صحافة دولية

فورين أفيرز: كيف سيتعافى السودان من عقود الديكتاتورية؟

فورين أفيرز: البشير هو الأكثر غموضا من بين الديكتاتوريين الذين أطيح بهم خلال ثالث موجة احتجاج أفريقية- أ ف ب
فورين أفيرز: البشير هو الأكثر غموضا من بين الديكتاتوريين الذين أطيح بهم خلال ثالث موجة احتجاج أفريقية- أ ف ب

نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالا لأستاذ العلوم السياسية زخاريا مامفيلي، يتحدث فيه عن التطورات الأخيرة في السودان عقب الإطاحة برئيسه عمر حسن البشير.

 

ويقول مامفيلي في مقاله، الذي ترجمته "عربي21"، إنه منذ أن بدأ التحرك في السودان، الذي أصبح يعرف بـ"انتفاضة السودان"، التي اشتعلت في كانون الأول/ ديسمبر 2018، لم يسمع البشير أو ير إلا قليلا، وهو الذي حكم البلاد بالحديد لحوالي 30 عاما. 

 

ويشير الكاتب إلى أنه "في 11 نيسان/ أبريل، وبعد أربعة أشهر من المظاهرات، التي تزايد حجمها، تمت الإطاحة به في انقلاب أبيض، وفي البداية لم يقل النظام شيئا عن مكان وجوده، مع أن التقارير قالت إنه ربما كان محتجزا في القصر الرئاسي في الخرطوم، وانتشرت شائعات على أن البشير تفاوض حول خروجه مع قائد الانقلاب وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف؛ لضمان عدم إرساله إلى محكمة الجنايات الدولية". 

 

ويستدرك مامفيلي بأنه "أيا كانت الضمانات التي استطاع البشير الحصول عليها، فإنها لم تدم طويلا: فتحت ضغط المتظاهرين قام الجيش بإزالة ابن عوف بعد يوم واحد في السلطة، واستبدله بالفريق عبد الفتاح عبد الرحمن برهان".

 

ويلفت الكاتب إلى أن "النظام الجديد قام، بحسب التقارير، بنقل البشير إلى سجن كوبر، وهو سجن عالي الحراسة في الخرطوم، وهو السجن الذي اعتقل وعذب فيه آلاف المعتقلين السياسيين خلال حكم البشير، ومن غير المعلوم عما إذا كانت إقامته هناك ستصل إلى الفترات التي كان يسجن فيها معارضيه، فمستقبل البشير، كما هو مستقبل البلد بشكل عام، يبقى رهن الغموض".

 

ويجد مامفيلي أن "الغموض الذي يحيط بمصير البشير منذ الإطاحة به كان متوقعا، فقد بقي البشير الأكثر غموضا من بين الديكتاتوريين الذين أطيح بهم خلال ثالث موجة احتجاج أفريقية، التي بدأت في حدود 2008، ووصلت إلى ذروتها في عام 2011، واكتسبت قوة متجددة على مدى العامين الماضيين، وهو ليس مثل رئيس الجزائر السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي أطيح به قبل البشير بأسابيع قليلة، والذي سيبقى لعقود مرتبطا به في مخيلة الشعب، لم يلهم البشير الولاء في السودان، ولم ينظر إليه المجتمع الدولي على أنه زعيم مهم، مع أنه تمسك بالحكم لفترة طويلة".

 

ويذهب الكاتب إلى أن "غموض البشير كان بشكل جزئي مصطنع، فمثلا يتحدث البشير اللغة الإنجليزية بطلاقة، لكنه لم يمنح مقابلات للصحف الناطقة باللغة الإنجليزية، وكونه غامضا ساعده على حكم بلد معروف بالانقسامات، وساعده تناقضه الأيديولوجي على إنشاء شراكات انتهازية للبقاء في السلطة، مستغلا أزمات القيادة الأوسع والقومية في السودان". 

 

ويقول مامفيلي إن "إرثه في بلد لم يبق فيه إلا القليل من الزعماء الذين لم يلطخوا تاريخهم بالارتباط بالبشير يطرح تساؤلات عن كيفية التعامل مع هذه الشخصية المبغوضة بشكل عام، وسط عدم التأكد والفرح بمغادرته؛ لأن ما يحصل للبشير له تداعيات على مستقبل السودان نفسه".

