كتاب عربي 21

وطنيون" ويعبدون الأصنام

طارق أوشن
1300x600
1300x600

يرفض بلال أمر سيده أمية بن خلف بجلد عمار بن ياسر ويرمي بالسوط أرضا.
يعيد عمار السوط إلى يده طالبا منه إنقاذ نفسه مما ينتظره من عذاب.
عمار: افعلها.. أبق على نفسك.
أبو سفيان: أرأيتم كيف دب الفساد في مكة حتى وصل إلى عبيدنا. حتى لو كنت إنسانا له آلهة فلن تكون غير آلهة سادتك.
أمية: إنني أملك روحك وجسدك منذ اشتريتك يا بلال. سأعالجك.

تحت الشمس الحارقة وعلى رمال الصحراء الملتهبة تتوالى السياط على جسد بلال قبل أن يمعن أمية في تعذيبه بصخرة كبيرة وضعها رجاله على جسد "العبد الأسود" الذي ما كان يحق له الإسلام إلا بإذن مالكه.

بلال: أحد.. الله أحد.
أمية: من هو الأقوى؟ تكلم! سيدك أم ربك الأحد؟
بلال: أحد.. أحد.. الله أحد..

كان هذا مشهدا من فيلم (الرسالة ـ 1976) للمخرج الراحل مصطفى العقاد، وغيره من المشاهد تكررت في سير المسلمين الأوائل، ومن أتى بعدهم، كما حفل بها التراث الإسلامي المروي على لسان دعاة وعلماء كان عائض القرني واحدا منهم قبل أن تصله "الرسالة" ويعلن "بكل شجاعة وبكل صراحة" أنه يدين بدين "سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان" بديلا عن دين محمد بن عبد الله، فما الصحوة إلا "طيش شباب"، وما الشعوب إلا عبيد للأسياد/الأصنام.

 

 

انتهت أصوات ملأت الدنيا وشغلت الناس لعقود وهي تقدم وصفتها لدخول الجنة وإصلاح أحوال العباد والبلاد، وصارت اليوم "وطنية" تعبد الأصنام.

 


على نفس كرسي ضيوف برنامج "الليوان"، عولج عائض القرني والمغامسي والكلباني والعريفي والسديس وكثير من "الدعاة" بل "المعارضين" أيضا، مما ألم بهم زمن الصحوة الداعمة لحكم العائلة أو زمن الثورة على الحكام، من إفساد للعقيدة السمحة الوسطية المعتدلة المنفتحة على العالم التي جاء بها "الشاب الطموح المحدث الملهم"، ووصل الجميع إلى أن أجمل القناعات "أن الوطن خط أحمر والقيادة خط أحمر وإيلي ما له وطن ليس له وجود وليس له كرامة وليس لديه شرف ولا أرض"، وليس هناك أمن من اقتصار الحديث عن "الخروف، ذلك الحيوان اللطيف الجميل الذي له قرنان وأربعة أرجل ويجمل كلما كان عمره صغيرا". 

إلى هذا العبث انتهت أصوات ملأت الدنيا وشغلت الناس لعقود وهي تقدم وصفتها لدخول الجنة وإصلاح أحوال العباد والبلاد، وصارت اليوم "وطنية" تعبد الأصنام.

تماثيل الرؤساء 


كانت أولى خطوات النظام السوري بعد استعادة سيطرته على كثيرا من المواقع التي فقدها خلال سنوات الحرب السبعة إعادة تأهيل وبناء تماثيل حافظ الأسد التي كانت الهدف الأول للمتظاهرين إبان الأيام الأولى للحراك. تأليه الحاكم ومن خلاله النظام أولوية في أجندة المستبدين ولن يتأتى ذلك إلا بالهيمنة البصرية على الفضاء العام في شكل تماثيل وصور وظهور دائم على شاشات التلفاز وعلى أمواج الإذاعات. 

وبينما كان الاعتقاد سائدا أن "الثورات العربية" قد خلقت مناخا جديدا يقطع مع ممارسات عبادة شخصية الحاكم، فقد بدا أن "الثورة المضادة" توفقت في إرجاع عقارب الساعة إلى عقود غابرة كان فيها الرئيس أو الملك "أب الأمة" العطوف الذي لا يجوز الخروج عنه في الشرع كما في كل القوانين الوضعية التي ابتغت السمو بالبلدان العربية إلى "التحديث". إعادة التماثيل سابقة للإعمار وبناؤها سابق لبناء المؤسسات الكفيلة بحفظ الحقوق.

 

كان شعار الثورة الفرنسية أن اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين. يبدو أن رجال الحكم لا يتعظون.


في الجزائر، وبينما كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة عاجزا عن تسيير أمور الدولة، وكانت الحناجر تنادي بخفوت بظهور الرئيس ومخاطبة شعبه الذي "اختاره" رئيسا، لم تجد الدائرة المقربة منه وأجهزته الحكومية تكريم صوره من طرف رؤساء المجالس "المنتخبة" بحضور رئيس الوزراء الحالي الموكل له تسيير فترة ما بعد العهد البوتفليقي. وحين احتفلت الجزائر بذكرى استقلالها خرجت صورة الرئيس العاجز لتجوب الشوارع ولتهلل لها الجموع تحت حراسة أمنية مشددة خوفا من "مجهول". لم يكن الأمر غريبا فالحملة الانتخابية التي انتهت ببوتفليقة رئيسا لعهدة رابعة كان بطلها صور ومراسيل يتحدثون بوحي "معبود" الجماهير.

 

مصر.. قصة القائد الملهم

أما في مصر ما بعد الانقلاب العسكري لعبد الفتاح السيسي، فقد نسجت الحكايات عن "القائد الملهم" الذي خرج من بطن أمه ساجدا قبل أن يكون امتدادا لصلاح الدين الأيوبي ولمحمد الفاتح وخالد بن الوليد، ووصل الأمر إلى تشبيهه بالنبي موسى عليه السلام باعتباره أحد اثنين ابتعثهما الله ليكون الدين له وما يعلم جنود ربك إلا هو. 

ولم يسلم من "عبادة الصنم" أطفال المدارس وهم يكلمون، كما طلب منهم، صورة مجسمة "للقائد" لعلها تجد لمشاكلهم وهموم آبائهم والوطن حلولا. ولأن العرب في المصائب أخوة متحدون فالأصنام تتناسل بلدا عن بلد تحميها قوانين جنائية تجرم انتقادا تكيفه النصوص إساءة وإهانة للرئيس أو الملك أو الأمير. الأصنام في بلداننا محصنة بالقوانين وبالجهل الذي زرعته وأسلافه في العقول.

هيبة الدولة خط أحمر، وفي هيبتها تكمن هيبة القائد ولو كان حكمه اغتصابا للسلطة يفرضه العسكر جيلا عن جيل أو ميراثا فرضته حيوانات منوية ولم يكن يوما اختيارا حرا للشعوب. وفي كلتا الحالتين تبريرات بالضرورة وبالمخاطر المحدقة أو فتاوى من الشيوخ بوجوب طاعة الحاكم والنزول عند ما يقره من خطط أو أحكام.

كان شعار الثورة الفرنسية أن اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين. يبدو أن رجال الحكم لا يتعظون.

التعليقات (0)