قضايا وآراء

حكايتي.. كِدتُّ أنْ أكونَ أسيراً مثلهم!

منصور الخطابي
1300x600
1300x600
كنت طالباً في الثانوية حينها.. يومٌ من أيام عام 1987م.. يوم دوامٍ طبيعي في بداياته أو هكذا كان يبدو.. لكن مع مرور الوقت لاحظت حركة مكثفة للضباط والجنود في المدرسة.. فالمدارس حينها لم تكن سوى ثكنات عسكرية تتقاسم معها الإدارة العلمية جزءً بسيطاً من الصلاحيات!

صيحات من الضباط في الممرات تطالبنا بالخروج إلى الساحة.. "اجمع .. اجمع"! تجمعنا في طوابير، ثم طُلب منا التحرك، فنجد أنفسنا في كراديس خارج المدرسة نسير في اتجاه معسكرٍ ليس ببعيد!..

وصلنا إلى المعسكر.. وبدأ بعضنا بالتساؤل عن سبب وجودنا!.. بعض الجنود بدا غاضباً، والبعض الآخر ضاحكاً.. لكن لمحنا في عيون آخرين نظرةً ممزوجة بين الشفقة والتعاطف لحالتنا المزرية.. كلمات مشفرة فهمنا منها أن أخباراً سيئة تنتظرنا.. وسفراً إلى وجهة غير معلومةٍ قد يطول!.

شمسُ الظهيرة بدأت تلفح وجوهنا.. وبعد ساعات من الانتظار داخل المعسكر اقتربت منا شاحنات عسكرية كبيرة، وطلبوا منا الصعود..! اعترض بعضنا.. وتردد آخرون.. لكن بعد دقائق معدودة رضخنا للأمر الواقع بعدما هددوا أي ممانعٍ بحجب نتائج امتحاناته وضياع مستقبله!. ..

امتطينا السيارات.. وبعد قطع بضعة كيلومترات عرفنا أن الوجهة هي معسكر "تيجي"، على بعد قرابة مائة وعشرين كيلومتراً جنوب صبراتة! ما يقارب الثلاث ساعات أمضيناها في الطريق، فالسيارات تسير ببطء مع توقف مستمر.. تلفحنا شمس الظهيرة، وتحرق أجسادنا حرارة صفيح السيارات!..

في معسكر تيجي

وصلنا إلى المعسكر ووجدنا أحدهم في استقبالنا على طريقة التشريفات المعهودة!.. "اجمع يا تحفة في الساحة".. ساعات طوال وقوفاً لأخذ التمام.. يومٌ طويل كئيبٌ لم أشعر بمثله من قبل.. لكنه مرَّ في النهاية، وتوالت بضعة أيام.. وفي كل يوم يتفنن الجنود في تدريبنا "تعذيبنا" لما قالوا إنها اختبارات في القدرة على التحمل!..

انزع حذاء رجل واحدة.. وانزع القميص.. واستلق على بطنك تارة.. وعلى ظهرك تارة أخرى.. ليمشي ذلك الضابط بحذائه عليك ليتأكد بأن الإسفلت يلسع جلدك في حرارة الظهيرة، ويستمتع هو بالصراخ من حوله.. ثم لتنشغل أنت وزملاؤك بعد مرور الوقت بمداواة القروح!..

الهروب

بضعةُ أيامٍ كانت كفيلةً لي ولاثنين كانا معي لنعزم على الهروب من ذلك السور المرتفع المسيّج بالأسلاك الشائكة.. أحدهم دلّنا على ثغرة فيه ليكون لنا معها موعد!..

ليلة بلا قمر كان كل ما نحتاجه.. وشخص وعدنا بالمساعدة أثناء نوبة الحراسة.. يقوم بإشغال المكلف بتلك الثغرة لحظة خروجنا.. حين اقترب الموعد استيقظنا ولم نكن نائمين.. ثم توجهنا إلى المكان المعلوم ولم تكن سوى دقائق فإذ بنا خارج أسوار السجن!..