 

ويقول الباحث إن ما يتوفر من معلومات عن البشير هو أنه ولد لعائلة بدوية مزارعة بسيطة في شمال السودان النهري، قبل دخوله للجيش، والتدرج في الرتب حتى وصل إلى رتبة قائد، لكن أكثر من هذا فلا يعرف شيء عن حياته الشخصية، وما هو معروف أنه من الصعب التوفيق بينه وبين شخصيته العامة، فلم يكن لديه اهتمام بالمظاهر كبقية ديكتاتوريي أفريقيا، بالرغم من أنه كان رئيسا على نظام فاسد، تقول الإشاعات إنه جمع من خلاله مليارات الدولارات ثروة شخصية". 

 

ويستدرك مامفيلي بأنه "بالرغم من سمعته بكونه قاتلا لا يرحم، فهو رجل عائلة (وليس لديه أطفال، لكنه ساعد في تربية أبناء زوجته الثانية)، ومع أنه حكم السودان لثلاثين عاما، إلا أن قليلا من السودانيين يبكون على ذهابه، وليس حتى هؤلاء الذين استفادوا خلال حكمه، مثل الجيش والنخبة الاقتصادية في البلد".

 

ويفيد الكاتب بأن "البشير لم يكن هو الحاكم العسكري الأول الذي تتم الإطاحة به في انتفاضة شعبية، فالرئيس جعفر النميري عانى من المصير ذاته عام 1985، وتنقل النميري خلال 14 سنة من حكمه بين الاشتراكية والقومية العربية، قبل أن يستقر على الإسلام، حيث احتضن الإخوان المسلمين وطبق الشريعة، وهو ما أدى إلى اجتجاجات واسعة، وأعاد إشعال الحرب في جنوب السودان، التي أدت في النهاية إلى قسم البلد إلى شطرين".

 

وينوه مامفيلي إلى أن "البشير، مثل النميري، وصل إلى الحكم من الجيش مباشرة، فبعد أربع سنوات من الحكم المدني قام البشير بالاستيلاء على الحكم عام 1989، حيث انحاز إلى الزعيم الشعبوي الإسلامي حسن الترابي، وكان المراقبون في الداخل والخارج يعتقدون أن الترابي المراوغ هو الرجل الذي يحرك البشير، وتحت حكمه تحرك السودان للقضاء على التعددية الدينية والإثنية عن طريق برنامج تعريب وأسلمة". 

 

ويستدرك الباحث بأن "علاقات الترابي الجيدة مع الزعماء الإسلاميين في الخارج، وبينهم أسامة بن لادن، حولت السودان إلى دولة مارقة دولياـ وتفاوض البشير مع المسؤولين الأمريكيين سرا، فحذروه من الاستمرار في دعمه للتطرف الإسلامي، فقام بالانفصال عن الترابي واعتقله عام 2000".

 

ويشير مامفيلي إلى أن "الضوء انتقل بعدها ليس للبشير، بل إلى وزير الخارجية السابق والنائب الأول للرئيس علي عثمان طه، وهو قائد مدني في الحركة الإسلامية، انحاز إلى البشير عندما انشق الأخير عن الترابي، وكان المراقبون يعدون طه هو (السلطة الحقيقية في الخرطوم)، وكان مسؤولا عن الإشراف على حملة مكافحة التمرد في دارفور، الذي أدى الى مقتل 200 ألف مدني، وقام طه بالتفاوض مع جون غارانغ عام 2005 لإنهاء الحرب الأهلية في الجنوب، وفي حفل السلام قام طه، وليس البشير، بتوقيع الاتفاقية نيابة عن الشمال".

 

ويلفت الكاتب إلى أنه "مع ذلك، فإن محكمة الجنايات الدولية لم تصدر مذكرة اعتقال إلا للبشير وحده عام 2009 و2010؛ لقيامه بـ(جرائم إبادة ضد الإنسانية وجرائم حرب)، وبالرغم من مركزيته بالنسبة لدارفور، إلا أنه لم يتم توجيه تهمة لطه، وكانت هناك شائعات بين الفاعلين الإقليميين بأن طه كان يتحرك ليحل محل البشير، بحسب ما نشرته (ويكيليكس)، لكن البشير قام باستبداله في تعديل حكومي عام 2013، وانفصال الجنوب ومعه التهديد العسكري والسياسي حسنا وضع البشير، ولم يواجه أي تحد آخر لسلطته معظم بقية العقد، حتى أدت حركة الاحتجاج إلى الإطاحة به".

