مقالات مختارة

حوار أعرج في وضع حرج

1300x600
1300x600

أكمل الحراك الشعبي شهره السادس، ولكن لا شيء ذا بال تغير في المشهد السياسي، فالحراك الشعبي مستمر في رفضه للحوار مع من يسميهم العصابة وبقايا العصابة، وهيئة الحوار التي ينسق أعمالها كريم يونس مستمرة في الحوار مع الشخصيات والأحزاب السياسية والجمعيات ومن تسميهم "فواعل الحراك"، وبعض النخب منشغلة بحوار أقرب إلى الحوار الذي يدار على الركح وخشبات المسرح وعاجزة عن تسويقه خارج قواعدها، وبقية النخب وبقية الشعب مستقيلون من الحوار.

أمام كل هذا، يظل الحوار الوطني هدفا بعيد المنال، وتظل عجلة الاقتصاد ومصالح البلاد والعباد متوقفة إلى حين إيجاد صيغة توافقية ترضي الحراك وترضي هيئة الحوار والفعاليات السياسية وفعاليات المجتمع المدني.

لا أحد يرفض الحوار من حيث هو مبدأ حضاري لا مناص منه لتسوية الخلافات ولكن الشيطان- كما يقال- يكمن في التفاصيل، في الشروط المسبقة التي يفرضها المتحاورون، التي لا يتحقق أغلبها في الغالب الأعم ومن ثم فإن النتيجة الحتمية هي استحالة الحوار واستمرار ثقافة العناد وحالة الانسداد.

يجب أن نعترف بأننا- شعبا ونخبا وشخصيات وهيئات- عاجزون إلى حد الآن عن معالجة الأزمة ووضع القطار على السكة، هذه هي الحقيقة التي تفضل بعض النخب التي تتحدث- عن قصد أو عن قصد- باسم الشعب القفز عليها، نخب تصدع رؤوسنا وتضحك على أذقاننا بالتهريج والترويج لما تسميه "خارطة الطريق" لوضع حرج، لم يتبين فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

إن رسم خارطة الطريق -كما يقول فقهاء الاستراتيجيات- هو مرحلة لاحقة لتفاهمات سياسية تزيل حالة الجمود وتهيئ الأجواء للمراحل الأخرى التي تأتي بعدها ومنها وضع خارطة الطريق التي تسير على ضوئها المرحلة اللاحقة. لقد اختلطت الأمور على بعض النخب التي تستعجل الحل بأي صيغة فوجدت نفسها في تخبط لأنها لم تع حكاية وضع العربة قبل الحصان أم وضع الحصان قبل العربة.

ما نشهده على الساحة السياسية هذه الأيام هو حوار أعرج، حوار مع "فواعل الحراك" الذين يأتون إلى جلسات الحوار طواعية أو يستدعون بهذه الصفة مع أن الحراك لم يفوضهم للتحاور باسمه لأن فكرة التمثيل مرفوضة من الحراك جملة وتفصيلا، و"فواعل الحراك" أنفسهم يؤكدون أنهم لا يمثلون الحراك ولا يتحدثون باسمه ومع ذلك تصر جهات على تسميتهم "فواعل الحراك"و تحاورهم بهذه الصفة.

عند ميلاد لجنة الحوار والوساطة برئاسة كريم يونس، كتبت مقالا بجريدة "الشروق اليومي" بعنوان "لجنة الحوار والوساطة.. مهمة صعبة ولكن غير مستحيلة"، وقد حرصت في هذا المقال على مباركة هذا المولود الجديد دعما للحوار ولا شيء غير الحوار، ولكن بعد تنصيب الهيئة لما سمي "لجنة العقلاء"، نظرت في التشكيلة المعلنة وتساءلت: هل هؤلاء عقلاء الهيئة أم عقلاء الأمة؟ فإن كان يقصد بهؤلاء عقلاء الهيئة فهذه الأخيرة حرة في اختيارهم إذا أيقنت أن هؤلاء أولى من غيرهم في ترشيد الحوار بما يتفق مع رؤيتها وفلسفتها، ولكن إن كان يقصد بهؤلاء عقلاء الأمة فإن عقلاء الأمة أكبر من أن يختصروا في تقنيين اقتصاديين ونقابيين وناشطين حقوقيين وجمعويين يضاف إليهم بعض المثقفين والجامعيين.

