كتب

أمريكا.. خفايا وأسرار التمييز العنصري ضد السود وحرب الفيتنام

الصحفي الاستقصائي سيمور هيرش يروي قصة الأمريكيين مع السود وحربهم ضد الفيتنام
الصحفي الاستقصائي سيمور هيرش يروي قصة الأمريكيين مع السود وحربهم ضد الفيتنام

الكتاب: مذكرات صحفي استقصائي
الكاتب: سيمور م .هيرش، ترجمة وتقديم: د.محمدجياد الأزرقي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت
الطبعة الأولى ،آيار/مايو2019
(478 صفحة من القطع الكبير)

يُعَدُّ سيمورهيرش أهم صحفي استقصائي في الولايات المتحدة الأمريكية وعلى صعيد عالمي، وكشف العديد من القضايا المحلية والدولية، فهو الذي فضح مجزرة مايلاي في فيتنام ونال على جهده المتميز جائزة بوليتزر. 

ينتمي سيمور هيرش إلى عائلة أمريكية من المهاجرين، إذ هاجر والداه من ليتوانيا وبولندا خلال وبعد الحرب العالمية الأولى. وتزوجا في شيكاغو ورزقا بأربعة أطفال ولدوا على شكل توأمين، التوأم الأول بنتان. وبعد أربع سنوات ولد توأم آخر من صبيين. امتلك الوالد محلاً لتنظيف الملابس وكيها يقع في منطقة فقيرة يسكنها الزنوج فقط في غرب مدينة شيكاغو.
 
كان الصبيان يساعدان والدهما في المحل خلال عطل الأسبوع، وكان يصطحبهما للغداء وقضاء بعض الوقت في مسبح المنطقة صيفا أو لمتابعة لعبة بيسبول في الملعب المحلي. وتوفي الوالد في الصيف الذي تخرج فيه سيمور من المدرسة الثانوية وانتقل أخوه إلى كاليفورنيا للدراسة الجامعية هناك، فتكفل هو برعاية أمّه وإدارة المحل. وانتسب لكلية حكومية للدراسة المسائية، وانتقل بتشجيع من أحد أساتذته إلى جامعة شيكاغو لدراسة اللغة الإنكليزية. وتمكن من ذلك بفضل مساعدة أمه وأحد العمال أحياناً، حيث تناوب الثلاثة في إدارة المحل.

حصل هيرش على أول عمل له في صحيفة أسبوعية، حيث أنيط به نقل أخبار نشاطات مركز الشرطة الرئيسي في المدينة. يذكر أنّه ذهب إلى المركز وطلب نسخة من تقرير المحقق عن حادثة مقتل أحد الأشخاص السود. سمع صدفة الشرطي القاتل يتباهى بفعله، وكان الضحية قد فارق الحياة نتيجة إطلاقه واحدة في الظهر. أخذ التقرير وعرضه على أحد المحررين، الذي لم يبدِ أيّ اهتمام به. لا أحد يريد أن يلتفت إلى ذلك التقرير عن الحادثة. ليس عنده دليل على أنّ جريمة قد أرتُكبت، باستثناء ما قاله القاتل / الشرطي نفسه، وهو طبعاً سينفي ما صرّح به.

يتناول المؤلف في كتابه هذا الذي يحمل العنوان التالي: "مذكرات صحفي استقصائي"، ويقع في 478 صفحة من القطع الكبير، مقسمة إلى 19 فصلآ ومقدمة، أهم القضايا المحلية والعالمية، كاشفًا وفاضحًا فيها السياسات والأكاذيب التي اقترفتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بدءًا من حرب فيتنام ومجزرة ماي لاي وجرائم الإطاحة بالحكومات الشرعية في أمريكا الوسطى ودور كيسنجر فيها، ومرورًا بفضيحة ووترغيت، ووصولاً إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية عام 2001 وحرب أفغانستان.

