كتاب عربي 21

الهارب من رمضاء "النهضة" يقع في نار المنظومة الفاسدة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

يدفع التحليل في أبسط أدواته إلى معاينة فشل الثوريين التونسيين في بناء منظومة تفكير تحتكم إلى مبادئ ثورة 17-12-2010، وتؤسس لمشروع سياسي مختلف عن منظومة حكم بورقيبة-ابن علي وعن منظومة تفكير حزب "النهضة" وأسلوب عمله وتموقعه السياسي باعتباره ممثلا نموذجيا لأحزاب إسلامية رجعية وعاجزة دون التحديث والعصرنة التي تشتغل عليها هذه الأحزاب والشخصيات التي أسندت لنفسها صفة التقدمية واحتكرت خصال الديمقراطية ومنعت غيرها من الانتماء.

ليس للثوريين برنامج 

يعلن الثوريون معارضة المنظومة ولكنهم يعارضون "النهضة" أكثر فينسبون إليها كل عيوب المنظومة ويتهمونها بإنقاذها من الفناء ولكننا نبحث في مشاريعهم بعيدا عن فساد المنظومة وسوء نية "النهضة" تجاه الثورة فلا نجد إلا مواقف غائمة وخطابا مركبا لا يفضي إلى برنامج عملي. يود الجمهور أن يجد بديلا، لكن هجير الثوريين أشد وطأة من رمضاء "النهضة"، لذلك نرجح أن يحتمي بها الجمهور المسكين من الأكاذيب الثورية ويقبل بحدود دنيا للانتقال السياسي ترعاه "النهضة" في أفق انتخابات 2019- 2024. 

قبل ذلك، من هم الثوريون التونسيون، حتى نقارب فلا نظلم؟

ثوريون من اليسار لم نقرأ لهم إلا جملا حربية ضد الرجعية والظلامية الدينية. جمل وفقرات قليلة وخطاب واحد تقريبا يتردد على أسماعنا منذ السبعينيات. ينتقل من الجرائد إلى الكتب القليلة إلى الإذاعات إلى المواقع. كل الشر الأرضي (إذ لا وجود لسماء وغيب) جاء مع الإسلاميين وبديلا عن شرهم يحتمي اليسار ببن علي ومنظومته فيروج لها فتمكن له بمقابل.
 
بقدر الحرب على الإسلاميين تقبض منافع مادية ورمزية. وخلال ربع قرن من المنافع لم تطور أطروحة ولم تقدم برنامج حكم، سوى فكرة واحدة تونس بلا إسلاميين ولكن ثورة حصلت ووجد اليسار نفسه أمام الإسلاميين ولم يطرح السؤال الجوهري: لماذا لم يندثروا؟ واصل اليسار الالتصاق بمنظومة حكم فشلت وتحللت ونرى هزيمة أخرى في أفق انتخابات 2019، حيث لا تجد المنظومة زعيما ولا كتلة ولا جمهورا ولا تجد يسارها الخدوم فاليسار تلاشى بأسرع ما يتلاشي غبار في ريح صرصر.

 

ثوريون قوميون يبنون أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ولكن بلا إسلاميين ولا إخوان مسلمين،


ثوريون قوميون يبنون أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ولكن بلا إسلاميين ولا إخوان مسلمين، زرعتهم المخابرات البريطانية في جسم الأمة لإفساد ثوراتها. فإذا الأمة بيد السيسي يبيعها بالقطعة للصهاينة ويحرس بها حدود الكيان الغاصب، حيث تصير حركة "حماس" الإخوانية عميلة للصهاينة ويصير دحلان بطلا قوميا وعباس "أوسلو" حكيم المرحلة الذي يقود حركة تحرر وطني بالتنسيق الأمني والقبض على عناصر "حماس" وتسليمهم للموساد..

وجاء من خلف هؤلاء ثوريون جدد خرجوا من الثورة ليبنوا لهم مجدا جديدا لكن بالقصف المتواصل على الإسلام السياسي "النهضة" تحديدا. ثوريون يرددون نفس مقولات اليسار المالك الحصري للتقدمية. يتخذون من حيث المبدأ الموقف المخالف لموقف "النهضة" في كل قضية يطرحها السير العادي للأحداث في تونس حتى لو تعلق الأمر بأحوال الطقس.

