كتاب عربي 21

هشاشة الوضع التونسي قبل الانتخابات

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
"التقدم داخل الهشاشة".. سيبدو العنوان سرياليا، فالتقدم يقتضي القوة والنجاعة، لكن الوضع التونسي مائع ورجراج، وليست له ملامح دقيقة بعد، حتى كأنه يتمتع بهشاشته ويعيش منها. فلا الأحزاب تشكلت وبلورت أفكارها وخططها، ولا مؤسسات الدولة قائمة بمهامها، بل حالة من الانتظارية وتأجيل الحسم، أو انتظار معجزة تحمل البلد من وضع مترد إلى وضع ازدهار، بقوة غيبية أو بقوة الاستعارة الفنية، فنفيق على تونس أخرى ليس فيها عيوب شعب ورث ثورة؛ فلم ينفع بها ولم ينتفع منها، بل أعاد إنتاج هشاشته السياسية والاقتصادية وينتظر.. ماذا ينتظر؟ حتى الآن نحن واقفون في وسط طريق لا ندري ماذا خلف أكمة اللغو الكثير والفعل القليل.

الأحزاب الكلاسيكية عنوان الهشاشة

يوشك أن يكون حديثا مجازيا أن نتكلم عن أحزاب في تونس.. توجد مسميات قديمة، ولكنها أشبه بالآثار الخربة.. عناوين لمواقع غادرها الجمهور غاضبا أو يائسا وقرفا، شخصيات ملأت الأسماع والأبصار ثم تكشفت عن خواء فكري وبرامجي محصها الناس، فتذكروا فيها قول المعري الرافض للانتظام السياسي "إنما هذه المذاهب أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء".

أحزاب المغنم تلاشت في أقل من عشر سنوات من الثورة، بل إن بعضها لم يصمد للسنة الأولى، وتحللت كطوبة في النهر، وفر زعماؤها إلى اختصارات أخرى بحثا عن منفعة بأقل كلفة نضالية، حتى إن المرء ليسأل: كيف أمكن لهم مواصلة كذبة النضال لثلاثين عاما قبل الثورة؟

لم يكن هم هذه الشخصيات إلا منافعها الفردية القصيرة النفس، فإذا لم تجدها انحسرت كغيمة صيف. في هذا تمحيص ثوري، فالثورة تجبّ ما قبلها وتنظف الطريق، ولكن الوضع ازداد هشاشة، إذ حل محل الأحزاب كل انتهازي وكل طامع، وبدأت تظهر أسماء جديدة فاقت السابقين في السعي بالسياسة إلى مغانم فردية.

المثال المعبر بدقة عن هذا الوضع شخص وزير الفلاحة "سمير بالطيب" الذي ورث الأمانة العامة لحزب عاش قرنا (الحزب الشيوعي التونسي). فلما انحازت مجموعته السياسية ضد حكومات ما بعد 2014، قفز من الحزب إلى الحكومة وفاز بوزارة، ولما لاحظ احتمال إقصائه في ما بعد 2019، انتمى إلى حزب ليبرالي بصدد التشكل حول السلطة، وهو الآن في وضع انتظار تمديد منفعته، يعاضده سطوع نجم مالك قناة نسمة "نبيل القروي" الذي لم يكن شيئا مذكورا، فلم يتجاوز دوره الدعاية لنظام بن علي، فلما خلا له الجو باض وعصفر، فإذا عينه على كرسي الرئيس وأغلبية برلمانية بلا حزب قائم، ويدفع للاستطلاعات الرأي ليوهم الناس بوجود فعلي.

من فتح الطريق لمثله؟ الذي قفز إلى حكومة بن علي قبل ساعات من هروبه، محاولا إنقاذها وتدبر كرسي فيها، ففتح بابا لكل اتنهازي ودعيّ، ومن يومها والتيار ينحدر بنا إلى الوضع الذي نحن فيه الآن، ولا ندري لمن سنمنح أصواتنا في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وكل لاحق يتحجج بالسابق.

مستقلون عن شيء ما لا ندريه

تبرز في وضع الهشاشة مسميات أخرى: الجميع مستقل سياسيا ويتقدم إلى الانتخابات كدونكيشوت بلا جيش. مستقلون عن ماذا؟ يقولون إنهم يرفضون وضع الأحزاب القديمة وأطروحاتها، فهي عناوين فشل، وهم على حق، ولكن هل أسسوا لعناوين نجاح؟ هنا نشاهد وجوه الهشاشة الجديدة.

زعامات صغيرة بلا كاريزما، تتقن لعب الحاسوب وتزيين الفلاير الدعائي ببرمجية باوربوينت، ولكنها لا تجلس إلى الناس ولا تقدم لهم حلولا إلا ما قرأت في كراسات دروس التصرف التجاري في مدارس النخبة، فإذا فعلت كان موضوع حديثها فشل السابقين ووجوب التغيير، لكن بماذا ونحو ماذا؟ هنا يرتبك الجميع.. بيروقراطيون صغار يعيدون تزيين الصورة بألوان زاهية، ولكن بلغة خشبية مستعادة في غالبها من خطاب من يتهمونهم بالفشل.

