مقالات مختارة

الضّرورة الاستراتيجية لاستمرارية الحَرَاك الشّعبي

ناصر حمدادوش
1300x600
1300x600

تبقى معادلة الشّعب هي الضّرورة الإستراتيجية في التغيير، وهي السُّنّة الثابتة من سُنن الله تعالى السياسية في أيِّ اجتماع بشري، لارتباط ذلك بالمشيئة الإلهية المتناغمة مع الإرادة الجماعية لأيِّ مجتمع تتطلّع أشواقُه إلى التغيير الحقيقي، والتي تنبُع من أعماق النّفس البشرية، ذات الرّغبة الجامحة في التحرّر من أغلال الماضي البئيس ومن إكراهات الحاضر المتأزّم، كما قال سبحانه وتعالى: “إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسِهم..” (الرّعد: 11)

هذا ما يعني أنّ التغيير لا تصنعه البطولات الفردية ولا الإرادات المحدودة ولا الحملات أو الانتفاضات الظرفية، على الأهمية القصوى لمركزية القيادة وفاعلية النّخبة، على اعتبار أنّه لا ثورة بلا قيادة ولا نهضة بلا رسالة. ومع ذلك، فإنّه لا يمكننا النّوم في عسل التغزّل بهذا الحَرَاك الشّعبي، وبهذه الثورة السّلمية الحضارية إذا لم تقع نقلة نوعية في الوعي السياسي، وفي التمتّع بالحرية والديمقراطية، وفي الوصول إلى التنمية والنّهضة، وهي المضمون الثوري الذي يستحق هذه المعركة الوجودية مع الأنظمة الاستبدادية، لتحقيق التغيير على مستوى المفاهيم والأساليب والقيم والسّياسات. لقد دخلت الثورةُ الشّعبية مفاهيمَ الأدب السّياسي في التغيير، وأصبحت ظاهرة إنسانية وسياسية ممتدّة في جذور التاريخ الإنساني، وهي الخيار الأسلم في التغيير، وهي ملازمة لاتساع الفجوة بين السّلطة والحرّية، وبين الحُكم والتنمية، وبالتالي فإنّ الذي يغذّي الحَرَاك الشّعبي هو الإخفاق في ممارسة السّلطة، والتعثّر في منسوب الحرّية، والفشل في خدمة الشّعب، والفضيحة في ادّعاء الدّيمقراطية.

وهناك فروق جوهرية بين الثورة والانقلاب، فالثورة هي التي تحدِثُ تغييرات جذرية وجوهرية على مستوى الدولة والمجتمع، وبين الانقلاب الذي يكتفي بتغييرات فوقية وسطحية على مستوى الأشخاص والقشرة السّياسية للسّلطة فقط. وأنّ الخطر الخفي على هذا الحَرَاك الشعبي هو الانطلاق العفوي والعاطفي له ثم توقّفه على أعتاب نصف الثورة، والذي ينذِر بغياب المشروع التغييري والجانب العقلاني والإجرائي للتغيير، وهو ما يشكّل تهديدا وُجُوديّا للشّعب والدولة. وتبقى الضّرورة الاستراتيجية للتغيير قائمة في تكامل عناصرها، والتي تمنع من اختطاف الثورة وسرقة مطالبها، ومن أهمِّها: استمرار الحَرَاك بطابعه السّلمي وبزخمه الشّعبي وبلمسته الحضارية، ضمن أبعاد التغيير الثلاثة، وهي: الفكر التغييري الجذّاب والمغري والملخِّص لعصارة عقول النّخبة الفكرية والسياسية والمجتمعية، وجرأة وشجاعة النّخبة القائدة للتغيير، والزّخم الشّعبي والجماهيري الضاغط والموَفِّر لميزان القوّة لصالحه، وهو ما يعني ضرورة التلازم بين الزّخم الشّعبي وبين الأفكار الثورية له.

