قضايا وآراء

المسلمون ونظرية التطور

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
لا يمكن الفصل بين طريقة تعامل فئة كثيرة من المسلمين مع نظرية التطور وبين الواقع الحضاري المعاصر للأمة الإسلامية، فنظرية التطور هي الأيقونة التي تختزل جدلية العقل والدين، العلم التجريبي والوحي الغيبي.

نظرية التطور تدفعنا إلى الاختيار، إما الراحة العقلية، لكن ثمن هذه الراحة هي القطيعة مع العالم المعاصر وصم الآذان واستغشاء الثياب عن حركة العلم والحياة، وإما أن نختار التجدد ومواكبة التطورات المعرفية، لكن هذا التجدد له ثمن أيضاً؛ يتمثل في مراجعة كثير من أنماط التفكير التقليدية للموروث الديني.

وقد سبق المسلمين في هذا المخاض أوروبا، إذ مثلت كل من نظرية التطور لداروين وقبلها اكتشاف دوران الأرض حول الشمس لكوبرنيكوس؛ أعظم زلزالين، ليس في مضمونهما العلمي وحسب، بل في دلالاتهما الفلسفية. إذ عصف هذان الاكتشافان بسلطة الكنيسة التي كانت توظف مركزية الأرض أيديولوجياً لنفخ غرور الإنسان، وكذلك قصة الخلق التي مثلت عماداً رئيساً في الكتب المقدسة. ووفق الحسابات الواردة في الكتب المقدسة، فإن عمر الحياة على الأرض لا يتعدى آلافاً قليلةً من السنين، بينما يقوم عماد نظرية التطور على تقدير عمر الحياة بملايين السنين!

تحرر العالم الغربي من هيمنة تفسيرات الكنيسة وتراجع سلطانها بين جدرانها الأربع، وأطلق عنان العلوم التجريبية التي قادت إلى نهضته المعاصرة، أما في عالمنا الإسلامي فلا تزال الحيرة مستوليةً علينا؛ عاجزين عن التوفيق بين إيماننا بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو تبيان لكل شيء، وبين مقتضيات المنهج المعرفي الذي يعتمد على تحرير العقل من كل القيود والثقة بنتائج البحث التجريبي إلى آخر مدى.

تتجلى الأزمة في طبيعة النقاشات الدائرة حول نظرية التطور، إذ يشمر دعاة ووعاظ عن سواعدهم لإبطال هذه النظرية ظناً منهم أنها تهدد أركان الدين. وتصدُّر الدعاة للحكم دون خبرة في قضية تجريبية هو مشكلة في ذاته، إذ إن نظرية التطور تناقش بأدوات علوم الأحياء والخلية والأنثروبولوجيا والجيولوجيا وغيرها، بينما ميدان الداعية هو تزكية النفس وتهذيب الأخلاق، ولكل وجهة هو مولّيها.

ليس المتدينون وحدهم من يؤدلجون نظرية التطور، إذ إن هناك فريقاً من المؤمنين بالنظرية قد خرجوا عن التجرد العلمي إلى التعصب الأيديولوجي، فهم يحتفون بنظرية التطور؛ عادين إياها إعلاناً لطي حقبة الدين، ولا تخفى في كتاباتهم نشوة الظفر وهم يتحدثون عن هذه النظرية.

هذا الموقف يمثل استغلالاً غير علمي للعلم، وهي حالة نفسية تنشئ حجاباً عن الحقيقة التي يفترض أن تكون المقصد الأوحد لكل باحث علم. فالتعصب الأيديولوجي لنظرية التطور والعداء الأيديولوجي لها سواء؛ يمنع كلاهما صاحبه من التجرد لنقدها علمياً والنظر في مواطن قوتها ومواطن ضعفها.

تتمثل ركيزة النقاش في سؤال: هل القرآن أصلاً كتاب علوم طبيعية، أم أنه كتاب يدعو إلى العلوم الطبيعية ويمنح الثقة للحقل التجريبي لإثبات نفسه؟

يوجه القرآن أنظار المؤمنين في مئات الآيات إلى ميدان الطبيعة كونها الفضاء الذي تتجلى فيه آيات الله تعالى التي تستحث الناس على الإيمان: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم".. "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض".. " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق"، وغيرها من آيات التدبر في الليل والنهار والشمس والقمر والجبال والسحاب، واختلاف ألسنتكم وألوانكم.

هذه الآيات التي تمثل توجهاً رئيساً ملحوظاً في القرآن؛ تعني أن القرآن لا ينظر إلى العلوم التجريبية بأنها علوم دنيوية، كما يصنفها بعض المتدينين بقصد إعطائها مرتبةً أدنى في الاهتمام الديني، بل إن الله يتجلى في تركيب الخلية ونشأة الإنسان وظواهر الحياة كما يتجلى في آيات القرآن: "كل من عند الله". وعلوم الطبيعة هي علوم مقدسة لأنها تدلنا على الطريقة التي تعمل بها يد الله في خلقه: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، وإذا كان الله تعالى هو خالق الكون وهو منزل الكتاب، فإن هذا يقتضي بداهةً أن آيات الله في الكون ستصدق آياته في الكتاب، ومن المستحيل أن يتناقضا، فلا بد أن يمنح المؤمن ثقته المطلقة للعلم القائم على البرهان؛ لأن كل ما يكتشفه الإنسان من قوانين مودوعة في خلق الله فهي آيات للإيمان.

