أفكَار

كاتب تونسي: إبعاد الدين عن السياسة لا يمس إسلامية الدولة

كاتب تونسي يدعو إلى عدم إقحام الدين في السياسة ويطالب بالوفاق نهجا للتعايش بين المختلفين
كاتب تونسي يدعو إلى عدم إقحام الدين في السياسة ويطالب بالوفاق نهجا للتعايش بين المختلفين

أعاد الموقف السياسي العربي الرسمي والغربي ثم الأمريكي من الإخوان المسلمين، والتحريض الذي تقوده بعض الأطراف السياسية التي تخاصم الإخوان سياسيا، الجدل مجددا ليس فقط حول تجربة الإسلام السياسي عامة، وإنما أيضا عن العلاقة المفترضة بين الدين، وضمنه الإسلام والسياسة.

وقد مثلت الانتفاضات الشعبية العربية، التي انطلقت منذ أواخر العام 2010 من محافظة سيدي بوزيد في الوسط الغربي التونسي، وانتهت بإسقاط نظام حكم الرئيس زين العابدين بن علي مطلع العام 2011، نقطة تحول سياسي وحضاري في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لجهة الإعلان عن نهاية نظام عربي رسمي، عمّر لنصف قرن أو يزيد في المنطقة العربية، وفتح الباب لأول مرة في التاريخ السياسي العربي الحديث والمعاصر، لحركات الإسلام السياسي أن تدخل الحكم من أوسع أبوابه، وأكثرها شرعية، أي عبر صناديق الاقتراع.

وبين النظرية والواقع مسافات كبيرة، تفاوتت فيها تجارب الإسلاميين نجاحا وفشلا في تحويل الأفكار إلى نماذج سياسية على الأرض.

وقد عملنا في "عربي21" خلال الأشهر الماضية على تتبع معالم هذه التحولات السياسية والفكرية التي حفلت بها منطقتنا العربية وتجارب تياراتها السياسية عامة، بما فيها الإسلامية، التي ترجمت ما أصبح يُعرف في الأدبيات السياسية المعاصرة بـ "مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي"، ونعمل اليوم على تسليط الضوء أكثر على تجارب الإسلاميين السياسية بين المشرق والمغرب، ليس من باب المقارنات الجغرافية المناطقية، وإنما من باب القراءة العلمية لمواطن الخلل والنجاح التي ميزت تجارب إسلاميي الربيع العربي، وما يمكن استخلاصه من دروس وعبر لا تعين على فهم أدق للفكر السياسي العربي عامة، وإنما أيضا لمعرفة وكنه أدوات التفكير العربي بشكل عام، وطرقها في التعاطي مع مستجدات الحياة السياسية وتحدياتها المحلية والإقليمية والدولية.

وقد بدأنا هذا الملف بدراسة علمية أعدها خصيصا لـ "عربي21"، الباحث المغربي الدكتور محمد الشرقاوي، وهو أستاذ تسوية الصراعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن، وكبير الباحثين في الوحدة الإنجليزية لمركز الجزيرة للدراسات، وعضو سابق في لجنة الخبراء في الأمم المتحدة.

اليوم ننشر موقفا تونسيا في سياق الجدل حول تجارب الإسلاميين بين المشرق والمغرب، للسياسي والإعلامي التونسي الدكتور أحمد القديدي.

 

عن الدين والسياسة


أتوجه بالشكر والتقدير إلى صحيفة "عربي 21"، وأستفيد دائما من المواد الثرية الدسمة التي تنشرها كما أشكر الأستاذين الدكتور محمد الشرقاوي والدكتور محسن محمد صالح على الورقتين اللتين كشفا الستار عن جدلية الإسلام السياسي وبعض تفرعاته المعتدلة والمتطرفة. ولعلي حين أريد المساهمة في هذا الحوار الرفيع أقدم مبدئيا موقفي العام بهذه الورقة المتواضعة وهو موقف استخلصته من تجارب مريرة وأحداث قاسية عشتها وحمدت الله أن قيض لي الخروج منها بحصيلة فكرية ألخصها كالتالي:

أنا مواطن عربي مسلم ولكن تقييمي للحركات الإسلامية يتأثر بالتجارب على الواقع لا بالمبادئ والشعارات. وقد اكتشفت من قراءتي للتاريخ قديمه وحديثه بأنه كلما دخل المقدس للواقع البشري إلا وتحولت الصراعات السياسية والدنيوية إلى صراع بين الحق والباطل وإلى نزال بين الإيمان والكفر وإلى اختلاف بين الحلال والحرام، بينما الشأن السياسي هو شأن بشري يجب أن يكون فيه الخلاف بين الصحيح والخطأ والتنافس بين الصالح والأصلح. 

 

الداعشية هي في الذي يمارس العنف باسم الدين، وفي الذي يمارس العنف باسم العلمانية،


وأنا أدين التطرف والغلو لدى الجانبين جانب المتدين وجانب المعادي للدين، لأن الداعشية هي في الذي يمارس العنف باسم الدين، وفي الذي يمارس العنف باسم العلمانية، وكلا التطرفين يلتقيان لأنهما يتغذيان من بعضهما ويقصي كل منهما الثاني. ورأينا كيف ألبس عدد من حكام المسلمين طموحاتهم منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم لباس الإسلام أو لباس إلغاء الإسلام وأبادوا مخالفيهم باسم الدين أو باسم الكفر عبر كل العصور وصولا إلى الرئيس السوداني جعفر النميري الذي أعدم معارضه محمود محمد طه متهما إياه بالهرطقة وقبله مصطفى كمال أتاتورك أغلق المساجد وسجن المصلين أو نظام الخميني في المرحلة الأولى من عمر الثورة الإسلامية الذي أعدم بدون وجه حق عباس هويدا رئيس الحكومة الأخيرة في نظام الشاه في مهزلة قضائية في 1979، واغتال  في باريس شابور بختيار في آب (أغسطس) 1991 ولم يكن الرجل مجرما بل حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقد عرفته في باريس عن كثب وفهمت أسرارا لا يعرفها الرأي العام في تلك المرحلة المجهولة من تاريخ ايران. 

وأعدم ذات النظام رجلا مثقفا عرفته شخصيا في قرية (نوفل لو شاتو) حين كنت أعد رسالة الدكتوراه بالسربون وهو وزير الخارجية الإيرانية فيما بعد (صادق قطب زادة) بتهم الخيانة والكفر، وفر من الإعدام الرئيس أبو الحسن بني صدر عام 1982 والتقيته في منفاه الباريسي عدة مرات إلى آخر هذه المهازل التي تحول الاختلاف البشري الضروري إلى صراع مزيف بين الايمان والكفر، أي أن المنطق السياسي ينتفي ليترك المجال واسعا للتأويلات والتفسيرات ويلغي العقل ويوئد الحرية ويقضى على الديمقراطية ضحية هذا الانحراف. 

هذا من قراءة التاريخ ومن تطبيق المقدس على البشري أي تطبيق المطلق على النسبي وتطبيق الثابت على المتحول. من هذا المنظور أعارض إقحام الدين أي دين من الأديان في العلاقات الإنسانية لكني أنادي دائما باعتماد الدين كمنهج حياة وكدستور الدساتير كما يقول الشيخ الطاهر بن عاشور والشيخ عبد الرحمن خليف، لا باعتبار الدين مجرد دولة بلا قوانين وبلا حريات بل برفعه إلى مكانته الحقيقية كعقيدة وحضارة ومنهج فكر وثقافة وتربية وتنظيم حكم الناس على عقد سياسي مختوم بين الحاكم والمحكوم كما طالب بذلك العلامة ابن خلدون منذ قرون وهو الدستور المدني بالمعنى المتعارف اليوم.. 

 

أبواب الانحراف

أما إذا فتحنا باب تقديس شريحة من الناس على أنها محتكرة للحقيقة المقدسة فنحن نفتح أبواب الانحراف لمغتالي نجيب محفوظ وملاحقي المفكر نصر حامد أبو زيد ومطلقيه من زوجته، ونطلق أيدي الجهلاء وبسطاء المدارك في رقاب المثقفين وهي عملية إخصاء العقل المسلم برفع راية النص الحرفي بدون روية او اجتهاد. فباسم أية شريعة نمنع الحريات الفكرية بعد أن كان أبو العلاء المعري والجاحظ وابن المقفع وابن رشد والفارابي وابن خلدون وطه حسين وأبو القاسم الشابي يكتبون بحريات أكبر وأرقى مما هو متاح اليوم بسبب تقليص مساحة الحريات التي هي وحدها تفتق العبقريات وتصنع التقدم ولم ترجمهم مجتمعاتهم المسلمة كما يرجم اليوم بعض المتخلفين نخبة من المفكرين قد لا أوافقهم شخصيا وقد أختلف مع طروحاتهم ولكني أناضل من أجل أن يتمتعوا بحرياتهم كاملة في التعبير ومخاطبة الرأي العام.

فالتقدم مسار بشري لا يكون ممكنا الا بالاختلاف وأنا ضد تقديس أي رأي بشري وأعارض على سبيل المثال وضع بعض القوانين البشرية أو الأنظمة السياسية في منزلة النص المقدس مثلما يقع اليوم في بعض أرجاء وطننا العربي وأمتنا الإسلامية حين يقول بعض غلاة الإيديولوجيا أنه لا يجوز النقاش حول قانون من القوانين أو خيار من الخيارات فيعلنون موت السياسة ونهاية التاريخ، وهو خطر محدق فيحيط بهم المنافقون الذين يخافونهم ولا يحترمونهم ويقصون عنهم الوطنيين الذين يحترمونهم حتى ولو خالفوهم. 

 

التقدم مسار بشري لا يكون ممكنا الا بالاختلاف


فالشأن السياسي لا يتقدم بدون العقد الديمقراطي الذي لا يقبل لا قمع المختلف ولا أيضا يقبل نشر الفتنة باسم ممارسة الحرية المنفلتة مثلما نرى في بلادنا هؤلاء المنسلخين (وخاصة المنسلخات) عن هويتهم والمشككين في القرآن والسنة بينما الإسلام حضارة وقيم وأخلاق. هذا هو الخيط الرفيع الذي أدركته بعض الحركات ذات المراجع الإسلامية في تركيا وماليزيا والمملكة المغربية والكويت والأردن وربما لم تدركه حركات أخرى، تزامن ظهورها مع انحرافات متطرفين جهلة شرعوا في تخطيط انقلابات والاعتداء على الناس والتهديد بقتل مخالفيهم، وأنا ذاتي كنت من بين قائمة الملاحقين من طرف عصابات ترفع شعارات الدين مطلع الثمانينات، وهذا ما جر إلى الصدام بين بورقيبة وحركة الاتجاه الإسلامي التي كان خطؤها الأول هو اختزال العمل الدعوي والواقع الاجتماعي التونسي المعقد في مجرد السعي إلى ضرورة الاستيلاء على السلطة باستعمال الشارع،  ومن ثم حشر النظام جمعا كبيرا من الشباب التونسي الملتزم في السجون والمنافي بينما يوجد رجال ونساء من ذوي المراجع الإسلامية في بلادنا وفي بلاد العرب لا ينادون بالعنف ولا يدعون إلى الانقلاب. 

دفع المجتمع ثمنا باهضا لهذه الأخطاء من قبل النظام وخصومه وأملي أن يراجع الجميع مواقفهم على ضوء النتائج والواقعية وحسب مصلحة الوطن العليا في ظل قوى أجنبية متربصة بنا وتنتظر تفاقم أخطائنا ليعود الاحتلال ويرجع الاستعمار كما وقع في العراق وأفغانستان وكما يتواصل في فلسطين. ويجب التخلي عن منطق خاطىء هو منطق فرعون وموسى الذي جاء به القرآن كمثال لا يتكرر لأنه يتعلق بنبي الله موسى عليه السلام وبطاغية من صنف خاص هو فرعون، أما النخب التي تحكم بلادنا وسائر البلاد العربية، فهي في أغلبها وطنية ومجتهدة وندعوها للحوار والاستماع إلى المجتمعات المدنية.

أنا شخصيا بطبيعة مساهمتي السابقة في جزء من السلطة وطبعي كمعتدل أدعو للتطوير لا للتثوير بل أعتبر التثوير فتنة أشد من القتل وأتعامل مع من يخالفني بالكلمة الطيبة والحجة وتقديم مصلحة الوطن على مصالح الأحزاب. وهنا يأخذ الوفاق معناه الحقيقي وأبعاده المرجوة من حيث هو منهج تقويم وسبيل تصحيح ومشروع للحكم الصالح، اللهم الا إذا أراد البعض مواصلة الطريق الخطأ وهو يعلم أنها خطأ وزقاق مسدود، أي أنه يتحول إلى أعمى البصيرة وهو شر من أعمى البصر.

[email protected]

التعليقات (1)
Dr. Walid Khier
الثلاثاء، 02-07-2019 03:37 م
ومن قال لك أن في نظام الحكم الاسلامي توجد شريحة من الناس محتكرة للحقيقة المقدسة ؟ أنت إسقطت حكم الكنيسه الكاثوليكيه في أوروبا في عصور الظلام على الاسلام السياسي ثم تقوم بتقييمه على أساس ذلك. فأي منطق معوج هذا الذي تتبع؟

خبر عاجل