كتاب عربي 21

انظر في مرآتك.. قد تكون "سيسي"!

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
تتمتع المعارضة المصرية بنوع من الحرية المطلقة التي يتم تدعيمها من الجميع، ولا يسعى أي طرف للانتقاص منها، وأقصد بهذا النوع المتوفر لدرجة الإغراق: حرية الاختلاف فيما بينها. فكما نعرف، فإن ممارسة الاختلاف من المؤشرات المهمة في المجال الديموقراطي، لكن الإفراط كالتفريط؛ لأن الاختلاف اللاإرادي (على غرار التبول اللاإرادي) يعبر عن حالة مرضية تحتاج إلى علاج، برغم أنها ممارسة لحق طبيعي، وبالتالي فإن مراجعة الحالة لا تعني السعي لطمس تباينات المعارضة وتنميطها في قوالب متشابهة، بل تعني معالجة الإفراط في الممارسة بما يضر، كما تعني التعقل والتحكم في الاختلاف، بحيث يتحول إلى فعل إرادي عاقل؛ ينبع من إرادة المختلف، وليس نتيجة قصور في تحمل ضغوط أو عوامل من خارجه.

(2)
تابعت ردود الفعل المتباينة على دعوة "الحوار التأسيسي لإنقاذ مصر"، التي أطلقها المعارض المصري من الخارج الدكتور أيمن نور، والذي حرص على توجيه دعوته بالأسماء لأكثر من 120 شخصية؛ تمثل معظم الاتجاهات السياسية والفكرية. وكنت قد تلقيت الدعوة مثل الجميع (من غير تشاور مسبق)، لكن الدعوة نفسها توضح أن التشاور سيتم لاحقاً على مدى شهر كامل، بمعنى أن الدعوة هي بداية لنداء التشاور وطرق الأبوب، وليس نتيجة له، لكن من ملاهي ومأسي العمل السياسي في بلادنا حاليا؛ أننا نذهب إلى النتائج قبل أن نلعب المباريات، ونتسرع في التخمين قبل أن يبدأ الحدث، وبالتالي فقد أصبحنا نصنع الفشل في أذهاننا بأنفسنا، ثم ننتظر ما صنعناه على ناصية الدرب لنقول بغطرسة طبيب الفلاسفة: مش قلنا لكم هيفشل؟!

 

من ملاهي ومأسي العمل السياسي في بلادنا حاليا؛ أننا نذهب إلى النتائج قبل أن نلعب المباريات، ونتسرع في التخمين قبل أن يبدأ الحدث


(3)
قد يكون الدكتور نور نفسه تسرع في إطلاق دعوته من دون تمهيد لوجيستي يساعد على دعم الدعوة وتقبلها، خاصة وأننا نعيش الآن في وسط سياسي بيزنطي متربص ببعضه البعض، وقد يكون من الأفضل عدم تصدره للدعوة، بحيث نعتمد أسلوب إنكار الذات ليتقدم الموضوع على الأشخاص، فلا ندخل في دوامة تعييب الشخص أو تكسير المسعى بالإشارة إلى إقامته في الخارج، أو انفتاحه على الإخوان والإسلاميين، أو لأي سبب آخر مما يدخل في أمزجة الناس في النظر إلى بعضهم البعض..

لكن السؤال: من الذي جعل المعارضة من الخارج نقيصة؟ وما العيب في انفتاح شخصية ليبرالية على الإسلاميين واليساريين وكل التيارات؟