عنوان الوجود السياسي عند هؤلاء هو أن لا تكون مع "النهضة" في مرحلة أولى ثم أن تكون ضدها ثانيا ولا بأس أن تكون في حجر المنظومة ثالثا ولو بالمواربة والحديث عن التحالف الاضطراري ضد الرجعية وممثلها الحصري حزب "النهضة".
 
لم نجد في خطابهم فروقا جدية عن خطاب المنظومة البائدة بشقها اليساري، والحقيقة أن هؤلاء الثوريين لم يؤلفوا خطابا خاصا بهم بل هم في أغلبهم ببغاوات سياسية تردد مقولات اليسار ضد الإسلام السياسي. يهربون من اليسار حتى لا تلاحقهم تهم معاداة التدين ومعاداة الدين عامة ولكن موقفهم السياسي والفكري المؤلف من تفاصيل لا رابط بينها في الواقع هو نسخة من موقف اليسار الفكري. لا هم ليبراليون يقبلون المختلف ولا هم إقصائيون صرحاء بل مواقف غائمة تحاول التوسط بين المواقف فلا تقدم موقفا واضحا من شيء غير رفض التعامل مع الإسلاميين بنفس الموقف الإقصائي اليساري المتطرف، بشكل يشعر المتابع بأنهم يحملون عقدة نقص أمام وضوح اليسار ورفضه المبدئي من التعامل مع الإسلاميين في أي مجال من مجالات الحياة.

على أبواب الانتخابات.. الثوريون تائهون

يرغبون في السلطة وهذا حق لا جدال فيه لكن ما وسيلتهم إليها؟ نتابع المشهد، حديث كثير بنبرة ثورية عالية عن تصفية المنظومة ولكن باعتبار "النهضة" جزء من المنظومة لا ضدها. وهذا التصنيف مشروع سياسيا ولكن أن ترفض "النهضة" لأنها متحالفة مع المنظومة وتتحالف مع اليسار أو تقدر موقفه الانتخابي منها باعتباره عدوا لها معناه وجود عنصر في قراءة المشهد غير سليم. فاليسار التونسي جزء أساسي من منظومة الحكم وإن قام بدور المعارضة.

 

نحن إزاء جماعات أو مجموعات صغيرة عقيمة سياسية لم تصل إلى تشكيل تيار سياسي يحول مطالب الثورة إلى برنامج يجمع الناس حوله.


هنا تختل القراءة السياسية لمن يعلنون الانتماء للثورة ويقفون عند الإعلان فتصير الجملة السياسية الأسلس على ألسنتهم "ليس لحزب النهضة مشروع سياسي يقدمه للتونسيين"، وهذا مقال يردده اليسار منذ السبعينيات ولكن ماذا عند الثوريين من برنامج يقدمونه؟ إن برنامجهم مثل برنامج اليسار يتكون من تلك الجملة اليتيمة (ليس للنهضة مشروع).
 
نحن إزاء جماعات أو مجموعات صغيرة عقيمة سياسية لم تصل إلى تشكيل تيار سياسي يحول مطالب الثورة إلى برنامج يجمع الناس حوله. ويبني قاعدة حكم لاحقا وسيتعرضون إلى اختبار موجع في وقت قريب عندما يجدون أنفسهم أمام الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية ويكون عليهم الاختيار بين مرشح حزب "النهضة" ومرشح من المنظومة التي يتهمون "النهضة" بها، ونؤلف من تبريراتهم للانحياز ضد "النهضة" مقالا طريفا.

ذلك الاختبار ليس اختبارا انتخابيا عابرا وظرفيا بل سيكون الدليل على فقدان البوصلة السياسية وعلامة على نهاية التيه السياسي بالانكفاء إلى نهايات مشابهة لنهايات السيد نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر وآخرين عاشوا طويلا من تلك الجملة الشهيرة (ليس "للنهضة" برنامج حكم) وفيها كانت نهايتهم السياسية والأخلاقية أيضا.

انتخابات 2019 ستكون موسما للانتخاب الطبيعي لتسقط أنواع لم تعد تملك جينات بقاء. وهذا فعل ثوري كبير في صندوق انتخابي صغير.

التعليقات (0)