الجميع زعيم على عدد محدود من الناس تحت مسمى الشباب، مجالسهم المقاهي والبيوت الخاصة، يضخمون عددهم كأنهم يجلسون بين مرايا متعاكسة، بينما الجمهور البعيد غارق في مشاكل؛ ليس أقلها انقطاع الماء والكهرباء في طقس صارت فيها درجة 50 في الظل حالة عادية.

الزعامات الجديدة جديدة فعلا، ولا علم لها بواقع الناس إلا افتراضا، وربما حسبت لايكات الفيسبوك أصواتا في الصندوق، فضلا عن أن كثيرا منها وجوه قديمة تعيد تقديم نفسها تحت مسميات جديدة، فتجر فشلها القديم وراءها إلى تكوينات جديدة، وكلما خاطبهم أحد في ضرورة تجميع الصفوف وبناء تنظيم حزبي قوي يربح الانتخابات؛ سمعت منهم لغة زعامات في حجم تشرشل الذي قاد الحرب العالمية الثانية وكسر النازية.

إذن، نحن نشاهد وضعا قديما يتلاشى، ووضعا جديدا لا يتشكل على صورة تستحق أن نمنحها صوتا تنتصر به وتنصر الثورة، فإذا ألححت عليهم عاجوا يلعنون حزب النهضة.

النهضة حزب الشر المطلق

الكيان الوحيد القائم في المشهد هو حزب النهضة الإسلامي.. الجميع مطلع على مشاكل الحزب الداخلية ويفتي فيها، ويتوقع له الانهيار كل شروق شمس، ولكن الحزب لم ينهر بعد، وشيخه الرئيس يسمح لنفسه بخطاب اجتماعي، ويناور مع الخارج ليفرض مكانة حزبه. وكلما أظهر الحزب علامة قوة وبقاء تركزت عليه اللعنات، كأنما كان عليه أولا أن يحل نفسه ليفسخ للآخرين، وخاصة القادمين الجدد مجال العمل السياسي.

أكبر كمية من الكلام السياسي تروج الآن في تونس هي نقد (بل انتقاد) حزب النهضة، ونفاق قيادته وكذب زعيمه، وفشله في الحكم، حتى إن أحزاب المنظومة القديمة تأتي خلفه في استقطاب اللعنات. هذا النقد المركز على حزب النهضة ليس كله تجنيا عليه، ولكن هناك خطأ آخر سابقا لأخطاء الحزب، هو أن منافسيه (والحقيقة أعداءه) لم يشكلوا للناس بديلا يستقطبهم ليبقي الحزب في فراغ ويتلاشى. هذا الاحتمال المهدر هو الذي يدفع هؤلاء الفاشلين لإفشال حزب النهضة.

السنوات بين 2014 و2019 والنهضة في الحكم كانت كافية لكي يتشكل كيان جديد يدافع عن الثورة التي "خانها" حزب النهضة و"باع" شهداءها للمنظومة.

هكذا يكون العمل السياسي، ولكن طيلة هذه الفترة وهي ليست قصيرة بقي الجميع في وضع تصيد أخطاء الحكم مع تركيز خاص على النهضة، كأنها وحدها في الحكم. فاستنزف الجميع قوته في لعنها، دون أن يوجه سعيه إلى بناء بديل حل أوانه فعلا على أنقاض حكومات الفترة المنتهية، بما في ذلك النهضة.

العلامة الأبرز في هذا الفشل كانت الجبهة الشعبية اليسارية، فلم يكن لها برنامج طيلة سنوات الفعل إلا الحديث عن فشل النهضة المجرمة صاحبة التنظيم السري والاغتيالات، وها نحن نقف أمام حالة فريدة. أهل القتيل متهمون بدمه أمام القضاء والنهضة بريئة والجبهة بلا ملف نضال سياسي، وكيانها يتحلل كأن لم يكن. أقصر الطرق اتهام النهضة، حزب الشر المطلق.

سنذهب إلى الانتخابات وأطال الله عمر الرئيس

قمة الهشاشة كانت لحظة مرض الرئيس ورئيس البرلمان ونائب رئيس البرلمان دفعة واحدة، بحيث وقفنا على لحظة ظهر فيها احتمال سقوط الدولة بمرض شيوخها كأنها حالة انتخاب طبيعي.

لكننا سنذهب إلى الانتخابات؛ لأن هناك خوفا كامنا من الفوضى، لكنها ستكون انتخابات بلون وطعم وجبة سجين في الانفرادي؛ مضطر إلى أكل ما يمرر له تحت الباب حتى لا يموت جوعا.. انتخابات الحد الأدنى التي ستنقذ رواتب الموظفين وسيارات النواب وامتيازاتهم، أما التقدم بالبلد فأعتقد أنه لا يزال بعيدا. اللوحة سوداء، وقد سوّدها مناضلون كثر تضخمت ذواتهم حتى ظنوا أنهم قادة العالم. لقد حولوا البلد إلى حالة فقر عامة، وحولوا الثورة إلى نكتة حزينة، وحولوا المستقبل إلى وجبة سجن. في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر سيكون لنا برلمان يمارس مسرح العبث، فمرحبا بالضحك الذي يشبه البكاء.
التعليقات (0)