إن عقلاء الأمة هم صفوتها الذين تلجأ إليهم للاستنارة والاستشارة ومعرفة أقصر الطرق لتطويق الأزمة وقطع شأفتها، وهم الذين يعرفون أكثر من غيرهم تعقيدات وتبعات ومآلات الأزمة وهم الذين يمتلكون أكثر من غيرهم الدراية الكافية والتجارب الناجعة في التعامل مع الأزمات.

اطلعت على تشكيلة لجنة العقلاء التي أفصحت عنها هيئة الحوار والوساطة فتزاحمت في ذهني كثير من الأسماء الجزائرية اللامعة التي يمكن أن يشكل انضمامها إلى اللجنة قيمة مضافة تستفيد منها الهيئة وتستفيد منها الأمة، وكنت أتمنى أن يقع عليهم الاختيار من أصحاب القرار ولكن هذا لم يحدث ووجد هؤلاء أنفسهم مزهودا فيهم ومغضوبا عليهم.

إن الحل في حوار شامل يشارك فيه كل الشعب، لا حوار نخب وعصب تحاور فواعل الحراك وتعرض عن الحراك وتحاور بعض النخبويين وتعرض عن النخبة وتحاور بعض الجامعيين وتعرض عن الأسرة الجامعية وتحاور بعض المثقفين وتعرض عن الأسرة الثقافية. إن الحوار في غياب الأطراف الفاعلة وفي مقدمتها الحراك الشعبي الذي لا يمكن تجاهله أو تجاوزه هو حوار أعرج لا يفضي إلى الحل ولا إلى أنصاف الحلول.

حدث في السودان حراك شعبي كلل في النهاية باتفاق تاريخي بين المجلس العسكري وممثلي الحراك، وبدأ السودان الجديد يتلمس طريقه نحو التغيير، حدث هذا في السودان بعد أن كللت جلسات الحوار الوطني بالنجاح وبعد أن اقتنعت جميع الأطراف بثقافة التنازل من أجل مصلحة الوطن والتقت إرادة المدنيين والعسكريين وتجسدت في وثيقة تقاسم السلطة. لسنا ملزمين في الجزائر بمحاكاة النموذج السوداني لأننا لسنا عاجزين عن تحقيق توافق وطني على الطريقة الجزائرية وخاصة أن المؤسسة العسكرية في الجزائر ملتزمة بمهامها الدستورية في مرافقة الحراك وعدم دخولها طرفا في الحوار وهو ما لم يتحقق في الحالة السودانية.

يصر الحراك الشعبي في الجمعة السابعة والعشرين على مطالبه القديمة الجديدة وهي رحيل الحكومة ورموز النظام، وتصرح هيئة الحوار والوساطة بأنها لا تعارض هذه المطالب، وتصرح الأحزاب السياسية التي قبلت دعوة هيئة كريم يونس للحوار بأنها لا تعارض من جهتها أيضا هذه المطالب.

 

ولكن مع ذلك لم يشكل هذا التوافق المبدئي أرضية لحوار مباشر بين الحراك وهيئة الحوار والفعاليات السياسية وفعاليات المجتمع المدني، كل هذا يجعلنا نؤكد أن الحوار القائم حوار أعرج ويزيده سوءا أن هناك جهات تمثل الطابور الثالث -إن صح التعبير- لا تنتمي إلى الصنف الرافض للحوار، ولا إلى الصنف المنخرط في الحوار، ولا إلى الصنف المحايد الذي لا ينتمي إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، مهمته الأولى والأخيرة هي تثبيط مساعي الحوار، وإطالة عمر الأزمة وحالة الاحتقان.

عن صحيفة الشروق الجزائرية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل