاء النيران التي اشتعلت في حياتنا.

هذا.. بينما كان المسؤول في الشرفة العلوية هادئاً يتحدث بنبرة وظيفية عن مكان الكاميرا، ويتعامل مع الحادث من غير أي فزع ولا مشاعر، بصرف النظر عن وجود فرصة أم لا لتحركه من أجل إنقاذ أحد.

 


هذا حالنا..

وهذه إنسانيتنا..

وهي كما أوضح المسؤول الكبير، تختلف عن إنسانية الألمان وحوادث قطاراتهم.

 

 

نحن نكتوي بالنار ثم نتخبط ونهرول في اللااتجاه، ونصطدم ببعضنا، ونقع على الأرض ثم نقوم، وقد يصدم بعضنا الآخر أو يصيبه بأذى، لكن هذا كله غير مقصود

 


(3)
إذا كان المقال الذي فكرت فيه ولم أكتبه عن "فتنة رامي مالك" فلماذا تركت العنوان وكتبت عن حادث القطار؟

لأنني لا أريد أن أهمل الصيانة، ولا أريد أن تفلت القضايا وتزيح بعضها البعض من غير فهم ولا حلول ولا فائدة باقية، لأنني لا أتبع عقلية الجري وراء الأخبار، فأسقط في أفخاخ الإلهاء وتشتيت العقل وتشويش الرؤية، ولأنني لا أحرث الزرع القديم قبل أن ينمو جريا وراء غرس جديد لا نرعاه حتى يثمر، ولأنني أيضا سأجرب معكم طريقة كتابة المقال بأنفسكم، أو استكمال المساحات الفارغة بإجابات تخص كل واحد فيكم، حتى نقلل من ممانعة الصدام بين رأيي ورأيك، لذلك أريدك أن تؤسس رأيك بنفسك، ولا تكتفي بقبول رأيي أو رفضه، من غير تفكير شاف..

لهذا، سأضع نقاط نقاش، وأسئلة مفتوحة، وارتكازات للتفكير، وكل منكم يحاول أن يستكمل الصورة التي تجعل تفكيره بعدُ أفضلَ وأشمل وأرقى من تفكيره قبلُ، وأظن أن هذا الأسلوب سيعفينا من سلبيات "عقدة الانهزام" في حوار مع الآخر؛ لأنها مكابرة خاطئة تحول دون تطوير فكر الفرد واقتناعه بما يمكن أن يقتنع به لو توصل إليه بنفسه، وليس عن طريق شخص آخر.

ولنبدأ:

1- فاز ممثل أمريكي من أصل مصري اسمه "رامي مالك" بأهم جائزة سينمائية في العالم، وقبلها فاز عن نفس الدور بـ17 جائزة من مهرجانات ولجان تحكيم مختلفة، بينها أهم جائزة للنقاد البريطانيين (بافتا)، وهذا يعني أن التقدير عن الأداء الفني للشخصية، مع تفهمنا لوجود اعتبارات وأهواء أخرى حسب كل لجنة تحكيم. لكن لما تم إعلان الجائزة، عبّر مصريون عن فرحهم، متعلقين بأصول الممثل، وكانت هذه الفرحة كافية لاشتعال النيران، حتى بين من لا يعرفون رامي من قبل، ومن لا يتابعون الأوسكار، ولم يشاهدوا الفيلم من الأساس.

 

 

لما تم إعلان الجائزة، عبّر مصريون عن فرحهم، متعلقين بأصول الممثل، وكانت هذه الفرحة كافية لاشتعال النيران، حتى بين من لا يعرفون رامي من قبل

2- تشكلت خلايا الاستقطاب المعد سلفاً، وبدأ كل فريق يحشد لوجهة نظره، فظهرت الثغرات: رامي قبطي، رامي قام بدور شخص شاذ ويروج للرذيلة، رامي ليس مصرياً ولا يعرف مصر ولم يزرها في حياته، رامي نال الجائزة كمؤامرة للغرب؛ مكافأة على قيامه بدور "فنان مثلي"، رامي قد يصبح وسيلة لدعم النظام في أمريكا؛ لأن السفارة المصرية في واشنطن بادرت بتهنئته و"بكره ييجي يقابل السيسي ويشيد بجهوده ويتبرع لصندوق تحيا مصر".. إلخ.

3- إذا بدأنا من القول الأخير، يقفز في ذهني سؤال: ولماذا لم نقفز فوق كل المآخذ السابقة ونفكر في كيفية استثمار جائزة رامي واهتمام الصحافة الدولية به، لنشر قضايانا؟ لماذا نحرق الفرص الذي تتاح أمامنا لتكوين نواة "لوبي عربي" مستقل ومؤثر في الغرب، كما فعل الصهاينة منذ عقود بعيدة؟ لأن رامي الذي لم يزر مصر؛ يتحدث باللهجة العامية المصرية إلى حد معقول لا يتناسب مع شخص لا يعرف بلده، ويحكي عن تربية ذات طابع صعيدي مصري في بيتهم، وله حوار يؤيد فيه ثورة يناير وحق الشباب في تغيير مجتمعهم في مصر، ونص الحوار متاح على موقع bbc لمن يريد أن يتأكد: هل رامي منصرف عن بلده الأم أم أنه مصري ولد وتربى في أمريكا، ويمكن لتعاطفه مع بلده الأم أن يكون مكسبا لقضايا حقوق الإنسان ومحاربة الطائفية ووقف القمع؟

4- لن أستفيض في الفارق بين شخصية الممثل في الواقع والشخصية التي يقدمها في فيلم، فلدينا نجوم قاموا بدور قتلة ومغتصبين ولم يهاجمهم أحد، بل لدينا من قام بدور الشيطان (يحيى الفخراني)، ثم نشرت أكبر صحيفة مصرية تهاجم فيه مالك للقيام بدور شاذ، وتمجّد فيه الفخراني الذي جسّد قبل أعوام قليلة دور الشيطان في مسلسل رمضاني!! لكن ما يستحق الإشارة؛ هي عقلية تلقي الفيلم باعتباره فيلما لترويج الشذوذ، وليس فيلما لسيرة شخص مختلف في مجتمع كان من الممكن أن يحاربه ويعاديه لاختلاف لونه وجنسيته. فالفيلم عن شاب يدعى "فاروق بلسارا"، ولد في تنزانيا وتعلم في الهند ثم هاجر الى بريطانيا، ليحقق طموحاته ويصبح من أشهر المغنين في العالم، برغم اختلافه عن المجتمع الإنجليزي، ليس في الميول الجنسية وفقط، ولكن الاختلاف بمعناه الثقافي والتربوي. والمؤشر المخيف بين إنسانيتنا وإنسانيتهم؛ هو تقبل المجتمع الإنجليزي المحافظ للمختلف، وممانعتنا لمن يختلف عن قيمنا وإنسانيتنا (السيسي استايل).

 

 

 

ما يستحق الإشارة؛ هي عقلية تلقي الفيلم باعتباره فيلما لترويج الشذوذ، وليس فيلما لسيرة شخص مختلف في مجتمع كان من الممكن أن يحاربه ويعاديه لاختلاف لونه وجنسيته


5- في مسألة المصرية وعدم المصرية: لماذا يفرح مصريون كثيرون لفوز ميسي أو كريستيانو أو أردوغان أو برشلونة أو ليفربول أو حصول قطر على كأس آسيا، ولا يقيسون ذلك بجواز السفر؟

6- وفي المسألة المصرية أيضا: لماذا انقسمنا على موضوع التجنيس في قطر؟ ولماذا صمم طرف على اعتبار "المعز" سوداني، نسبة لأصوله وليس لجنسيته الجديدة، بينما دافع آخرون عن حقه في اللعب باسم بلده الجديد من غير عيب، ثم انقلبت المواقف نفسها في حالة رامي فصار المدافعون مهاجمين والعكس؟! 

7- إذا كان البعض "يأنف" من الشذوذ "في فيلم"، فكيف "يألف" نفس الفعل "في دولة" مثل تركيا، ويرون بعقلانية (موسمية) أن ذلك "حرية فردية ليست من شأننا التدخل فيها"؟!

