قضايا وآراء

الحقيقة في مكان آخر.. سلام ما بعده سلام!

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
في تشرين الأول/ أكتوبر 2013، نشرت جريدة نيويورك تايمز خريطة مرسومة على صفحاتها مع مقال بعنوان: "تصور وإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط"، لكاتبة مهتمة بالشأن المشرقي والإسلامي، ولها إسهامات كثيرة في ذلك، اسمها "روبين رايت". وهي لها أيضا كتاب مشهور بعنوان "الغضب والتمرد في العالم الإسلامي". وكانت قد أصدرت عام 2008 كتابا بعنوان "أحلام وظلال"؛ توقعت فيه أن تكون هناك مساحة أكبر من التغيير والتمكين في المنطقة، وتوقعت ثورات الربيع العربي عام 2011.

رايت قدمت في هذا المقال تصورها الافتراضي لما تتوقعه للشرق الأوسط.. سوريا ينتظر لها التقسيم إلى دولة علوية؛ تمتد بشريط ضيق من دمشق إلى الساحل مرورا بحمص وحماة، ودولة كردية في الشمال الشرقي تنضم لاحقا إلى كردستان العراق، ودولة سنية في الوسط تنضم إلى الدولة السنية التي ستتكون في وسط العراق.

الحديث هنا ليس عن سوريا والعراق فقط، ولكن أيضا عن السعودية واليمن.. السعودية ستقسم إلى خمس دول، واليمن لدولتين.. ليبيا لثلاث (برقة وفزان وطرابلس).

روبين قالت أيضا إن هناك عوامل أخرى قد تحفظ الشرق الأوسط من التفتت، مثل الحكومة الرشيدة، والخدمات الجيدة، والأمن، والعدالة، والوظائف، والتقسيم العادل للموارد المشتركةـ أو ربما الاتحاد ضد عدو مشترك. لكن هذه العوامل تبدو بعيدة في العالم العربي (هكذا قالت..)، لكنها قالت جملة خطيرة للغاية وتفسر لنا ما يحدث الآن، وهي: كلما طال أمد الحرب في سوريا كلما زادت فرص عدم الاستقرار والمخاطر في المنطقة برمتها.

وأذكر أنه في عام 2005 نشرت جريدة الشرق الأوسط التي تصدر من لندن؛ مقالا لتوماس فريدمان بعنوان "الشرق الأوسط: تعالوا نعريه قبل إعادة ترسيمه"، قال فيه: حدد المؤرخ ديفيد فرومكين كيف تكوّن الشرق الأوسط بقوله: في عام 1922 استطاع تشرشل أن يرسم خريطة الشرق الأوسط العربي بخطوط تلائم مصالح الإدارات البريطانية المدنية والعسكرية، وسيفاخر لورنس العرب بعد ذلك بأنه، وبالاشتراك مع تشرشل وشخص آخر، رسموا خريطة الشرق الأوسط على وجبة العشاء. والآن، وبعد عقود من ذلك التاريخ، فإن السؤال هو: هل أهل الشرق الأوسط راغبين أو قادرين على الاستمرار في العيش وفق ذلك التصور؟

يطرح هذا السؤال نفسه اليوم وعلى نحو أكثر حدة هذه المرة، فما يحدث الآن في سوريا والعراق وفلسطين ليس سوى "لحظة" تشرشلية أخرى. فتضاريس هذه الأقاليم الشرق الأوسطية المحورية يعاد تكوينها حاليا، ولكن لا يحدث ذلك بفعل إمبريالى من أعلى، وليس متوقعا أن يكون كذلك.. إنه يحدث بتأثير نزاعات تشتعل من تحت، وتضطرم في صدور السوريين والفلسطينيين والعراقيين بعد الشرق الأوسط القديم الذي شكلته بريطانيا.. هل نصل إلى شرق أوسط جديد تشكله أمريكا؟ وما هو دور روسيا في هذه الحالة؟ أيضا ما هو دور القوى الصاعدة في المنطقة كإيران وتركيا؟ كلها أسئلة مفتوحة على كل التوقعات.. هذا ما قاله وقتها فريدمان.

توماس فريدمان ليس هو الشخص المهم في هذه الموضوعات الكبيرة، فهو في النهاية مجرد صحفى يتابع وينقل. الشخص المهم هنا والأكثر أهمية بمراحل المراحل هو العالم والمؤرخ الذي ذكر اسمه فريدمان في المقال (ديفيد فرومكين)، فمن هو ديفيد فرومكين؟ وما هي أهمية ما يكتبه في كتبه ويقوله في حواراته؟ ديفيد فرومكين المولود في عام 1932م؛ كاتب وقانوني ومؤرخ أكاديمي أمريكي تخرج في جامعة شيكاغو، وهو الآن أستاذ في التاريخ والعلاقات الدولية والقانون في جامعة بوسطن. اشتهر فرومكين في الأوساط السياسية والأكاديمية بعد نشر كتابه: "سلام ينهي كل سلام" الذي قدم فيه رؤية تحليلية شاملة للآثار التي تركتها الحرب العالمية الأولى على الوضع الدولي بشكل عام، وعلى المشرق العربي وشعوبه بشكل خاص، من خلال تكوين ما أصبح يسمى الشرق الأوسط.

يتحدث فرومكين في الكتاب عن سلام عملت بريطانيا على إرسائه فور انتهاء الحرب العالمية الأولى؛ عبر مفاوضات مع فرنسا وروسيا القيصرية قبيل انفجار الثورة الشيوعية.. الجميع اتفقوا وقتها على تقاسم تركة السلطنة العثمانية، في ما عرف في التاريخ السياسي بمعاهدة سايكس بيكو، والتي تحكمت بريطانيا بتنفيذ نتائجها بما يتناسب مع مصالحها، وفي ضوء ميزان القوى الذي يميل لصالحها في مواجهة فرنسا؛ من خلال إقامة دول ورسم حدود في وجه تحرك القوى الكبرى الأخرى. وقد حكم نظرتها ومساوماتها تأمين حماية المصالح البريطانية في الهند، فأعطت وعد بلفور وساعدت على قيام إسرائيل لحماية قناة السويس وفصل الشرق العربي عن غربه، وأقامت إمارة شرق الأردن (الأمير عبد الله بن الحسين 1923) كحاجز يفصل إسرائيل عن الكتلة البشرية العربية الكبيرة في العراق، حماية لإسرائيل، وأسست مملكة العراق (فيصل الأول 1921) وألحقت كردستان بها، ومنعت روسيا من احتلال إسطنبول ومضيقي الدردنيل والبسفور؛ لمنعها من الوصول إلى المتوسط ومنه إلى الأحمر فبحر العرب والمحيط الهندي، وسيطرت على إيران، واحتلت أفغانستان لتقطع الطريق البري على تمدد روسيا القيصرية نحو الهند، وأسست إمارات في الخليج العربي، ووفرت غطاء لتوسع آل سعود في الجزيرة العربية. وبذلك تكون بريطانيا قد أنتجت بنية جغرافية سياسية تنطوى على تناقض في المصالح والحقوق، وتنذر بصراعات قومية وقبلية ودينية ومذهبية لا تنتهي (لاحظ أن كل هذه الملل والأعراق كانت مندمجة في الكيان العثماني).

أهم ما قاله فرومكين كان عن إسرائيل، فقال (ببساطة مذهلة) إن إسرائيل كيان ليس له من مقومات الدول إلا الاسم!! هكذا.. وسبق أن كتب "شلومو ساند" له ثلاثية هامة في هذا المعنى "اختراع الشعب اليهودي" و"اختراع أرض إسرائيل" و"كيف لم أعد يهوديا"، وكلها مترجمة إلى العربية عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية. وشلومو ساند (71 عاما حينها) هو أستاذ التاريخ بجامعة تل أبيب، بولندى الأصل هاجر إلى إسرائيل عام 1948. دراساته الأكاديمية حصل عليها من فرنسا الماجستير في التاريخ الفرنسي والدكتوراة عن الماركسية.

وفي هذا المعنى يروي أحد الصحفيين الإسرائيليين عن حادثة طريفة حدثت لأحد الكتاب الإسرائيليين، والتي تعكس "حقيقة الحقائق" في مسألة إسرائيل والدولة اليهودية (مع خالص تحياتى لمؤتمر البحرين والجهود الجهيدة للسيد كوشنر). تذكروا هذه العبارة جيدا (حقيقة الحقائق)، ذلك أن صاحبنا الكاتب هذا ذهب إلى طبيب في عيادته الخاصة، فسأله الطبيب السؤال التقليدي الذي يسأله لكل مريض عن عمله ومهنته، فأجاب بفخر: أنا كاتب. وفي نهاية الكشف الطبي سأله الطبيب متوددا: ماذا تكتب الآن؟ قال أيضا بكل فخر: عن مستقبل إسرائيل، فضحك الطبيب وقال: آه.. إذن أنت تكتب القصة القصيرة!! هذا هو المزاج العام الحقيقي السائد في إسرائيل.. مزاج الشعور بالنهاية.. أو نهاية القصة القصيرة على حد تعبير الطبيب.. الكل يكابر ويغالط لكن الجميع يشعرون بأنها آتيه آتيه لا محالة.. إنها الحقيقة التي تتأكد لنا كل يوم ومن باطن وأحشاء المجتمع الإسرائيلي، وهو أننا أمام أكذوبة ولدتها خدعة لأن الحقيقة النهائية (بجد لا مزاح ) هي ما قاله الشاعر الإسرائيلي حاييم جوري: "كل إسرائيلي يولَد وفي داخله السكين الذي سيذبحه".

فرومكين يقول: السؤال هو هل سيتمكن هذا النظام من النجاة في أرض الشرق الأوسط الغريبة التي زرع بها؟ ويجيب: المؤكد أن نبتة غريبة لن تتمكن من النجاة بحياتها في بيئة غريبة معادية (على قدر كلامه ما هو بديهى، على قدر ما هو حقيقي ونهائي).

تحدث فرومكين أيضا في هذا الكتاب عن فكرة "الهوية" في الشرق الأوسط، فقال: مهما بذل الغرب من جهود لتحويل البلاد العربية لنمط المعيشة الغربية، فإن سعيهم غير ناجح، ذلك أن الشعب العربي يؤمن بالإسلام ويعتز بهويته العربية وبتاريخه وثقافته، ومن المستحيل أن يذوب المسلمون في الثقافة الغربية؛ لأن الإسلام دين ينظم كل دقائق الحياة الاجتماعية الثقافية السياسية والاقتصادية. وتلك هي أم الحقائق في السردية التي لا زالوا يحكون حكايات كثيرة حولها، وكل ما عدا ذلك ما هو الا تفاصيل أو وقائع أيام. وستظل تتأكد كل يوم فكرة الربط بين "ما بعد" سايكس بيكو، والمخاصمة الغريبة لتيارات الإصلاح الإسلامي الحصن الحصين لهوية الأمة وذاتيتها الحضارية. ومن يعرف المطلوب يحقر ما بذل.
التعليقات (1)
محمد
الثلاثاء، 04-06-2019 12:08 م
ممتاز