هذه النوعية من الأسئلة تقترب من ضريح المسكوت عنه في خطاب المعارضة "الضد/ إخوانية"، وهي معارضة تتسمى بأسماء لطيفة، من نوع الديمقراطية والمدنية والعلمانية والاشتراكية، وغيرها من التوصيفات التي تحرص عليها هذه المعارضة "المتطهرة".. ليس للعمل بها، ولكن لإثبات أنها "معارضة نقية" ضد الإخوان وضد الإسلاميين وضد الإرهابيين، وضد المعارضين في الخارج حتى لو كانوا مسيحيين أو يساريين أو مدنيين "على الآخر"، مثل عمرو واكد أو عمرو حمزاوي أو أي عمرو آخر، ولهذا نسمع الحجج السلطوية متعددة الصياغة التي تدور حول جوهر واحد: عيب ننشر غسيلنا الديكتاتوري خارج حدودنا ونسيء لسمعة مصر! والمؤسف أن هؤلاء صاروا يهاجمون حماس أكثر مما يهاجمون إسرائيل، وصارت المعارضة "الدولتجية المستنيرة" تصطف مع حملة مباخر إسرائيل ومروجي التطبيع، لكنها أبدا لن تنزلق للتطبيع مع مصريين يعارضون بصيغة أخرى أو يعتنقون أفكاراً واساليب أخرى!!

 

المؤسف أن هؤلاء صاروا يهاجمون حماس أكثر مما يهاجمون إسرائيل، وصارت المعارضة "الدولتجية المستنيرة" تصطف مع حملة مباخر إسرائيل ومروجي التطبيع، لكنها أبدا لن تنزلق للتطبيع مع مصريين يعارضون بصيغة أخرى

(4)
منذ شهور لم أقابل الدكتور نور، ولم نتحاور سياسيا حتى بالتليفون، ولم أشارك في أي نقاشات سياسية مع أي طرف في الداخل أو الخارج.. باستثناء مقالاتي المنشورة، والقليل من التعليقات التلفزيونية التي حرصت على تجنبها في الفترة الأخيرة، لكنني تجاوبت مع دعوة الحوار الوطني فور إرسالها لي، فأنا ممن يستبشرون خيراً بفضيلة الحوار (أياً كان نوعه وأيا كانت أطرافه)، وأعتبره من أهم علامات الديمقراطية، وليس لدي حساسيات من مكان إطلاق الحوار ولا من المشاركين فيه، طالما التزم الجميع بقواعد الحوار المتعارف عليها. وكنت أنوي تأييد دعوة الحوار بصرف النظر عن الداعي وعن المكان، مؤمنا بأن الاستجابة لفضيلة للحوار هي التي تنضج الظروف والشروط لاستمراره وتصحيحه وتنظيفه وإنجاحه.

 

قد أتفق نظريا مع أن إسطنبول ليست المكان الملائم لحوار وطني تجميعي من هذا النوع، حيث تحولت "المدينة المنفتحة" إلى مكان سيئ السمعة في أذهان المشتغلين بالسياسة في مصر، نتيجة تأثرهم بحملات التلويث التي يشنها إعلام الكتائب الأمنية، حتى أصبحت إسطنبول أخطر على مصر من تل أبيب، وهذا ما لمسته في بعض الأراء الصادمة التي صدرت عن بعض السياسين ممن يفترض بهم الوعي والفهم. وبما أن آراء هؤلاء الموقرين خرجت إلى العلن، فمن الواجب أن أنبه وأُذَكّر وأوقظ أصحاب هذه الآراء؛ التي حادت عن الصواب واستسهلت تخوين المعارضة حسب الجغرافيا وحسب مكان الإقامة، أو التي عارضت الحوار لذاته بينما تتسمى بالديمقراطية، والتي اختزلت الوطن في تيارات سياسية أيا كانت عظمة وعدالة توجهاتها؛ لأن ألف باء سياسة يعني عدم التمييز بين المواطنين على أساس عقائدهم وأفكارهم، فلا يمكن التسامح مع تيار مدني/ اشتراكي/ ديمقراطي/ دستوري يرفض الحوار، حتى لو كان مع مواطن سيساوي، يمكنك أن ترفض الحوار مع أحزاب أو تنظيمات أو مؤسسات أمنية، لكن من العار أن ترفض الحوار مع مواطنين لا يفرضون عليك أجندة حزبية مسبقة.