البداية في مناصرة الحقوق المدنية للسود في أمريكا

نشأ سيمون هيرش في الجانب الجنوبي من مدينة شيكاغو، ولم تكن له إطلاقًا معرفة بأي شخص في ميدان الصحافة الأمريكية. غير أنّ "لعبته الكبرى في ميدان الصحافة" كما وصفها، جاء وقتها حين كتب مقالة عن سكان أمريكا الأصليين. فاستطاع بفعل أحد المواضيع التي تناولها أن يُحْدِثَ فرقًا يتعلق بوظيفته كصحفي استقصائي، رغم أنّه لم يكن يعلم أنّ الموضوع نشر بشكل واسع في ولاية داكوتا الجنوبية. أبدى اهتمامًا بتاريخ بعض القبائل الأصليين في تلك الولاية، التي كانت الموطن الأصلي لحوالي تسع قبائل من سكان أمريكا الأصليين.

يقول سيمورهيرش حول هذا الموضوع: "كانت القبائل التي هاجرت من أوراسيا إلى أمريكا الشمالية وكندا قبل ألاف السنين تسمى قبائل أوننداجو وموهوك وجيروكي. كما كانوا يعرفون جميعًا باسم الهنود الأمريكيين أو الهنود الحمر في كندا كان يطلق عليهم عادة شعب أبورجينال. حين وصل كريستوف كولومبس عام 1492 أرضهم، كان عددهم يقدر ما بين 40 إلى 90 مليونا. وحين جاء الأسبان وجدوا 50 قبيلة هندية في الغرب، بما فيها شعب بيبلو وكومانجي وبيمان ويمان، وكانت لهم لغاتهم المتنوعة...

يفترض نموذج هجرات العالم الجديد أنّ نزوح سكان أمريكا الأصليين اليها كان من أوراسيا عبر جسر بيرنكيا الذي كان يربط شمال غرب أمريكا الشمالية، ألاسكا الحالية بشمال شرق آسيا، سايبيريا عبر ما يعرف الآن خليج بيرنكَ، بدأ قبل 16500 إلى 40000 عاما تقريبًا، وقت كان منسوب سطح البحر منخفضًا أثناء العصر الجليدي. استمر هذا النزوح لفترة غير معلومة المدى. كما تفترض النظريات أنّ السكان الأصليين نزحوا إمّا سيرًا على الأقدام أو باستخدام قوارب بدائية على طول الساحل الجنوبي الغربي  للمحيط الهادىء إلى أمريكا الجنوبية. فانتشر الأمريكيون القدماء في الأمريكيتين واستوطنوهما ليؤسسوا المئات من الأمم والقبائل ذات الثقافات المتباينة، وذلك قبل لآلاف السنين من بدء الاستعمار الأوروبيين للعالم الجديد في القرن الخامس عشر الميلادي"(ص 12 من الكتاب).

 

 

ندما يذكر موضوع حركة الحقوق المدنية الأمريكية، يخطر على البال مباشرة اسم قائد حركة الحقوق المدنية الأمريكية مارتن لوثر كينك، الذي يُعتبر بطلاً قومياً لدى غالبية الأمريكيين

 


في الفصل الرابع من الكتاب، يذكر سيمورهيرش كيف تم تعيينه مراسلاً في وكالة الأسيوشيتد برس لتغطية قضايا المظاهرات المطالبة بالحقوق المدنية في شيكاغو، التي كان يقودها المناضل القس مارتن لوثر كنك. وكان هيرش معجبًا بشخصية مارتن لوثر كنك، ويرسل الأخبار عن حركة الحقوق المدنية للسود أمريكا، التي باتت تحتل واجهات العديد من الصحف الهامة، لا سيما في المدن التي يوجد فيها توتر عنصري. 

وبما أنّ سيمور هيرش يعيش في شيكاغو في تلك المرحلة العاصفة من تاريخ أمريكا، كان يحضر اجتماعات مارتن لوثر كنك، حيث أشار إليه في ليلة متوترة الأجواء في شيكاغو بإصبعه لإعطائه مزيدا من المعلومات عن حركته، نظرًا لمعرفة كنك أنّ تقارير كثيرة عن مسيرة تلك الليلة ستظهر في صحف صباح اليوم التالي. وفي الحقيقة بدأت الصحف تنشر نسخاً أخرى لفترة ما بعد الظهر. 