خارج السور

واصلنا المسير ليلاً مبتعدين عن الطريق.. كادت الكلاب الضالة أن تدل علينا.. لكن بعد ساعات متواصلة شعرنا بشيء من الاطمئنان.. غير أن أجسادنا أضناها التعب.. ومع خيوط الفجر الأولى هدأت الأمور وأخذتنا سنة من نوم تحت ظل شجرة تين صغيرة أكلنا منها، وسبحنا في بركة ماء نظيفة!..

نزلنا إلى القرية نبحث عن سيارة أجرة تقلنا لبيوتنا.. رفض الكثير نقلنا لأننا لا نملك أوراقاً ثبوتية "تعريفات".. لايحتاج الأمر إلى كثير عناء لأي أحد منهم أن يفهم أننا متسللون من أحد المعسكرات المجاورة!.. فآثروا عدم التورط في نقلنا.. لكن بعد محاولات عديدة تكللت إحداها بالنجاح مع بضعة جنيهات إضافية على "البيادجو" وصلنا بعدها إلى بيوتنا منتصف اليوم..

يوم جميل لم يكتمل

بعد وصولنا اتفقنا أن نكمل بقية اليوم على شاطئ البحر كي نزيل عن أجسادنا التعب وقرف الأيام الماضية.. أمضينا معظم المساء ثم رجعنا لبيوتنا..

أحد الرفاق وكان جاراً لي عاد إلي قبل أن أزيل الملح من جسدي ليخبرني بأن أباه أمره أن لا يبيت الليلة إلا في المعسكر!.. .. قلت له: انتظر سآتي معك. ثم ذهبنا إلى ثالثنا قاصدين المعسكر، مروراً بطرابلس بعد منتصف الليل، كدنا ليلتها أن نبيت في الشارع.. وتلك قصة أخرى..

العودة إلى المعسكر

وصلنا إلى المعسكر.. وترددنا في الطريقة التي ندخل منها.. لكن في الآخر عقدنا العزم على الدخول من البوابة، فدخلنا.. وبعد فترة من الانتظار والتوبيخ التحقنا بزملائنا..

الهروب الثاني

في تلك الأيام كان يجري التجهيز لنقل مجموعات داخل المعسكر إلى الجنوب.. أذكر أنني لأول مرة بدأت أسمع بأسماء مثل: "السارة.. فايا.. وادي الدوم.." من الجنود الموجودين في المعسكر الذي كان يضم أيضاً طلبة جامعات.. عرفنا حينها أنهم في انتظار نقلهم إلى هذه المناطق!.. تسودهم حالة من التذمر والإحباط من المصير المجهول!..

لم نمكث سوى بضعة أيام.. فالحديث في المعسكر كله كان يدور حول ضرورة إخلائه.. كان الضباط يدفعوننا بشكل غير مباشر للهروب.. لأن نقلهم للجنوب مرهون ببقائنا!..

بعد منتصف إحدى الليالي جاءنا أحدهم وأشار إلى بعضنا بأن الساعة قد حانت وبأن الحرس قد تم تخفيفه من مكان الهروب.. ساعة واحدة كانت كفيلة بإخراجنا من أسوار المعسكر خلسةً إلى غير رجعة!

التاريخ يعيد نفسه

مشاهد محفورةٌ في الذاكرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً استحضرتها حينما نظرت في أعين هؤلاء الضحايا و.. ولا أكتمكم .. فقد شعرتُ بالأسى لرؤيتهم على هذه الصورة.. كانت أعمارنا حينها بين "16-17" سنة، وكان يمكن أن يكون أحدنا أسيراً.. أو ميتاً في الصحراء القاحلة.. أو انتهى جسده في بطون السباع أو الطيور الجارحة لولا لطف الله..

أمور كثيرةٌ تغيرتْ وطوتها العقود الماضية.. لكن الشيء الذي بقي حاضراً لم يتغير.. هو هذا "المتمرد"!..

لاحقته الهزائم في وادي الدوم.. فوقع أسيراً بعد أن ضحّى بجنوده في معركة خاسرة!.. واليوم يفعل الشيء نفسه! .. لم تزده العقود الثلاثة إلا غباءً وغطرسة.. وإصراراً على الحكم ولو بزجِّ "الأطفال" في أتون حربٍ طاحنة!..
التعليقات (1)
يوسف
الإثنين، 15-04-2019 11:54 م
عظة وعبرة، وشهادة عن كثب