مقالات مختارة

ورطة من صنع يدها

عثمان ميرغني
1300x600
1300x600

بعدما غيّرت دفة إستراتيجية الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي (بريكست) بشكل مفاجئ وفي اللحظات الأخيرة، وتحت سهام انتقادات غير مسبوقة لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، من حزبها وليس من أحزاب المعارضة، فإن السؤال المتكرر الآن هو: متى ستتم الإطاحة بها؟ وليس ما إذا كانت ستتم الإطاحة بها.

فبين عشية وضحاها، غيّرت ماي بشكل لافت من إستراتيجيتها لـ«بريكست» واستبعدت ضمناً سيناريو «حافة الهاوية»، أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون صفقة، ثم أعلنت أنها تريد البحث عن «نهج مشترك» مع زعيم المعارضة جيريمي كوربن، للخروج من الطريق المسدود الذي وصل إليه ملف «بريكست». 

كما سلمت ماي بأنها إذا فشلت هي وكوربن في التوصل لنهج مشترك فإنها ستدعم تصويتاً في البرلمان حول البدائل و«ستلتزم» بما سيتوافق عليه النواب.

هذا التغيير اللافت في نهج ماي هو «إعلان يأس» من قدرتها على تمرير خطتها لـ«بريكست» قبل 12 أبريل (نيسان) الحالي، بدعم أصوات المتشددين في حزبها أو من الحزب الديمقراطي الوحدوي الآيرلندي الذي يصوّت مع حكومتها في القرارات المهمة وفقاً لاتفاق أُبرم بين الحزبين بعدما خسر المحافظون أغلبيتهم البرلمانية في الانتخابات التي أُجريت عام 2017.

لكن هذا التغيير يجعل ماي في وضع ضعيف جداً داخل حزبها. ففي بريطانيا نادراً ما تنجح محاولات بناء توافق وطني بين الحزبين الكبيرين، خصوصاً إذا كانت هذه المحاولات لا تحظى بدعم قواعدهما الشعبية المتنافرة سياسياً. وفي اللحظة الراهنة يعارض الكثير من نواب حزب المحافظين وقواعده الشعبية مجرد فكرة التقارب مع جيريمي كوربن، ناهيك بالتعاون والتنسيق معه في ملف «بريكست» الذي تدور حوله حرب طاحنة داخل الحزب.

إنها إذن مقامرة جديدة من ماي لإنقاذ خطتها لـ«بريكست»، حتى وإن كانت على حساب تمرد داخلي كبير محتمل ضدها في حزبها. فالواقع أنها لم تعد تملك أي بدائل أخرى بعد أن وصلت إلى طريق مسدود تماماً ولم تنجح كل محاولاتها ومناوراتها لتمرير خطتها لـ«بريكست» التي توصلت إلى اتفاق بشأنها مع الاتحاد الأوروبي. كما أنها تعرف أن «بريكست» سيكون «الإرث السياسي» الوحيد لها، وهي لا تريد أن يكتب هذا الإرث كفشل ذريع، بل ربما أسوأ فشل لزعيم بريطاني في مواجهة أزمة كبرى ومصيرية.

لكن الأمور في بريطانيا في زمن «بريكست» ليست بالبساطة التي تبدو عليها. فما طرحته ماي بعد اجتماعها الماراثوني مع حكومتها الذي استمر أكثر من 7 ساعات أول من أمس، وانقسمت فيه الحكومة بين مؤيد ومعارض، هو «مجرد فكرة» لإنهاء الجمود الحالي، ونجاحها ليس مضموناً إن لم يكن مستبعداً تماماً في نظر البعض. ذلك أن ماي وكوربن يختلفان كثيراً في نهجهما لـ«بريكست» وفي خطوطهما الحمراء التي حدداها في التعامل مع الملف. فبينما يريد كوربن البقاء في اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي وضمان ممر لبريطانيا إلى السوق الموحدة، عارضت ماي هذا الأمر لأنه يتناقض مع خطوطها الحمراء التي حددتها في وقف حرية انتقال العمالة، وجعل بريطانيا حرة في توقيع اتفاقيات تجارة حرة مع كتل اقتصادية أخرى حول العالم.

أضف إلى ذلك أن ماي «عنيدة سياسياً» لأبعد درجة. ومنذ تولت مهام منصبها لم تقدم الكثير من الدلائل على أي مرونة سياسية. كما أنها سبق أن التقت كوربن قبل فترة بشأن «بريكست»، وبعد اللقاء خرج زعيم حزب العمال ليقول إن «بابها مفتوح... لكنّ عقلها مغلق» بسبب تمسكها الصارم بخطوطها الحمراء.

أيضاً لدى ماي حسابات سياسية معقدة من بينها إنقاذ «بريكست» لوضع حزبها على أرضية قوية خلال الانتخابات المحلية في مايو (أيار) المقبل، وإغلاق الملف الذي شغل بريطانيا وجعلها أضحوكة أوروبا، وأخيراً حماية حزبها من الانقسام جراء الشروخ العميقة التي أصابته من حربه الدامية بسبب الملف.

على الجانب الآخر كوربن أيضاً لديه حسابات سياسية معقدة. فعلى الرغم من أنه قال إنه سيكون «سعيداً جداً» بلقاء ماي، لكنه بالتأكيد يفكر ما إذا كان من مصلحته أن ينقذها حقاً من ورطتها السياسية العميقة داخل حكومتها، ووسط حزبها، وأمام الشعب الساخط من طريقة تعاملها مع أخطر أزمة تواجه البلاد منذ الحرب العالمية الثانية.


في الوقت ذاته لا يريد كوربن أن يبدو أمام الناس كأنه يقدم الحسابات السياسية الضيقة على مصلحة البلد الذي سيواجه كارثة إذا اضطر للخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي بطريقة فوضوية ومن غير اتفاق. كما أن كوربن قد يرى أن لديه مصلحة في أن تنفذ ماي «بريكست» وتتحمل مسؤولية أي نتائج سلبية تترتب عليه، لأنه لا يريد وراثة الملف إذا وصل إلى الحكم في أي انتخابات مبكرة لأنه يدرك تماماً أن حزبه لديه انقساماته الداخلية أيضاً حول «بريكست».

من ناحية أخرى فإن كوربن يتخوف من أنه إذا ساعد ماي في تمرير خطتها لـ«بريكست»، وبعدها استقالت كما وعدت، ثم حل محلها أحد مؤيدي «بريكست الخشن» مثل بوريس جونسون أو دومنيك راب، فإنه (أي كوربن) سيدفع ثمناً باهظاً وسط أنصاره من شباب حزب العمال الذين يكرهون «بريكست» ويريدون النكوص عنه عبر استفتاء شعبي آخر.

أضف إلى كل ذلك أن هناك شكوكاً عميقة متبادلة بين ماي وكوربن. ففور إعلان رئيسة الوزراء تغيير نهجها واستعدادها للتعاون مع كوربن، برزت نظرية مؤامرة تحذر حزب العمال من أن ماي تلعب بالورقة الأخيرة في يدها وهي التلويح بالتعاون مع حزب المعارضة من أجل إجبار نواب حزبها والحزب الديمقراطي الوحدوي على الهرولة إليها ودعم خطتها من دون أي تحفظات لمنع «بريكست ناعم» على هوى كوربن وأنصاره.

لم تكن هذه نظرية المؤامرة الوحيدة، إذ برزت نظرية أخرى مفادها أن ماي تدرك أنه من المستحيل التوصل لرؤية مشتركة خلال هذا الوقت القصير المتبقي على موعد الخروج الجديد في 12 أبريل، ولذلك فإنها مضطرة إلى الطلب من الاتحاد الأوروبي تأجيلاً طويلاً لـ«بريكست» حتى 2020. وهي لا تريد تحمّل مسؤولية ذلك وحدها بل تريد تحميل زعيم المعارضة المسؤولية معها.

وسط هذا الغموض، فإن الاتحاد الأوروبي يجد نفسه في وضع صعب. فهناك دول، مثل فرنسا وإسبانيا، باتت ترى «بريكست» بمثابة مرض يُضعف الجسد الأوروبي، ولذلك تريد خروج بريطانيا بأي طريقة في أسرع وقت لغلق هذا الملف المرير. لكنّ هناك دولاً أخرى مثل ألمانيا وجمهورية آيرلندا تدعو إلى «الصبر» مع بريطانيا ومنحها مهلة أطول قليلاً على أمل أن تتمكن من حلحلة الأمور.


الأسبوع الماضي قارن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، في مؤتمر صحافي بين البرلمان البريطاني وأبو الهول المصري، وقال: «إذا قارنّا أبو الهول وبريطانيا العظمى، فإن أبو الهول سيبدو كأنه كتاب مفتوح». 

لا شك أن بريطانيا أصبحت مثاراً للسخرية بسبب تخبط الطبقة السياسية إزاء «بريكست»، وهناك الكثيرون الذين يحمّلون ماي القسط الأكبر من المسؤولية بسبب الأسلوب الذي أدارت به الملف ويرون أنها صنعت ورطتها بيديها، وهي تدفع الثمن، ومعها بريطانيا كلها.

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية 

0
التعليقات (0)