ذكرسيمور هيرش، "وبعد حوالي عشر دقائق انتحى بي جانباً وأعطاني المزيد من المعلومات. ومن بعض تلك الاقتباسات اللاذعة، كان حول خيبة أمله بإدارة جونسن لجعل شعلة القضية تتقد ليوم آخر". 

ويضيف هيرش: "عندما يذكر موضوع حركة الحقوق المدنية الأمريكية، يخطر على البال مباشرة اسم قائد حركة الحقوق المدنية الأمريكية مارتن لوثر كينك، الذي يُعتبر بطلاً قومياً لدى غالبية الأمريكيين. إلا أنه نفى عن نفسه دائماً صفة البطولة وكان يذكر دائماً أن الجماهير هي المحرك الأساسي لحركة الحقوق المدنية، الشباب والطلاب الذين خرجوا للشوارع، وعملوا بلا توقف بدون عنف وبلا انقطاع هم الذين صنعوا الظروف التي أتي فيها وصار بطلاً أمريكياً"(ص 99 من الكتاب).

فقد شهدت الحركة مساراً جديداً في عام 1954 بقيادة كنك. وكان إعلان الرئيس تيودور روزفلت ينصّ على ضمان الحريات المدنية المتمثلة في حرية التعبير وحرية العبادة وحرية التحرر من الخوف وحرية التحرر من الحاجة. واستطاعت الحركة في اقل من 14 عاماً بدء من عام 1954 حتى 1968، أن توجه الضربة القاضية لنظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية. 

كانت البداية مع تحدي نظام ركوب حافلات النقل العام عندما رفضت امرأة سوداء اسمها روزا باركز الانصياع لتعليمات سائق حافلة عامة بالنهوض ليجلس مكانها أحد الركاب من البيض، وتبع ذلك أن استدعى السائق رجال الشرطة بعد إصرار باركز على عدم ترك مقعدها، وتم إلقاء القبض عليها بتهمة مخالفة القانون. كان للحادث أثر كبير في تأجيج مشاعر السود ضد الظلم والتمييز العنصري، فقاطع السود حافلات الركاب لمدة سنة. كما قام الطلاب باعتصامات في عام 1960 ، بالإضافة إلى مسيرة واشنطن الكبرى التي ساهم فيها نصف مليون أمريكي أسود عام 1963 كانت من المؤشرات لبداية الفصل العنصري في الولايات المتحدة. 

الصدام مع المؤسسة العسكرية الأمريكية بسبب حرب فيتنام 

يطالعنا المؤلف في فصله الخامس بشرح بداية صدامه مع المؤسسة العسكرية، التي تكذب وتموه وتغطي وتبرر ما تقوم به آلتها المدمرة في فيتنام. حدثت الزمة الجديرة بالذكر في يوم 12 ديسمبر من عام 1966، حين أشار تحديداً إلى وزير الدفاع روبرت مكنمارا ونائبه سيروس فانس ومساعده الصحفي آرثر سلفستر. فقد وصل هاريسُن سولزبري من مجلة تايم إلى هانوي عاصمة فيتنام الشمالي آنذاك، فكان أوّل صحفي أمريكي يُمنح تأشيرة دخول للبلاد منذ غزو رجال البحرية لفيتنام. وكتب بعد يومين عن مشاهداته لأدلة عن قصف أمريكي واسع لهانوي، استهدف بشكل واضح المدنيين. وكان ردّ البنتاغون مباشراً وقاطعاً بالإنكار التام لأي قصف داخل حدود مدينة هانوي، وانطلقت إشاعات كررتها العديد من الصحف مفادها أن سولزبري ومجلة تايم يقومان بدور العمالة الإعلامية للعدو. 

يقول سيمور هيرش: "كنت في طريقي إلى مؤتمر صحفي لمسؤولين أمريكيين في العادة شخص أو إثنان من رفيعي المستوى ذكرا في جهلهما بما تحدث عنه سولزبري، وأنّة الضرر الذي أصاب المنشآت المدنية ناجم عن سقوط الصواريخ المضادة للطائرات التي تطلقها دفاعات فيتنام الشمالية لاستهداف القاصفات الأمريكية. وهذه بطبيعة الحال كذبة يصعب "هضمها"(ص114 من الكتاب)..

