قضايا وآراء

ماذا بعد تصدّع كتلة الجبهة الشعبية بالبرلمان التونسي؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

منذ يومين (أي في الثامن والعشرين من هذا الشهر) كان الحدث السياسي الأبرز في تونس هو تقديم تسعة نواب من كتلة الجبهة الشعبية استقالاتهم لمكتب مجلس النواب. ورغم أنّ الاستقالات لم تشمل نواب حزب العمال والتيار الشعبي، فإن ذلك لا يمنع حلّ الكتلة لعدم بلوغها النصاب القانوني (أي سبعة نواب كما ينصّ على ذلك الفصل 34 من الباب الخامس من النظام الداخلي لمجلس النواب).

وتكمن أهمية هذا الحدث أساسا في أنه يعاكس التوجه العام داخل الحقل السياسي التونسي؛ الذي يشهد محاولات لتجميع القوى السياسية (الحاكمة والمعارضة) في إطار جبهات انتخابية أو جبهات سياسية (من مثل ائتلاف الكرامة التي تجمع قوى مستقلة بالإضافة إلى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، ومبادرة تونس أخرى التي تجمع حزب الحراك، وحركة وفاء مع جملة من القوى المستقلة، ومن مثل انصهار حزب المبادرة بزعامة كمال مرجان، الرجل القوي في نظام المخلوع، في حركة تحيا تونس بزعامة رئيس الحكومة يوسف الشاهد).

 

الحدث يعاكس التوجه العام داخل الحقل السياسي التونسي؛ الذي يشهد محاولات لتجميع القوى السياسية (الحاكمة والمعارضة) في إطار جبهات انتخابية أو جبهات سياسية

منذ تأسيسها في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، أكّد الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية حمة الهمامي، زعيم حزب العمال ("الشيوعي" سابقا)، على أن الجبهة هي مبادرة "سياسية وليست انتخابية". ولكنّ تصدّع كتلتها البرلمانية، وما سبقه من صراعات على منصب الناطق الرسمي وعلى مرشح الجبهة للانتخابات الرئاسية القادمة.. كل ذلك جاء ليؤكد أن الرهانات الانتخابية والطموحات الشخصية والمكبوتات الزعاماتية قد تكون أكثر مركزية مما يريد الجبهويون الإقرار به.

يعلم المطّلعون على الشأن السياسي التونسي أن الجبهة الشعبية هي ائتلاف يضم قوى يسارية (قوى ماركسية وقومية تُعرف أنفسها بالانتماء إلى العائلة الديمقراطية التقدمية). وقد كانت الجبهة عند التأسيس تضم عشرة أحزاب، بالإضافة إلى شخصيات مستقلة وجمعيات مدنية. ومن المعلوم أيضا أنّ الجبهة تضم فصيلَين يساريين أساسييَّن هما مركز الثقل فيها، أي حزب العمّال وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد (المعروف اختصارا بالوطد الموحّد). ولا تمتلك باقي الأحزاب الجبهوية، بحكم محدودية قاعدتها الانتخابية وعمقها الشعبي، إلا أن تتموضع في خدمة استراتيجيات حزب العمال أو الوطد الموحّد، وذلك عندما يصبح العمل في استراتيجية جبهوية موحدة أمرا متعذرا. وليست الاستقالات الأخيرة من الكتلة البرلمانية للجبهة الشعبية إلا تعبيرا عن بلوغ الأزمة بين حزبي العمّال والوطد الموحّد؛ مرحلة قد تؤدي إلى تفكك الجبهة ذاتها.

 

هل يمكن أن يستمر أي عمل سياسي مشترك داخل الجبهة، بعد أن بلغت الصراعات بين مكوّناتها حد العجز عن الاستمرار في كتلة برلمانية واحدة؟

إن السؤال المنطقي الذي يطرحه تفكك الكتلة البرلمانية للجبهة هو التالي: هل يمكن أن يستمر أي عمل سياسي مشترك داخل الجبهة، بعد أن بلغت الصراعات بين مكوّناتها حد العجز عن الاستمرار في كتلة برلمانية واحدة؟ ولكن الإجابة عن هذا السؤال، قد تكون محُوجة إلى فهم الأسباب العميقة التي أدت إلى هذا المأزق المنذر بتفكك الجبهة ذاتها، مع ما يعنيه ذلك التفكك (عند البعض) من إضعاف لمسار الانتقال الديمقراطي، وضرب لمشروع سياسي يُعرّف نفسه باعتباره طريقا ثالثا، وبديلا عن المشروع الليبرالي بنسختيه الدينية والعلمانية، أو ما يعنيه عند آخرين من إمكانية ولادة يسار جديد يتجاوز الكرّاسات الأيدولوجية لسبعينيات القرن الماضي، ويتحرك خارج الهاجس الهوياتي الذي يجد صياغته الأمثل في منطق التناقض الرئيس (مع الرجعية الدينية) والتناقض الثانوي (مع الرجعية البرجوازية).

