أفكَار

لماذا لم يعد المشرق ملهما للفكر في دول المغرب الكبير؟ (2من2)

الجابري وطرابيشي كانا من أبرز المفكرين العرب تناولا للعلاقة بين المشرق والمغرب  (عربي21)
الجابري وطرابيشي كانا من أبرز المفكرين العرب تناولا للعلاقة بين المشرق والمغرب (عربي21)

يواصل الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار، الحفر في العلاقات الفكرية العربية، وأسباب تراجع المنتوج الفكري الفعال أولا، ثم في ما لو كان هناك أي علاقة تأثير وتأثر بين جناحي العالم العربي في المشرق والمغرب، بالنظر إلى التمايزات التي تطبع منتوج المنطقتين من حيث الكم والكيف والانتشار.

ومع أن عددا من الكتاب والأدباء والمفكرين ممن استطلع التقرير الخاص بـ "عربي21"، أراءهم حول العلاقة بين المشرق والمغرب على مستوى المنتوج الفكري، قالوا بوجود تباينات قديمة، إلا أنهم في الإجمال لفتوا الانتباه إلى أن جزءا من هذا التباين مبعثه سياسي بالأساس.

المغاربة استفادوا من المناهج الغربية

يدافع الروائي الجزائري كمال قرور على فكرة أن تجربة أركون في الجزائر والجابري في المغرب وهشام جعيط في تونس هي تجارب استفادت من المناهج الغربية ولم تستفد من المشرق وحاولت تقديم قراءات جديدة ومتميزة للفكر العربي والإسلامي، وهذا على الرغم أن التفاعل بين المشرق والمغرب كان ومازال منذ قرون خلت وكانت الظروف السياسية ومازالت هي التي تحدد طبيعة التفاعل، سلبا أو إيجابا، بين الطرفين، حيث فشلت النخب العلمية عبر العصور في تحصين الروابط بين المشرق والمغرب.

 

هل بقي المشرق مشرقا عربيا ملهما حقا بكل ما يحمله من عبق التاريخ والجغرافيا، وروح الوحي السماوي، أم هو الآن شرق أوسط مفتت الأعراق والانتماءات، بأجندات الدويلة الصهيونبة وأفكار كونداليزا رايس؟

 
ويؤكد كمال قرور لـ "عربي21" أنه بعد فشل المشروع الوحدوي العربي سقطت الدول العربية في شرك الخلافات والصراعات التي انهكتها وازداد الشرخ بعد هبوب رياح الربيع العربي، التي زادت من حدة التشرذم والانقسام، فانقسم المشرق كما لم ينقسم من قبل، وأدى انقسام دول الخليج إلى كارثة أخرى، وهي انكشاف عورة الوحدة العربية، فهذه الدول كانت تشعل الفتائل في الدول الشقيقة المجاورة، من أجل مآربها الخاصة، قبل أن يمسها هي الأخرى التشرذم والانقسام والصراع.

 



ويطرح كمال قرور تجربته الشخصية في طباعة وتوزيع كتاب الجيب، وكيف أنه شخصيا استلهم الفكرة من كتاب الجيب في الصين، وليس من أي بلد مشرقي، مضيفا أن كتاب الجيب كتاب ثقافي دوري  سعره زهيد، له رواج كبير في أوساط الشباب، خفيف وظريف لذلك حاولنا الاستفادة من التجربة الصينية لتكون في متناول الشباب الجزائري الذي يبحث عن المعرفة، بسعر معقول، طبعا حاولنا تكييف التجربة مع سوق الكتاب في الجزائر.

أما الروائي الجزائري الخير شوار، فيرى من جانبه في حديث لـ "عربي21"، أنه عندما اقتبس الصاحب بن عبّاد الآية الكريمة "بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا" تعليقا على "العقد الفريد" لابن عبد ربّه الأندلسي، قائلا ضمنيا إنه لم يجد في الكتاب "المغاربي" جديدا، غير "إعادة إنتاج" الثقافة المشرقية، كان الصاحب قد اختصر المركزية المشرقية المتعالية في كلمات قليلة. وبغضّ النظر عن أصالة كتاب "العقد الفريد" من عدمها، فقد ظل حكم الصاحب بن عبّاد عاما على علاقة المغاربة بالمشارقة، ومع مرور الزمن ترسّخت فكرة "المشرق المبدع" و"المغرب المقلّد" رغم الطفرات الفكرية والثقافية المغاربية التي في العادة لا يُلتفت إليها، في ظل غياب ثقافة "السند" وانقطاعه كما ذهب أحدهم. 