 

الانقسام هو الخطر الذي يستوجب أن نفكر فيه، لكي ننتبه لمعركتنا المصيرية، وهي معركة لا يعنينا فيها سلوك رامي مالك الفني ولا الشخصي، بل يعنينا مدى خدمته لقضايانا العادلة من عدمه

(المراد)

 


المصيبة ليست رامي مالك، ولا أردوغان، ولا قطر، ولا تركي آل شيخ، المصيبة هي الانقسام الخطير الذي يهدد كيان المجتمع المصري، ويضعفه إلى درجة غير مسبوقة، ليس في مواجهة الاحتلال الخارجي ولا ظلم الحكومات المحلية، لكن الضعف صار ذاتياً، بمعنى أن مجتمعنا خرج من دائرة الفعل غلى دائرة رد الفعل، ثم الآن إلى دائرة ردود الفعل المتشظية على رد الفعل، إذ يحدث فعل ما في العالم من حولنا فيعلق عليه مجموعة، فتنفجر تعليقات على تعليقات وردود فعل على ردود فعل، بحيث "يزيط المجتمع" على أي لعبة يرميها إعلام النظام وكتائبه الالكترونية أمام جوعى الكلام.

هذا الانقسام هو الخطر الذي يستوجب أن نفكر فيه، لكي ننتبه لمعركتنا المصيرية، وهي معركة لا يعنينا فيها سلوك رامي مالك الفني ولا الشخصي، بل يعنينا مدى خدمته لقضايانا العادلة من عدمه. وتذكروا أن إسرائيل لم ترجم تسيبي ليفني عندما جاهرت بتنويم كبار المسؤولين العرب في مخدع الخيانة للقضية الفلسطينية حتى الوصول إلى صفقة القرن.

أيها الأحباب.. اهدأوا واعتصموا وانتظموا، واستخدموا رامي مالك ومحمد صلاح ومنظمة العفو الدولية، وكيم كاردشيان لو أمكن، فالمهم هو عدالة القضية. وقديما قال رسولنا العظيم مبررا "الحيل الاستراتيجية": الحرب خدعة.

فاجعلوا حربكم مع أعدائكم وليس بينكم.

[email protected]

التعليقات (1)
الصعيدي المصري
الأربعاء، 27-02-2019 09:27 م
الانسانيةالمنتقاة ** لا احد يري ما حدث اليوم من كارثة الانقجار في محطة سكك حديد مصر وما نتج عنها من بشاعة احتراق ابرياء راحوا ضحايا للاهمال .. الا وشعر بهذا الكم المريع من الحزن المصحوب بالغضب والالم .. فإذا كان الارهاب بمعناه التقليدي يتسبب في قتل ضحايا وابرياء .. فإن ارهابا اخر ليس اقل اجراما وسفالة وهو ارهاب - الاهمال والفساد - يزيد ضحاياه عن ضحايا الارهاب التقليدي ربما بعشرات المرات .. مشاهد اليوم .. من احتراق الجثث ومحاولة الاجساد المشتعلة ايجاد قشة للتعلق باخر رمق قي الحياة بين وثوب وجري وقفز - هي ذاتها المشاهد واقربها التي رآها عموم المصريين في محرقة - رابعة العدوية والنهضة - رحم الله الجميع وتقبلهم من الشهداء لكني في النهاية لم امنع نفسي من التساؤل - لماذا ينتقي بعضهم المشاهد والاحداث والكوارث الانسانية دون غيرها - ليظهروا - مدي انسانيتهم ومشاعرهم الراقية والرقيقة - تجاه الضحايا .. يقينا - الضحايا ينتمون لتفس الفصيل من البشر وبعد ان بحثت في تاريخ مقالات هؤلاء المرهفين ذوي الاحساس .. وقت حدوث هذه المحارق .. بعد الانقلاب العسكري .. كان التساؤل .. فما الذي يصنع - شيزوفرينيا - المشاعر المرهفة ؟؟؟