كتاب عربي 21

في العمق.. ماذا تقول تسجيلات محمد علي؟!

ساري عرابي
1300x600
1300x600

بالإضافة إلى ما يمكن للتحليل النفسي قوله في تفسير تصرّفات عبد الفتاح السيسي، فإنّ بناءه القصور والفلل والاستراحات، واعتباره ذلك بناء لدولة مصريّة جديدة، يعني شيئا مهمّا ومركزيّا، وهو أنّ هذا الكائن لم ينقلب ويسفك الدماء إلا كيْ يبقى في حكم مصر حتى آخر يوم في حياته. وفي الأيّام الأخيرة من حياته، لو قُدّر له ذلك، سيبدأ في التخطيط لتوريث الحكم لأحد أبنائه.

عبد الفتاح السيسي افتتح عهده ببناء القصور، واستمرّ في بنائها، لأنّه باختصار شديد وغير مخلّ أبدا؛ لا يريد مغادرة تلك القصور. وبداهة، فإنّها ملك الدولة التي هي هو، وما دام هو الدولة، وهو الباقي فيها، فهو يبنيها لنفسه ولأبنائه من بعده.

المعنى المستفاد من حديث المقاول/ الفنان محمد علي عن قصور السيسي وفنادقه وفلله واستراحاته، هو أنّ هذا الأخير بدأ من لحظة صعوده الأولى يخطّط للبقاء في حكم مصر حتى آخر أنفاسه، وبالرغم من أكاذيبه الكثيرة، فإنّ فلتات لسانه، كانت دائما ما تعزّز الحقيقة التي تؤكّدها قصوره، فالرجل قال صراحة إنّه لن يسمح لأحد بالاقتراب من كرسي الحكم!

 

السيسي بدأ من لحظة صعوده الأولى يخطّط للبقاء في حكم مصر حتى آخر أنفاسه، وبالرغم من أكاذيبه الكثيرة، فإنّ فلتات لسانه، كانت دائما ما تعزّز الحقيقة التي تؤكّدها قصوره،

يبدو الأمر واضحا وجليّا الآن، بما لا يستدعي هذا الشرح والبيان، ولكنّه لم يكن كذلك أوّل الأمر لدى الحمقى الذين توهّموا أنه يمكن لأحد أن يصنع انقلابا ويسفك الدماء ويقامر بنفسه لأجل أحد آخر غيره، وإذا حصل هذا في سياقات معيّنة لها حيثياتها الخاصّة فهو الاستثناء، وأمّا ما فعله السيسي بانقلابه وما رافقه وتبعه؛ ما كان لينتهي إلا باستغلاله القوّة التي بيده ليحمي نفسه أولا، وهذا يتأتّى في الخطوة الأولى بالوصول إلى الرئاسة، ثم بتكسير القوى والشخصيات التي صنعت الانقلاب معه، ثم بتكريس الدولة ملكا خالصا له بالقدر الذي تسمح به المعطيات والظروف، وهذا الذي حصل تماما.

الذين وقَعوا ضحيّة هذا الوهم، المدفوع بالأحقاد الأيديولوجية والغيرة السياسية والاستغلال السهل من أجهزة الدولة.. كثيرون، من قوى سياسية، وبعض ممّن كان يُسمى بشباب الثورة، ومثقفين، وغيرهم، مع أنّ الثمن الذي كانوا سيدفعونه، وتدفعه مصر، والمنطقة، بمنح الإخوان فرصتهم الطبيعية للفشل والخروج من الحكم.. لا يكاد يذكر؛ بالنسبة للدمار الذي خلّفه السيسي، بيد أنّ عمق الجهل السياسي والاهتراء الأخلاقي، كان يستدعي هذا المسار الكاشف، والنتائج بنت مقدّماتها.

هذا المرض (بطلب الانقلاب من الجيش ثم توهّم استلام الحكممنه على طبق من ذهب) قديم، ولم تكن القوى السياسية المؤيّدة لانقلاب السيسي أوّل من أصيب به، بل هو موجود من قبل كما في حالة حزب التحرير، الذي تُشكّل نظرية طلب النصرة من الجيوش عقدة تفكيره. ومن المفارقات المحزنة أنه طلب ذلك من السيسي نفسه بعد انقلابه، بل وللأسف بعد مجزرة رابعة، فقد خاطبه في بيان رسمي قال فيه: "أيها الفريق لعلك تكون أكثر فطنة ووعيا من سلفيك فتقبل نصحنا، وبخاصة وأن لك خلفية إسلامية رأيناها في أطروحتك التي كتبتها عام 2006 أثناء دراستك في الكلية الحربية التابعة للجيش الأمريكي في ولاية بنسلفانيا، فلا يخففُ عنك خزيَ الدنيا وعذابَ الآخرة إلا أن تقطعَ حبلَ أمريكا الممتدَّ إلى الكنانة، وتنصرَ الخلافة والعاملين لها".

لا نقصد من استحضار هذا المثل، مناقشة الحالة لدى حزب التحرير في بعديها الأخلاقي والسياسي، وإنما هي قنطرة للانتقال إلى التصوّرات التقديسية عن الجيوش العربية. فالحزب المشار إليه يَفْصل دائما بين الأنظمة الحاكمة وبين الجيوش التي يرجو منها النصر، ويرفع تلك الجيوش إلى مرتبة فوق تاريخية وفوق طبيعية، ويجرّدها من كل الملابسات والارتباطات التي تورّطت فيها الأنظمة الحاكمة، وورّطت فيها جيوشها ومؤسّسات الدولة كلّها. وهذه التصوّرات نجدها شائعة لدى أوساط كثيرة، سياسية وثقافية.

 

كتب بعض المثقفين نافيّا وجود شيء يُدعى حكم العسكر؛ لأنّ الجيوش لا تحكم، فهي بنى هرميّة تراتبيّة لا تتسم بخصائص الأحزاب والقبائل مثلا، وإنّما الذي يحكم هو شخص من الجيش أو فئة منه، يعتمد بشكل كامل على أجهزة الرقابة لضمان عدم انقلاب الجيش عليه

في الآونة الأخيرة، وقبل تسجيلات محمد علي، وفي سياق الأحداث السودانية، حينما بدا الأمر في لحظة ما انقلابا عسكريّا.. كتب بعض المثقفين نافيّا وجود شيء يُدعى حكم العسكر؛ لأنّ الجيوش لا تحكم، فهي بنى هرميّة تراتبيّة لا تتسم بخصائص الأحزاب والقبائل مثلا، وإنّما الذي يحكم هو شخص من الجيش أو فئة منه، يعتمد بشكل كامل على أجهزة الرقابة لضمان عدم انقلاب الجيش عليه.


لا أدري كم يكون هذا التصوّر مفيدا في الواقع، فالحكم بواجهات مدنيّة وبالاستعانة بأجهزة الرقابة والمخابرات، لا ينفي الفاعلية السياسية للجيوش على النحو الذي يجعلها طرفا سياسيّا بمصالح خاصّة، ولا ينفي تدخّلها في اللحظات المغرية، بصرف النظر عن أسباب ذلك وسياقاته، ولا إفراز طبقة حاكمة من الجيوش نفسها؛ تستند في أوّل أمرها إلى علاقتها بالجيش وتربيطاتها فيه وتوريطه معها، ثمّ بعد ذلك قد تتغيّر سيناريوهات موقع الجيش والعلاقة به حسب تحوّلات النظام، إلا أن استثمار الجيش وتوريطه من فئة طامحة فيه حاصل على أيّ حال، والأمر في مصر وبعد انقلاب السيسي فاق أن يتولّى الجيش الحكومة، أو يحتكر اقتصاد البلد، بل صار الجيش هو الدولة نفسها، وفي صفقة مفتوحة وتبادلية مع الرئيس، حتّى لو كان ذلك من خلال فئة منه. فاستثمار قوّة الجيش الماديّة والمعنويّة حاجة متبادلة اليوم بين الرئيس الانقلابي وقيادات الجيش التي يجري توريطها وإفسادها باستمرار.

 

مهما كانت طبيعة الحكم، أيّ حكم، وخلفياته، فإنّه يستند على عدّة أركان، وتعدّد الأركان لا يدفع عن أحدها اشتراكها في الحكم أو قيادتها له، كما أنّ هذا التصوّر لعلاقة حكم السيسي بالجيش لا يفترض الأبديّة والثبات

فنحن وإن كنّا نتحدث عن حكم شخص هو السيسي، فإنّ علاقته بالجيش تبادلية، فقد أظهرت سياساته، ثم ردّ فعله على تسجيلات محمد علي.. حاجته إلى الجيش، واستفادة الجيش منه. فالتسجيلات كشفت المستوى الذي تورّط فيه الجيش، وطبيعة تلك العلاقة التبادلية بينه، وإن من خلال فئات عليا منه، وبين الرئيس الانقلابي، والذي وإن كن يعتمد في حكمه على واجهات وأجهزة متعددة، فإنّ هذا لا يخلّص الجيش من كونه طرفا سياسيّا هو الأكثر استفادة من حكم السيسي. كما أنّه وفي كل الأحوال، ومهما كانت طبيعة الحكم، أيّ حكم، وخلفياته، فإنّه يستند على عدّة أركان، وتعدّد الأركان لا يدفع عن أحدها اشتراكها في الحكم أو قيادتها له، كما أنّ هذا التصوّر لعلاقة حكم السيسي بالجيش لا يفترض الأبديّة والثبات.

تظلّ كلمة أخرى في تلقّي السيسي، شخصا ونظاما، لهذه التسجيلات، فقد كشفا عن ارتباك وتوتّر واضحين، وسوء إدارة في معالجتها. ما يعنيه ذلك، هو الضعف الكامن خلف سطوة القوّة ومظاهر الاستقرار الزائف، وإن كنّا لا ندري كيف يمكن أن ينعكس ذلك في الظاهر في تحوّلات جدّية. وإذا كنّا نرى بلاد الثورات العربية لم تستقرّ بعد، والإقليم والعالم ما يزالان متداخلين معها، فإنّ النظام السيسي ليس بعيدا عن سيولة هذا المشهد واحتمالاته المفتوحة.

التعليقات (1)
عارف صابر
الثلاثاء، 17-09-2019 04:19 م
في أحد الأيام التعيسة من حياة أمتنا ، حصلت غلطة تاريخية لا نزال نعيش آثارها السيئة حتى يومنا هذا و هي غلطة "شيخ الإسلام" المعاصر للسلطان العثماني سليم الأول الذي أراد تبني اللغة العربية كلغة رسمية للدولة فاستشار من حوله و كان بينهم هذا الشيخ ، فقال له الشيخ ناصحاً بعدم فعل ذلك مستشهداً بآية كريمة غير مناسبة من سورة الروم "وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ" فانصرف السلطان عن فكرته لقلة فقهه و ثقته الزائدة بالشيخ . لقد كان هذا الاستدلال خاطئاً تماماً ليس فيه أي فقه يقوم بتحقيق المناط أي إنزال الحكم الشرعي المناسب المستنبط على الواقع القائم بعد دراسة هذا الواقع . الضعف في تحقيق المناط لا يزال يصاحب أمتنا منذ بضعة قرون و حتى الآن و على الأخص ممن وضعوا أنفسهم كعناوين "فاعلة" لتغيير واقع الأمة نحو الأفضل مع أنهم كأفراد و جماعات ما زادوا الأمة إلا انتكاساً و فقداناً للأمل على وجه الحقيقة . كيف يطلب عاقل النصرة من جيوش هي مجرد جحوش ؟ كيف يتم طلب نصرة من ضباط فاسدين و أحياناً خارجين من ملة الإسلام بإلحاد أو بانتماء إلى دين آخر مثل الدين النصيري أو الدين الشيعي الفارسي أو الدين القبطي ؟ كيف يجري تبني منهج الهندوسي غاندي "السلمي" برفع شعار (سلميتنا أقوى من الرصاص) مع أن الجحوش و المخابرات التابعة للأنظمة لا لغة لديها سوى القتل و البطش و الزنازين ؟ جميع الناشطين من أفراد و جماعات بحاجة إلى إعادة نظر بوضعهم لتصويب المسار لأنه لا يمكن لطبيب أن يداوي الناس و هو عليل . و على سيرة الطب ، من أهم واجبات الطبيب إتقان تشخيص المرض ثم وصف الدواء الفعال المناسب للداء و هذا مشابه للقيام بتحقيق المناط في الشرعة التي ارتضتها أمتنا .