 



ويعتقد الروائي الخير شوار، أن النقاشات المعمقة التي خاضها جورج طرابشي ومحمد عابد الجابري وغيرهما في هذا الشأن لم تنه هذه الإشكالية، واستمر "المشرق" متعاليا على المغرب الذي وجد نفسه ممزقا بين تلك المركزية والأخرى الأوروبية. غير أن توقف المشرق عن الإبداع عمل على زيادة الشرخ يوما بعد آخر، في انتظار لحظة حوار جديدة لم تحن بعد يعترف فيها أحفاد "الصاحب بن عبّاد" بموت الأحادية وتعدد المراكز. 

ويفسر الدكتور بوزيد بومدين، أستاذ الفلسفة بجامعة وهران والباحث في الفكر الإسلامي علاقة التأثير والتأثر بين المغاربة والمشارقة بالقول: "إن هذه العلاقة طرقها فقهاء ومؤرخون وأدباء منذ القرن الرابع الهجري، وكان للسياسة دورها، إذ أن ولاء المغاربة سياسيا لمركز الخلافة العباسية ألقى بظلاله على الاتباعية المذهبية في الفقه، فمثلا جزء من سكان تونس حاليا وشرق الجزائر كانوا أحنافا بحكم سلطة الأغالبة التي كانت تتمذهب به وتخضع للسلطة العباسية، كما أن من أسباب دخول المذهب المالكي لشمال إفريقيا الموقف السياسي لفقيه المدينة من العباسيين وقد كان حينها بالأندلس بنو أمية والدول التي قامت عندنا ناهضت وحاربت العباسيين مثل الدّولة الإدريسية والرستمية وكانت أكبر قبيلة "مغراوة" للبربرية موالية للأمويين، هذا عامل من بين عوامل أخرى سمح للمغاربة البحث عن الاستقلالية والتميز، وقد ساعد على ذلك النهضة العلمية الكبرى التي شهدتها الأندلس وكانت المناظرات والتنافس بين المشارقة والمغاربة قوياً وقد كتب إبن بسام الأندلسي كتاباً يفخر ببني قومه وبفضلهم على المشارقة عنوانه: "محاسن أهل الجزيرة" ويقصد بها الأندلس، كما كان ابن حزم الفقيه المجتهد ظاهري المذهب بل ارتبط إسم الفقه الظاهري به رغم النشأة البدئية المتواضعة لهذا المذهب في المشرق، وفي منافحة إبن حزم للمشارقة الذين يغمطون اجتهاد وتميّز المغاربة قال :
 
أنا في الآفاق شمس  ولكن عيبي مطلع غرب.

التأصيل التراثي للمدرسة المغاربية

وواصل الدكتور بوزيد بومدين حديثه لـ "عربي21" بالاشارة إلى أن هذا التأثر المشرقي استمر مع بداية حركة النهضة الحديثة دينيا وأدبيا بحكم حملة نابليون على مصر وتعرف المشارقة على التطورات الحاصلة في الغرب، فكانت الحركة الإصلاحية في عمومها صدى لمحمد عبده والأفغاني كما كانت الحركات الدينية أيضا مثل الوهابية والإخوانية وفي المجالين الأدبي والفلسفي، وهذا يعود إلى حالة الاستعمار المدمر لبلدان المغرب العربي وعوامل سياسية وتاريخية أخرى. لكن مع بروز الدولة الوطنية واستفادة النخب المغاربية من استثمار اللغات الأجنبية والبحث عن التميز والفرادة خصوصا في مجال الفكر والفلسفة والأدب ظهرت تيارات فكرية جمعت بين اطلاعها على ثقافة المشارقة والثقافة الغربية حاولت تشكيل مدرسة مغاربية، وحاولت تأصيل ذلك تراثيا منهم الراحل محمد عابد الجابري الذي كان كتابه في السبعينات " نحن والتراث" بداية التمييز بين رؤيتين فلسفيتين رؤية ابن خلدون الواقعية وابن رشد العقلانية "مدرسة المغاربة" ورؤية ابن سينا والفارابي والغزالي العرفانية "الغنوصية" "مدرسة المشارقة"، وحاول تلامذته ومن انتحل مذهبه البحث عن هذه الخصوصية في التاريخ والفلسفة والدين . 

 



وقد أستطاع بعض المفكرين والأدباء اليوم بحسب الدكتور بوزيد بومدين التأثير على الكتاب المشارقة منهم محمد أركون ومحمد عابد الجابري وأبي يعرب المرزوقي وطه عبدالرحمان ومالك بن نبي ومحمود المسعدي والحاج الصالح "اللساني" وعبد المالك مرتاض وعبد الله العروي وأحلام مستغانمي وغيرهم التأثير على الفلسفة والدراسات الأدبية واللسانية. 

وأشار إلى أن التأثير والتأثر يحدث اليوم بحكم الخصوصية التكوينية العلمية واللغوية للمشارقة والمغاربة ولكن رغم ذلك يبقى الشعور النفسي والأحكام المسبقة لها تأثيرها إذ أن الناصرية أثرت سياسيا والإخوانية والحركات الدينية دينيا، ربما هناك تميّز في مجال السينما والمسرح والفن الغنائي لانه يستلهم من تراثه المحلي ومن تأثير الغرب بالخصوص فرنسا. 

من أجل فكر عربي موحد

لا يعني الحديث عن هذا التنافس الفكري بين جناحي المشرق والمغرب العربيين، تكريسا للتمزق السياسي الحاصل اليوم بشكل لم يسبق له مثيل، غير أن ما نؤكد عليه، أن تراجع الأداء والمنتوج الفكري المشرقي الملهم والمؤثر، لا يمكن أن يكون حالة ذاتية مرضية، بقدر ما هي حالة سياسية مرتبطة بالتشرذم وسقوط المنظومات الوطنية الحاكمة السابقة، بفعل الثورات والمؤامرات والتدخلات الخارجية.. كما أن ثبات الحالة المغاربية وصعودها تدريجيا، إنما يرجع الفضل الأكبر فيه إلى حالة شبه الاستقرار السياسي الذي يعيشه هذا الجناح من الأمة، رغم الإرهاصات والتكالبات التي تتربص به.

والأهم من كل هذا، أن يتمكن العالم العربي بجناحيه لبعث فكر عربي موحد، لا تحده حدود سايكس بيكو ولا تقسيمات "لغوية" أو "عرقية".. وأن تخرج كل المناطق العربية على اتساع رقعة العالم العربي، من الدائرة الشوفينية والإقليمية الضيقة، وأن نبدأ التفكير الجاد في التخلي عن الفكر المناطقي و"الانعزالي"، فلا تكون بعد هذا الهراء الذي أحدثته "المحرقة" الحاصلة اليوم، إمكانية للتفاخر بـ "الجزأرة" أو "ألتونسة" أو "السعودة" أو "اللبننة"... وإنما بالأمة الواحدة الخالدة، ذات الرسالة الواحدة.

في فهم التطور الفكري والتأثيرات الحاصلة، من المهم التساؤل الآن، هل بقي المشرق مشرقا عربيا ملهما حقا بكل ما يحمله من عبق التاريخ والجغرافيا، وروح الوحي السماوي، أم هو الآن شرق أوسط مفتت الأعراق والانتماءات، بأجندات الدويلة الصهيونبة وأفكار كونداليزا رايس؟ وهل المغرب العربي، ما يزال مغربا عربيا للشعوب وأحلام "نجم شال إفريقيا"، أم يراد له أن يكون مغربا كبيرا بلا هوية جامعة تربطه بجزئه الثاني في المشرق، سوى الهوية "المتوسطية" التي تتحكم فيه الإنجيلية الصهيونية؟

الأكيد أن الفكر بحاجة إلى مناخ وتربة لكي ينمو، وطالما أن نشيدا عبقريا كنا ننشده في الماضي "لبيك يا علم العروبة كلنا نحمي الحمى"، صار فعلا مشبوها، فإن النهضة الفكرية المأمولة، ستكون أصعب مستقبلا، إلى أن تقرر الشعوب العربية مرة أخرى، اعتمادا على أخطائها السابقة في الثورات والانتفاضات، أن تأخذ مصيرها "العقلاني" بيدها، بأن تقود ثورات فكرية جديدة، تقتلع جذور التخلف والجهل، قبل أن تفسح المجال لجماهير الوعي لتخلع الدكتاتوريات التي تعادي العقل.

 

إقرأ أيضا: لماذا لم يعد المشرق ملهما للفكر في دول المغرب الكبير؟ (1من2)

التعليقات (0)