 

ويقول مامفيلي إنه "وسط المواجهة اليوم بين الحكام العسكريين الذين لا يرغبون في تسليم السلطة، والمحتجين الذين يدفعون نحو فترة انتقالية مدنية، فإن السؤال عما يجب فعله بالبشير يعد حرفا للانتباه، لكن إهمال الموضوع قد يؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد، فقد فشل السودان مرتين من قبل في ترجمة ثورة شعبية إلى ديمقراطية دائمة، وكانت المشكلة الرئيسية دائما هي عدم تمكن البلد من صياغة هوية وطنية شاملة، التي استغلت النخبة السياسية في غيابها الانقسامات الدينية والإثنية لتأمين حكمها، وحتى اليوم فإن حركة الاحتجاج، بالرغم من كونها عريضة ومتنوعة، إلا أنها تجد صعوبة في طرح رؤية وطنية أبعد من استبدال الحكم العسكري بحكومة مدنية".

 

ويرى الباحث أن "كيفية تصرف النظام مع البشير قد يخدم أو يقوض توليد شعور وطني بوجود هدف، ودعا العديد من المراقبين الدوليين النظام إلى تسليم البشير لمحكمة الجنايات الدولية ليخضع للمحاكمة، لكن مثل هذه المحاكمات عادة غير فعالة، ومشهد البشير وهو يحاول تعطيل الجهود للكشف عن أخطاء نظامه لن يخدم مأساة بلده، بالإضافة إلى أن المحاكمة ستكون محدودة بدارفور، التي وقعت قبل أكثر من عقد، ولن تتعرض لتصرفات النظام في مناطق أخرى، مثل جبال النوبة، حيث قام النظام بقصف القرويين من الجو، أو جنوب كوردوفان موقع مكافحة وحشية لتمرد على مدى عدة سنوات، ولا حتى الخرطوم، حيث قتل المئات في موجة سابقة من الاحتجاجات في عامي 2012 و 2013، كما أن المحاكمة ستختزل أزمات السودان المتداخلة على باب رجل واحد". 

 

وينوه مامفيلي إلى أن "بعض المراقبين المطلعين، مثل أليكس وال ومحمود ممداني، يرون بأن المحكمة قد تخفق في إدانة البشير، كما يمكن للسودان أن يحاكم البشير في محكمة محلية، لكن أيا من الحلين لن يكون مرضيا للمحتجين، الذين يطالبون بمحاكمة كاملة لرموز النظام والمستفيدين المتعددين منه".

 

ويقول الكاتب: "عندما أطيح بالنميري فإنه أبعد إلى مصر، ويمكن أيضا أن يبعد البشير إلى بلد أجنبي، هو وكبار المسؤولين، وغالبا ما كان يأمل هو والأشخاص الآخرون داخل نظامه في الأيام الأولى من التحول بذلك، وكانت أوغندا أول بلد تفكر في فتح بابها للبشير، لكنها مشاركة في محكمة الجنايات الدولية، وغالبا ما قد يجد البشير ملجأ له في السعودية أو دولة خليجية أخرى، لن تكون مضطرة لتسليمه، وسيكون الحكام العسكريون الحاليون سعيدين بإخراجه من البلد، لكن المتظاهرين في الغالب لن يقبلوا أي مقاربة لا تقوم على محاسبة البشير وغيره". 

 

ويختم مامفيلي مقاله بالقول: "إن بقي البشير في السودان دون محاكمة، وكان يمكن منحه وغيره من المرتبطين بالنظام درجة من الحصانة، كجزء من عملية حقيقة ومصالحة شبيهة بما حصل في جنوب أفريقيا، فإن هذه المقاربة هي الأصعب، لكنها الأفضل من ناحية الإثمار، فلجنة حقيقة ومصالحة ستفتح ملفات كثيرة، وتكشف أضرارا تسبب بها نظام البشير، لكنها ستكون الطريق التي ستؤدي بالسودانيين إلى التوصل إلى هوية وطنية تجمعهم".

 

لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)

التعليقات (0)