 

الولايات المتحدة لديها صور التقطت من الجو تظهر الدمار الشاسع للمنشآت المدنية في فيتنام الشمالية


كشف له ضابط كبير في البنتغون اسمه كليرنس هل سراً عن معركة خاسرة وأن الجنرال، الذي قادها قد فُصل بشكل سريع لأنه رفض أن يفهم موضوع إمكانية إيقاع الفيتناميين لوحدة أمريكية في شرك. كان ذلك بحد ذاته مشكلة، وهو الذي جعله يتخذ قراراً عقيماً للإيعاز لوحدة ثانية بالتقدم نحو أرض المعركة على أمل التخفيف من حدة المذبحة، لتقع هذه في نفس الفخ وتتعرض لخسائر فادحة أخبره هل بأن التغطية على الكارثة تضمنت ترقية الجنرال الفورية ونقله إلى قاعدة عسكرية خارج فيتنام وفصله بعد ذلك ورأى هيرش أن تلك الإجراءات كانت مهزلة محزنة.

ثم يمضي المؤلف ليخبرنا أنه اعتمد في كتابة تقاريره على مصادر المخابرات، التي أشارت إلى أن الولايات المتحدة لديها صور التقطت من الجو تظهر الدمار الشاسع للمنشآت المدنية في فيتنام الشمالية. كما أخبر بشكل محدد أن ما يقرب من 59 منشأة مدنية قريبة من خطوط سكك الحديد في نواحي هانوي قد تم قصفها، مع توفر الأدلة بأن العديد من القنابل لم تضرب أهدافها المرسومة. أظهرت الصور أن ثلاث قنابل فقط قد سقطت داخل محيط محطة قطارات هانوي، لكن الصور كشفت أيضاً وجود ما يقارب الأربعين حفرة خارج تلك المحطة. الاستنتاج الواضح هو أن أقل من 10 بالمئة من القنابل قد أصابت أهدافها المرسومة.

استخدام الأسلحة الكيمياوية والجرثومية في الحرب ضد فيتنام 

يتناول هيرش في الفصل السادس اهتمامه بموضوع تطوير بحوث الأسلحة الكيمياوية والجرثومية من قبل البنتاغون، الذي زِيدَتْ ميزانينه بنسبة 300 بالمئة بين الأعوام 1961 ـ 1964. وقد عُهِدَ للجيش بهذا البرنامج وكان مسؤولاً خلال إدارة كندي عن الاستعمال المتزايد للمواد الكيمياوية التي تقتل الزرع وتجرد النباتات والأشجار من أوراقها في فيتنام الجنوبية. وكانت بعض وحدات القوة الجوية، التي رشت تلك المواد على الأحراش والغابات ومناطق الاشتباكات تردد بفخر شعار" نحن فقط نستطيع منع وجود الغابات"!

كتب سيمور هيرش يقول، "لم يمضِ وقت طويل حتى عرفت أن أمريكا ليست فقط تعد أبحاثاً دفاعية في حالة هجوم روسي، كما يتكرر الادعاء لإعداد اللقاحات المضادة وإلى غير ذلك، بل أنه توجد دوافع قوية لتطوير الأسلحة الكيمياوية والجرثومية، التي يمكن أن تحدث تدميراً شاملاً" نشر مقالة ضمنها قائمة تحتوي على أسماء 52 جامعة ومركز بحوث وأساتذة وعلماء ممن حصلوا على عقود عسكرية ارتبطت بحرب فيتنام. تحدث عن إمكانية وقوع كارثة في حالة حدوث شيء ما قرب مراكز تطوير وإنتاج تلك الأسلحة الفتاكة. حركت مقالتي المشاعر فانطلقت تظاهرات الطلاب داخل الحرام الجامعية للتنديد بذلك التعاون المخزي" (ص 130 من الكتاب).

التعليقات (0)