إن الله تعالى يحثنا بلسان عربي مبين على السير في الأرض والبحث في خلقه: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق".. لكن المفارقة العجيبة أن من طبق هذه الآية هو تشارلز دارون، حين استقل سفينة بيجل وطاف بها على جزر الأرض وجمع الأنواع المتعددة من النباتات والطيور والحفريات، ثم رجع إلى بلده بريطانيا ليدون ملاحظاته ويتأمل كيف بدأ الخلق، ثم جاء بعده مئات آلاف العلماء والباحثين ليضيفوا ويحذفوا ويدققوا ويطوروا هذا البنيان.

يقع المتدينون في خطأ منهجي إزاء نظرية التطور، وهو ظنهم أن القرآن وحده من عند الله، ويغفلون أن الطبيعة أيضاً هي من عند الله، وأن كلمات الله محفورة في الصخور والأحافير تماماً كما أنها مسطورة في الكتاب: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله ولو جئنا بمثله مدداً"، فيسعى المسلمون إلى ضرب كلام الله بكلام الله، ويظنون أن تكذيب البحث العلمي هو موقف ديني، بينما يستحيل أن يصل العبد إلى خالقه من طريق تناقض طريق العلم، إذ كيف يودع الله سننه في الأرض ثم لا تهدي هذه السنن إليه؟ وكيف يكون بديع صنع الله في خلقه صارفاً للإنسان عن سبيل الله؟

لكن سؤالاً ينشئ عقبةً ليس من اليسير تجاوزها، إذ إن القرآن يتلو قصةً مفصلةً لخلق آدم، فهل نصدق قصة آدم في القرآن أم نصدق ما يقوله العلماء التطوريون؟

ينبغي ملاحظة أن ميدان اهتمام القرآن هو تزكية النفس وتذكير الإنسان بالله والآخرة أكثر من اهتمامه بالتفاصيل العلمية التي يمكن للإنسان أن يحوزها من طريق السير في الأرض والسمع والنظر، فلا داعي أن يشغل الوحي مساحته بتفصيل هذه الحقائق العلمية للناس.

هذا منهج عام في القرآن نجده في قصة خلق آدم أيضاً، فزاوية المعالجة القرآنية للقصة هي تكريم الله تعالى للإنسان وتسخير ما في السماوات والأرض له، وتعليمه الأسماء كلها، وأمره الملائكة بالسجود له، وأمره آدم بالهبوط إلى الأرض إيذاناً ببدء رحلة التكليف وحمل الأمانة في الحياة.

هذه المعاني ذات طابع روحي، وهي تتمايز عن اهتمام النظريات المعرفية لتفسير الخلق، فالدين يهتم بسؤال "لماذا؟"، بينما العلم التجريبي يهتم بسؤال "كيف"، وهذا التمايز يمنحنا إمكانيةً مبدئيةً للانطلاق في رحلة الاكتشاف المعرفي دون قيود دينية. فأياً كانت طريقة الخلق وحيثياته، فإن هذا لن ينفي الغاية الإلهية للخلق أو الحاجة إلى المعنى الروحي.

مثلاً: ما الذي يمنع أن تكون نظرية التطور صحيحةً، وأنه في مرحلة تطورية معينة شاء الله تعالى أن ينفخ في هذا الكائن من روحه ويكرمه ويسجد له الملائكة؟

يقول الله تعالى: "إن الله اصطفى آدم".. ألا يكون الاصطفاء من مجموع؟ ألا يمكن أن يفهم من هذه الآية أن الله اصطفى آدم من مجموعات بشرية كانت تسكن الأرض قبله؟

تقول الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ كيف عرفت الملائكة طبيعة الإفساد وسفك الدماء قبل استخلاف آدم؟ ألا يحتمل أن تكون توقعت ذلك بناءً على وجود بشر من إنسان النياندرتال وغيره ممن مارس الإفساد وسفك الدماء قبل آدم؟

قال الله: "إني جاعل في الأرض خليفة"، والجعل في اللغة يعني التحوير الوظيفي لخلق موجود فعلاً، وهو يختلف عن الخلق ابتداءً.. ألا يحتمل أن الاستخلاف هو مرحلة لاحقة لوجود كائنات بشرية أو شبيهة بالبشر؟

يقول الله تعالى: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي".. ألا يحتمل أن يفهم من التسوية انتصاب القامة، وهي مرحلة تطورية تميز بها الإنسان عن بقية الكائنات تمهيداً لتمكينه من عمارة الأرض؟

يقول القرآن: "وبدأ خلق الإنسان من طين".. ألا يحتمل أن يفهم من كلمة بدأ مساراً تطورياً؟ فالبدء يعني أن هناك مراحل لاحقة.

هذه الإشارات القرآنية ومثلها كثير؛ قد فصّل فيها باحثون مسلمون، مثل عبد الصبور شاهين وعماد بابكر وعدنان إبراهيم وغيرهم، ولا يقصد منها إثبات نظرية التطور من القرآن، إذ إن منهج البحث عن العلوم الطبيعية في القرآن هو منهج خاطئ يشبه محاولة نفي الحقائق الطبيعية من القرآن، إنما يقصد من هذه الإشارات هز الثقة الصماء التي يواجه بها رافضو نظرية التطور أي نقاش؛ ظنا منهم أن التصديق بنظرية التطور يعد تكذيباً بالقرآن.

مثل هذه الإشارات تقول إن النص القرآني مرن ويحتمل تعدد الأفهام، وما دام النص القرآني يحتوي على هذه المرونة، فليس أمامنا إلا أن نرجع إلى المنهج القويم الذي أمرنا القرآن ذاته به، وهو أن نتلمس العلوم الطبيعية من مصادرها، وألا ننظر للبحث العلمي والاكتشافات المعرفية بأحكام أيديولوجية مسبقة.

لا أدري كيف سترسو نظرية التطور وإن كانت تبدو إلى تعديل نفسها أقرب منها إلى الانهدام كلياً، ولست في مأزق لأرهن إيماني بثبوت أي تفسير أو محوه، لكن المهم هو أن يصير المؤمن فاعلاً شاهداً على العصر الذي يعيشه، وأن ينطلق بقوة وإقدام في رحلة النظر والسير في الأرض، وأن ينتقل من حالة التلفيق والتوفيق بين معتقداته ونتائج العلوم إلى مرحلة الإنتاج والتوليد المعرفي.

أما الإيمان فلن يهدم بنيانه بأي نتيجة يصل العلم إليها، وإن حدث التشوش في مرحلة ما فإن العلة ستكون حتماً في النظارات التي نرتديها والأطر التي نفكر بها، وليس في قوانين الكون الأزلية؛ لأن هذه القوانين التي يجليها العلم هي كلمة الله الخالدة.
التعليقات (6)
محمد عبد الحميد
الأحد، 14-02-2021 04:37 ص
?? من يرى كتاباتك يظنك على شيئ من العقيدة ولكن هذا غير صحيح. والحقيقة التي نراها فيك الان انك تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض. فانت تستخدم ايات تدعونا للتفكر والتأمل والعلم. وتجحد اية تقول ان الله خلق الانسان في احسن تقويم. وهذا يضعنا امام مفرق طرق. اما القبول ان هناك خالق وانه لا خالق. تريد انت ان تصنع طريقا وسطا بناء على نظرية فبركها شخص جاهل وصفه ابوه بالثمرة العفنة. وطريقك الجديد مفاده انه قد تكون نظرية التطور صحيحة ولا داعي للتعصب الديني ودعونا نبحث هل هناك رب خالق أم لا. وكذلك تساوي بين دين الاسلام وبين اديان باطلة محرفة. انصحك بالتوبة عن هذا الضلال ونشر الحق. فستلقى الله حتما. فانظر ماذا قلت وماسطرته يدك الان.
يسري
الجمعة، 06-09-2019 01:06 ص
"لكن سؤالاً ينشئ عقبةً ليس من اليسير تجاوزها، إذ إن القرآن يتلو قصةً مفصلةً لخلق آدم، فهل نصدق قصة آدم في القرآن أم نصدق ما يقوله العلماء التطوريون؟" لو أن الكاتب استفرغ وسعه في البحث عن إجابة وافية عن سؤاله لقدم إضافة نوعية، أما ما أورده في مقاله فهو إعادة قول ما قيل من قبل، ولا جديد فيه.
من فلسطين المحتلة
الخميس، 05-09-2019 08:26 ص
هذا الكلام ذكر في الربع الأول من القرن العشرين... ارجع الى علماء الأزهر المعاصرين الذين قالوا مثل هذا الكلام والى عبد الصبور شاهين والى د. مصطفى محمود .. وارجع الى قصص القرآن للدكتور فضل حسن عباس وهو يذكر آراءهم ويرد عليه
من فلسطين المحتلة
الخميس، 05-09-2019 08:21 ص
يا استاذ أحمد هذا الكلام سبقك به غيرك وهذا على افتراض صحة النظرية التي أبطلها العلم ..ثم ما فائدة طرح الموضوع الآن وهو ليس الهم الشاغل للناس ولا لطلبة العلم ..خانك اختيار الموضوع وهذه مشكلة من يكتبون بشكلٍ دائم يضطرون أحيانا للكتابة عن ما هبّ ودبّ .. حظاً أوفر في مقال آخر
ابو عبادة
الخميس، 05-09-2019 07:49 ص
فرضياتك فيها تكلف ... لماذا لا نرى النص كما هو ونلجأ للتأويل ... ثم ان ما قامت عليه فرضية التطور من قواعد لم يثبت منها شيء باعترافات التطوريين أنفسهم