وبصرف النظر عن صحة ما تقوله الجبهة من كونها طريقا ثالثا أو كونها ليست ضد طرف سياسي بعينه (أي إصرارها على التناقض المطلق مع حركة النهضة دون مكوّنات منظومة الحكم)، وبصرف النظر عن تقاطعات الجبهة مع ورثة التجمع (منذ التحالف بين حزبي العمال والوطد الموحد وبين نداء تونس (وريث التجمع المنحل) في إطار ما سُمّي بـ"جبهة الإنقاذ الوطني في تونس" سنة 2013، مرورا بتأييد حزب الوطد الموحد لترشيح السيد قائد السبسي، رجل المنظومة القديمة، بل اتباع الجبهة كلها سياسة "قطع الطريق" لمنع الرئيس المنتهية ولايته، محمد منصف المرزوقي، من الفوز في انتخابات 2014، ووصولا إلى التحالف الصريح بين الجبهة ورئيس الجمهورية في ملفّي "الجهاز السري" والاغتيالات السياسية. بصرف النظر عن ذلك كله، فإن تفكك الكتلة النيابية للجبهة يعكس بلوغ الصراعات الداخلية بين مكوّناتها؛ مرحلة يصعب إدارتها بصورة توافقية تمنع انتهاء التجربة الجبهوية برمّتها.

وقد يكون من السطحية أن نختزل الخلاف بين حزبي العمال والوطد الموحّد في المرشح الجبهوي للانتخابات الرئاسية (فالكل يعلم أنه لا حظوظ لمرشح الجبهة في بلوغ المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ولن يتغير هذا الواقع سواء أكان المرشح هو السيد حمة الهمامي زعيم حزب العمال، أم السيد منجي الرحوي القيادي في الوطد الموحد)، وهو ما يعني أن الخلاف يتعلق بقضيتين؛ أهم إحداهما انتخابية صرفة والثانية سياسية. أما القضية الانتخابية، فهي دخول الانتخابات التشريعية في قوائم جبهوية موحدة. وهو أمر يعني توحّد الأصوات اليسارية خلف أسماء توافقية بصورة تقوي حظوظها في الفوز، ولكنه يعني أيضا تنازل الأحزاب الكبرى (أي حزبي العمال والوطد الموحّد) عن رئاسة القوائم لبعض الأحزاب اليسارية الصغرى، وما يعنيه ذلك من تغذية للصراعات الحزبية الداخلية. وأما القضية السياسية، فهي ترتبط بالعلاقة بمكونات العائلة الديمقراطية، خاصة منها تلك التي تمارس الحكم.

 

من عجزوا عن حل خلافاتهم ودّيا داخل ائتلافهم السياسي، سيكونون أعجز عن إدارة ذلك الاختلاف بعد بلوغه مرحلة الحرب المعلنة

فالوطد الموحّد لم يخف يوما اقترابه من بعض مكوّنات منظومة الحكم (بل دعمها كما وقع في انتخابات 2014، عندما دعم ترشح السيد الباجي قائد السبسي للرئاسة)، كما لم تدخر العائلة الوطدية (بأغلب تشكيلاتها الحزبية وأذرعها الجمعياتية والإعلامية والنقابية) جهدا في إضعاف حركة النهضة، دعما لسياسات الاحتواء والتدجين التي تمارسها النواة الصلبة للحكم تجاه الحركة. وهو ما يعني أن الوطد الموحد قد يتجه إلى التقارب مع باقي مكوّنات "العائلة الديمقراطية"، بحيث قد يكون جزءا من منظومة الحكم بعدد انتخابات أواخر هذا العام. أما حزب العمال، فمن المرجح أن يحافظ على موقفه الرافض للاندراج في منظومة الحكم؛ لأنه يرى نفسه بديلا للمنظومة كلها لا شريكا لها في سياسات تتعارض جذريا مع مواقفه الاقتصادية والاجتماعية، على عكس العائلة الوطدية التي كانت وراء تضخم الإشكالات الهوياتية والارتداد شبه النسقي عن محاور الصراع الطبقي.

ختاما، فإن تصدّع الكتلة النيابية للجبهة الشعبية هو مبتدأ سيكون خبره هو تفكك الجبهة ذاتها، ولو بعد حين. فمن عجزوا عن حل خلافاتهم ودّيا داخل ائتلافهم السياسي، سيكونون أعجز عن إدارة ذلك الاختلاف بعد بلوغه مرحلة الحرب المعلنة. وليست التصريحات والتصريحات المضادة التي ما زال يطلقها قادة حزب العمال والوطد الموحد في وسائل الإعلام؛ إلا دليلا على بلوغ الخلاف مرحلة القطيعة السياسية، وهي قطيعة ستتحول إلى قطيعة تنظيمية بالضرورة.

ومهما كانت تأثيرات تصدع كتلة الجبهة الشعبية على المشهد التونسي العام (بحكم تغلغل الوطد وحزب العمال في كل مفاصل الدولة، وما يعنيه ذلك من خروج الصراع من الدائرة السياسية إلى دوائر النقابات والجمعيات وغيرها)، من المؤكد أنّ هذا الحدث يحمل في طياته ممكنات متناقضة، أي ممكنات تحررية وأخرى انتكاسية ارتدادية. فالقطيعة بين حزبي العمال والوطد الموحد قد تدفع بالطرفين، أو على الأقل بأحدهمان إلى مراجعة أدائه السياسي ما بعد الثورة، ولكن تلك المراجعة قد تؤدي إلى نتائج غير متوقعة، وقد لا تخدم المشروع المواطني الاجتماعي بالضرورة، خاصة عندما يقوم بها عقل مسكون بالإشكال الهوياتي، وما يتفرع عنه من مواقف وسياسات هي أبعد ما تكون عن استحقاقات الثورة التي يزعم الجبهويون أنهم ما وُجدوا إلا لخدمتها.

التعليقات (1)
رضا عزيز
الإثنين، 03-06-2019 05:12 ص
لا مفرّ الجبهة من الاعتراف بالواقع الجديد لمكوّنات المجتمع التونسي خارج هذه الرؤية لست إلا ميّتا يمشي على قدمين كل واحدة في اتّجاه