ولذلك، يجب أن لا نخادع النّفس بوجود ثورة شعبية تاريخية وغيرِ مسبوقة إذا لم تقع مراجعات حقيقية وإستراتيجية جدّية في إنقاذ الحَرَاك الشّعبي، والذي يتطلّب: مشروعا فكريّا وطنيّا توافقيّا بين النّخب الفكرية والسّياسية المشارِكة في التغيير، وتنظيما وتأطيرا فعليّا للحَرَاك الشعبي من طرف النّشطاء والفاعلين فيه، والمحافظة على الزّخم الشّعبي وموجته الثورية المتصاعدة، للنجاة به من الاختراق والتدجين، ومن النّزعة الحزبية أو الإيديولوجية أو الجهوية.

إنّ تراجع البُعد الشّعبي للحَرَاك يؤشّر على حالة صدامية بين مكوّنات الحَرَاك الشّعبي نفسِه أو مع السلطة الفعلية، صاحبة القوّة والنّفوذ في فرض الأمر الواقع، وإلاّ فإنّ القانون الأساسي للثورات الشّعبية سيستهلكنا بالتناقض الصّارخ بين الشّعارات والإيديولوجيات الكبيرة وبين العجز في التعاطي مع الواقع الحقيقي، والذي يجب مراعاةُ أبعادِه المختلفة بواقعية السّياسة وحِكمة التغيير.

الواضح أنّ السّلطة تتعامل مع الشّعب بنفاق مفضوح، فهي لا تؤمن بمطالبه ولا تعترف بها ولا تتعاطى إيجابيّا معها إلاّ بمقدار الزّخم الشّعبي للحَرَاك، وبالتالي فهي تنظر إلى مسألة التغيير حسب ميزان القوّة المتوفّر خلال اللّحظة فقط، وبالتالي فهي تتعامل مع عالم الأشياء بالمنطق الكمّي والعددي للحَرَاك، ولا تتعامل معه بعالَم الأفكار بالمنطق النّوعي والقيمي، وهو ما تظهر علاماتُه في التعاطي الأمني، وفي المسار الأحادي والفوقي لحلّ الأزمة السّياسية والدستورية. لقد كان الشّعب غائبا ومغيّبا، وفي حالةِ استخفاف به في معادلة التغيير، وذلك بحسب المؤشّرات التالية:

المؤشّر الأوّل: صراع أجنحة السّلطة على رئاسيات أفريل 2019م: وذلك بثلاثة مشاريع لا علاقة لها بالبُعد الشّعبي، وهي:

* مشروع تمديد العهدة الرّابعة: والذي قادَه جناح الرّئاسة بالرّغم من اصطدامه بالدستور، والذي يحدّد العهدة الرئاسية بـ05 سنوات وليس بـ07 سنوات، وقد أصبح تمديد العهد البوتفليقي وتأجيل الرئاسيات الآن واقعا وإلى أجل غير مسمّى ومن دون أيِّ توافق، وهو ما يختلف جذريّا عن مبادرة التوافق الوطني لحركة مجتمع السّلم وتطويرها بفكرة التأجيل، والتي اشترطت فيه: دسترته بتعديل جزئيّ، وأن يكون مبنيّا على التوافق الوطني بين السّلطة والمعارضة، وعلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وعلى آليات لضمان نزاهة الانتخابات قبل الرئاسيات، وعلى موافقة مؤسّسات الدولة وعلى رأسها المؤسّسة العسكرية، وعلى حكومة توافقية ترأسها المعارضة لقيادة مرحلة التأجيل.
* مشروع الدّولة العميقة: والذي كان مرشّحه بشكل واضح وصريح الجنرال توفيق، وبسبب عدم واقعيته تطوّر إلى مشروعِ مرشّح توافقيّ لجزء من المعارضة، وهو المرشّح علي غديري.

