قضايا وآراء

الشعوب قادرة.. لكن متى تتحرك؟

علي الصاوي
1300x600
1300x600
في وسط أجواء معيشية صعبة، حيث قل الطعام وعم الفساد وزاد التفاوت الطبقي في المجتمع، وتحكّم 300 ألف من علية القوم في ملايين المواطنين، مع رجال دين وصوليين خلقوا مشروعية تبريرية زائفة للملك تحت شعار "الثورة على الحاكم تعني الثورة على الله؛ لأن الحاكم هو ظل الله في الأرض".. في ظل هذا المناخ الساخط والمنذر بانتفاضة كبرى، اجتمع ملك فرنسا لويس السادس عشر بممثلي الأمة الفرنسية للتشاور في وضع إصلاحات جديدة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن بدد ثروات بلاده على طبقة النبلاء ورجال الدين، لكنه ما كان يدرى أن الوقت قد داهمه واقتربت ساعة الصفر التي ستغير وجه فرنسا بالكامل.

فأثناء حديثه مع الحاضرين، انبرى أحد المواطنين الفرنسيين وصاح في وجه الملك قائلا له: "إن الشعب يدفع كل شيء، وأما الأغنياء فلا يدفعون شيئا للخزينة العامة، فهل هذا عدل يا جلالة الملك؟ هل يعقل أن يدفع الفقير الضرائب ولا يدفعها الغنى فاحش الثراء؟ وما هي إلا أسابيع حتى قامت الثورة الفرنسية بعد أن اكتمل نصابها من البؤس والفساد السياسي والمالي، حتى أن الخبز صار شحيحا، بل معدوما بين الطبقات الكادحة التي تُمثل ثلثي الشعب الفرنسي.

وما أشبه ذلك بما تمر به مصر وكثير من البلدان العربية.. استبداد طوقها من كل جانب كإحاطة السوار بالمعصم، وضيق معيشي، وأقلية فاحشة الثراء تتحكم في أكثرية كادحة، وتبعية مالية وسياسية لدول غربية تتخذ من هذه الأنظمة وكيلا عنها لتبديد ثروات الأمة، والقضاء على آمال الشعوب في الحرية والعيش الكريم. وعلى الجانب الآخر، ترى رجال دين أفاقين ووصوليين، يشرعنون الظلم ويبررون العدوان طمعا في فتات موائد الحاكم والقرب منه.

لم تنتفض فرنسا ضد الملك لويس السادس عشر وحاشيته إلا بعد يقظة عقلية سبقت أي نشاط آخر، سواء كان سياسيا أو اجتماعيا؛ غرس بذرتها الأولى جميع من شاركوا فيها من مفكرين وأدباء، بددوا من خلالها كل الأفكار السابقة التي ترسخ للظلم الاجتماعي والرضا بالدون من العيش وتقديس الحاكم، وكان ذلك بمثابة إسقاط لمشروعية البطانة الدينية والأرستقراطية التي مهدت بعد ذلك لإسقاط حكم الملك.

وما أجوج بلادنا إلى يقظة عقلية ووعي حقيقي للتخلص من كهنة الأنظمة المستبدة من إعلاميين ورجال دين، فطالما مثّلوا حائط الصد الأول ضد أي حراك شعبي، لما لهم من تأثير واسع على شريحة كبيرة من الجماهير وتغييب عقولهم؛ عبر دعواتهم المستمرة بقبول الواقع والرضا به، وأنه قدر محتوم، وأن الحاكم لا ينازَع في حكمه.

ومن هذا المنطلق، أتذكر الإله "جوبتير" في مسرحية الذباب للكاتب الفرنسي سارتر، عندما كان يحاول تغييب وعي البطل "أورست" وإقناعه بالرضا لما حدث لوالده، الذي قتله عشيق أمه وجلس مكانه في العرش.

والمشهد باختصار كان يتحدث عن اكتشاف الحرية فجأة.. فبطل المسرحية كان اسمه "أورست"، وقد قُتل أبوه الملك على يد زوجته وعشيقها الذي حلَّ ملكاً مكانه. لم يكن يعرف أورست ما يجب عليه فعله: هل ينتقم لوالده أم يرضى بقدره ويعيش؟ وأثناء ذلك، كان يطلب عونَ الإله جوبتير في إرشاده إلى ما يجب عليه القيام به، لكن الإله جوبتير كان يحثُّ أورست على الرضا بالنصيب، وأن ما حدث قدر محتوم وعليك قبوله!

لكن أورست الذي اكتشف حرّيته فجأة؛ قرَّر عدم الانصياع للإله جوبتير، وعلم أنه كاذب، وعزم على أن يثأر لأبيه. لكن الإله جوبتير كان ماكرا، فذهب إلى الملك ليُحذِّره من أورست، طالبا منه تجهيز جيشه، لكن الملك سأله متعجِّبا: وهل أورست قوي إلى هذه الدرجة كي آخذ حذري منه؟ فيجيبه الإله بجواب من أبلغ ما يكون: نعم يا سيّدى الملك إن "أورست يعلم بأنه حرّ".

لقد علم الإله جوبتير أن حرية أورست هي أعظم سلاح يواجه به هذا الطاغية. وهذا هو السبب في عداوة الأنظمة المستبدة في الداخل والخارج للربيع العربي، كي لا تشعر الجماهير بأنها حرة ومن ثم تهدد عروشها ومصالحها.

لذلك كان شعار الثورة الفرنسية إن الحرية هي التي تقود الشعوب، فإذا أرادت الجماهير أن تحقق حياة وارفة الظلال وعيشا وطيد الأمان، وتعيش في وطن تشعر فيه بأنه يملكها وتملكه، عليها بلفظ نُخب الدجل السياسي والديني، فكم من إله جوبتير موجود بيننا في هذا العصر، يغسل عقول الجماهير ويزيف الحقائق ويُجمّل ظلم الطاغية!

فالنكسة الحقيقية لثورات الربيع العربي سببها أمثال "جوبتير" من المرتزقة بالدين والوطن، فحين تنعتق الشعوب من أسر دجلة بعض النخب السياسية والدينية، وتنصت إلى حسها الوطني ووعيها الفطري، سوف تحيا حياة كريمة بحرية.

يقول الكاتب الإنجليزي جون بول مارت في كتابه "سلاسل العبودية": "إن أسوأ ما قد يصيب دولة يحكمها ديكتاتور، هو غياب الأحزاب وانعدام المناقشات السياسية وغياب الحماس؛ كل شيء يضيع حين يصبح الشعب متبلدا لا يكترث بحماية حقوقه، ومن ثم يغيب عن الشأن العام بدلا من أن نرى حريته تتدفق من نيران العصيان".

إن فكاك الشعوب من أسر بطانة المستبد، أهون بكثير من إسقاط المستبد نفسه، فلولاهم، ما تسلط عليهم طاغية ولا تمادى في ظلمه، فمتى تتحرك الشعوب وتسترد حريتها؟
التعليقات (0)

خبر عاجل