 

يمكنك أن ترفض الحوار مع أحزاب أو تنظيمات أو مؤسسات أمنية، لكن من العار أن ترفض الحوار مع مواطنين لا يفرضون عليك أجندة حزبية مسبقة


(5)
من الملاحظات التي دونتها في دفاتري منذ شهور طويلة وأتحرج الكتابة فيها؛ ملاحظة تخص الكثير من المثقفين ونشطاء التيارات المدنية التي أميل إليها نفسياً وعقلياً، لكنني أنقدها سياسياً بأشد من نقدي لبقية فصائل وتنويعات العمل السياسي. ومكمن الحرج عندي أن هذه التيارات لم تعد تنطلق في عدائها للخارج (أو لحزمة التيارات الإسلامية) من منطلقات فكرية ودستورية، ولا حتى من قناعات شخصية، لكن يبدو أنها أصيبت بمتلازمة استوكهولم، بمعنى أنها تتصرف تحت تأثير القهر، ويترسب في وعيها الباطن رغبة دونية لإرضاء الطغمة القامعة وتفادي عصا أجهزتها الأمنية. ومن خلال هذه المناورة النفسية الخفية، تمارس هذه المعارضة المستلبة نوعاً من "الطاعة اللامباشرة" والخضوع المستتر للنظام. فعندما يشجع النظام السفر إلى تركيا تتكاثر شركات السياحة في الطرقات وتتدفق عائلات الطبقة الوسطى لزيارة إسطنبول وطرابزون، ويتفاخرون بالصور، وعندما تخاصم تركيا مع النظام تتحول السياحة إلى سياسة، ويتم تدنيس المصري الذي يتحرك أو يعيش في بلدان لا يرضى عنها النظام القامع.

وبالطبع، لا يمكن لمواطن يؤمن بالدستور وحقوق المواطنة أن يميز بين المصريين في الخارج والداخل، ولا يمكن أن يرتبهم حسب أماكن إقامتهم. وهنا تبرز الأسئلة المدنية والديمقراطية والدستورية التي تكشف زيف الأسماء والتوصيفات التي تتزين بها تيارات؛ كان الأجدر بها أن تستقل عن رؤية النظام، فلا تتخندق معه ولا تحسب بحساباته، حتى لا نحتار كل يوم في تعاملنا مع حماس ومع لبنان ومع سوريا، ومع قطر ومع تركيا ومع أوروبا، ومع أولادنا أيضا، بل ومع أنفسنا.

(6)
كانت لدي خطة لمناقشة ونقد دعوة الدكتور نور، ليس بغرض تقويضها، ولكن من أجل دعم قيمة الحوار المفتقدة في حياتنا. قد لا يكون توقيت الطرح مناسبا، وقد لا تكون الطريقة المتعجلة هي الأفضل، وقد يكون التشكيل الهندسي الحريص على تنوع الأسماء يعكس رغبة في التجميع السريع، ربما لا يحتملها الواقع العملي، وقد تكون مرحلة التمهيد اللوجيستي (غير المعلن) ضرورة لتقليص "عصاب الخلاف" الذي يجعل الرفض هو رد الفعل التلقائي، والمضمون في أي مبادرة تحلم بمعارضة جماعية للنظام، بدلا من معارضة بعضنا البعض. وقد يكون للصفات التي سبقت معظم الأسماء أثر سلبي في تكريس الهوية الحزبية والفكرية للمدعوين، بينما القصد أن يلتقي هؤلاء كمصريين مخلصين يفكرون ويعملون معاً من أجل بلدهم. وأثناء العمل تنصهر الهويات الحزبية ليس لتنمحي، ولكن لتتخلص من بعض الرواسب السيئة، وتتجدد وتكتسب مرونة وانفتاحا على المرحلة، وعلى التنويعات الأخرى.

 

لا ينبغي أن يتساهل أحد في تحقير مصري بسبب مكان إقامته، ولا يجب أن يتجاسر أحد على المطالبة بحظر معارض المصريين من خارج الحدود، ولا إعطاء مزية للعمل أو المعارضة في الداخل، حتى لا نشارك الأنظمة القمعية في سلوكها

(7)
على كل حال، أرجو من الإخوة الأعزاء العقلاء في كل التيارات قراءة هذه السطور بروح إيجابية، فهي ليست هجوما على الرافضين، ولا دفاعا عن الدعوة بذاتها، لكنها تذكير بقواعد العمل المدني الدستوري الديمقراطي، حيث لا ينبغي أن يتساهل أحد في تحقير مصري بسبب مكان إقامته، ولا يجب أن يتجاسر أحد على المطالبة بحظر معارض المصريين من خارج الحدود، ولا إعطاء مزية للعمل أو المعارضة في الداخل، حتى لا نشارك الأنظمة القمعية في سلوكها، فهي لا تحترم المصريين في الخارج ولا تحتاج منهم إلا تحويلاتهم.. أعطونا أموالكم، أما معارضتكم فاحتفظوا بها لأنفسكم!

(8)
مصر تحتاج إلى حوار مجتمعي واسع يشمل الجميع، وهو يحدث بالفعل، لكنه يحدث بلا تنظيم، ولا منتج فكري وسياسي. وأعتقد أن دعوة الدكتور نور يمكن أن تنجح إذا تمكنت من تأسيس آلية لرعاية الحوار ومخرجاته وفهم مساحات التأثير التي تستهدفها الدعوة، كما أنها يمكن أن تنجح أكثر إذا حفزت الرافضين على تجنب الحوار مع المجموعات المحظورة لديهم، والبدء فورا في حوار مع من يرتضون، حتى لو كان حوارا مع الأمن الوطني، بشرط أن تعلن مجموعات الحوار كلها عن موضوعات الحوار وأطرافه والمخرجات المستهدفة؛ لضمان تأسيس الدولة الدستورية العصرية، وهي الدولة التي لن تكون دعوات الحوار فيها مستهجنة، ولن تكون فيها تفرقة وتمييز بين المصري في الخارج والمصري في الداخل.

(9)
كل عام وأنتم بخير، آملاً أن تحمل بركة شهر رمضان نسائم الحرية الخير وتفسح في النفوس والعقول والدور مجالا للحوار الودي؛ الذي يلملم الجهد المهدور ويجمع الشمل المنثور.

[email protected]

التعليقات (3)
حمدى مرجان
الخميس، 02-05-2019 01:01 م
بوس الواوا للفنان محمد فوزى اغنية يقول مطلعها معكوسا ذهب الفجر وطلع الليل ، وتسهر ما تسميه معارضة او نخبة خارج نفسها ، تبحث عن صيت ، فهم ان جاعوا كما نراهم الان غنوا ، بعظمة الزعيم ، ومنجزات الزعيم ،وضرورة الزعيم ، اما اذا شبعوا كما كانوا سابقا زنزوا علي خراب العش بالعنتريات و بهذا وهذه ولعل وتلك وحيثما وهالبت المعارضة هذه مصنوعة بايد ومصنعة من النفاق والكذب ، الكل يبحث عن منصبب ، الكل يبحث عن سلامته ، الكل يبحث عن ( ضل حيط ) ، انهم جميعا يتحججون لانه يعرف ان وضع اسمه علي بيان ولو فيس بوكى سيقع تحت طائلة الانضمام لجماعة محظورة انهم الفوا المعارضة التي انتجتهم وتربوا في خيرها وعزها او كما قال ( جورج اسحاق ) تعال عارض من هنا وتحمل ما نتحمل من اكل البط
zezy
الأربعاء، 01-05-2019 08:41 م
ما تتعبش نفسك المصريين هيعيشوا ويموتوا بهايم
الطاسة ضايعة
الأربعاء، 01-05-2019 08:18 م
لا بد لأيتغيير أن يكون الشعب حاملا لمبادئ وبديهيات التفكير وأفكار التغيير، بداية ما هي مكونات الشعب قبل النظر للمكونات الحزبية، وهنا نحتاج إما لأحزاب ترضى بمكونات الشعب وإما أن يكون الشعب قابلا بمكوناته أثناء مطالبته السيسي وهنا فعلا يجب أن ننظر للمرأة فلعنا نحن السيسي ولا ندري، الذي أراه طبيخ عاطفي، وإفرح ياسيسي فلقد جبرنا بخاطرك.