* مشروع العهدة الخامسة: والذي تبنّته قيادة السّلطة الفعلية، لعدم الثقة في أيِّ مرشّح آخر من داخل منظومة الحكم، والتي كان ينتظر داخل خزانتها: عبد المجيد تبون، مولود حمروش، عبد العزيز بلخادم، شكيب خليل، عبد المالك سلال، أحمد أويحيى..

المؤشر الثاني: التعاطي السّلبي للسّلطة مع الحَرَاك الشّعبي: والذي تمثل في محاولة شيْطَنته والتشكيك في وطنيته ومحاولة فرض المقاربة الأمنية في مواجهته، وقد تمّ الهجوم على الحَراك الشّعبي في بداياته بخطابات تشكيكية وهجومية وعنيفة، واتهامه بأنّه سير نحو المجهول، وأنّه استجابة لنداءات مشبوهة، ظاهرها الديمقراطية وباطنها جرّ المتظاهرين إلى مسالك غير محمودة العواقب، ثم كان الاستخفاف بإرادة هذا الحَرَاك الشعبي بتحدّيه عن طريق الإعلان عن توفير كلّ الظروف الطبيعية لتنظيم الرئاسيات في 18 أفريل، ثمّ في 04 جويلية، بالرّغم من الرّفض الشعبي العارِم لها.

المؤشّر الثالث: الرّدّة عن الحرّيات: والتي تجلّت في التضييق على وسائل الإعلام العمومية والخاصة في تغطية الحَرَاك الشعبي، وفي خنق حرّية الرّأي والتعبير في مختلف الفضاءات، وفي حملات التشويه والشَّيْطنة عبر الذباب الإلكتروني، وفي التضييق على اعتماد الأحزاب والجمعيات، وفي توسّع حملة اعتقالات النّشطاء من داخل الحَرَاك، وفي التضييق الأمني على العاصمة وعلى المسيرات في شوارعها، وفي عودة الانتهازية والتزلّف بشكل أسوأ من السّابق.

المؤشّر الرّابع: المسار المتعثّر للحوار الوطني: ابتداء من الندوة الوطنية الفاشلة التي دعَا إليها “بن صالح” بنادي الصنوبر يوم 22 أفريل 2019م، بعد 06 جمعات من الحَرَاك الشعبي، والتي قاطعها بنفسِه، وقاطعتها أغلبُ الأحزاب والشّخصيات وممثلي المجتمع المدني، وقاطعتها أحزاب الموالاة ذاتُها. إلى مسار تشكيل لجنة الحوار الأخيرة يوم الخميس 25 جويلية 2019 بعد 05 أشهر من الحَرَاك الشّعبي، وهو المسار الذي تمّ بشكل فوقيّ وأحاديّ وإقصائيّ يطعن في شفافيتها، وهي التي لا ترقى إلى مستوى التحدّيات التي نواجهها، وإلى مواصفات رئيس الدولة نفسه بأن تتشكّل من الشّخصيات الوطنية والتاريخية والمستقلة وذات المصداقية، وهو ما خدش مصداقيتها وجعلها مرفوضة بسبب الإخراج السّيئ لها، وبسبب خيبةِ الأمل الكبيرة في عدم التوازن والتمثيل لها، وبسبب الغموض في التشكيلة النّهائية لها، وفي المهامّ والصلاحيات التي يجب أن تتمتع بها، وفي جدول الأعمال الذي يجب أن يكون معلوما لها، وفي مدى الاستقلالية والسّيادة في عملها، وفي مدى إلزامية مخرجاتها.

كلُّ هذه المؤشّرات تؤكّد على الضّرورة الإستراتيجية لاستمرارية الحَرَاك، بطابعه السّلمي وزخمه الشّعبي ولمسته الجمالية والحضارية، وأنّ التآمر عليه هو تآمر على الجزائر، وعلى مستقبلها في الحرّيات والدّيمقراطية والتّنمية والنّهضة والحضارة.

عن صحيفة الشروق الجزائرية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل