كتب

كيف استفادت الحركة الصهيونية من تزعم أمريكا للعالم؟

تمتاز إسرائيل بأوسع هوة بين الأغنياء والفقراء في العالم الصناعي برمته  (أنترنت)
تمتاز إسرائيل بأوسع هوة بين الأغنياء والفقراء في العالم الصناعي برمته (أنترنت)

الكتاب: الهجرة المعاكسة وتداعياتها على الكيان الصهيوني 
الكاتب: عبد الحليم غانم 
الناشر: الهيئة السورية العامة للكتاب،الطبعة الأولى 2019.
(272 صفحة من القطع الكبير).

بعد الحرب العالميّة الثّانية وبروز الولايات المتّحدة كقوّة عظمى عملت الحركة الصهيونية العالمية على أن تحل الولايات المتّحدة محل بريطانيا في احتضان أهدافها. وفيما يسود اعتقاد راسخ ومهيمن لدى  الأنظمة السياسية العربية، ولدى الكثيرين من العاملين في الحقل السياسي والإعلامي العربي، وحتى في الأوساط الشعبية العربية، يقوم على أساس أن إسرائيل هي التي توجه السياسة الأمريكية في العالم العربي، وتحدد لها مواقفها من الصراع العربي الصهيوني، هناك رأي آخر في العالم العربي ينظر إلى هذه العلاقة من منظار مختلف، حيث إن هذه العلاقة ليست بين طرفين متكافئين، وإنما هي علاقة متعددة الجوانب، ومتشابكة، ومعقدة.

المسألة الجوهرية في هذه العلاقة، أن المشروع الصهيوني قبل أن يتجسد ماديا في قيام دولة إسرائيل، ارتبط تاريخيا بالمراكز الإمبريالية العالمية، ينفذ المخطط الإمبريالي على الصعيد العام، لكنه يحتفظ لنفسه بتجسيد مصالحه على الصعيد الخاص.
 
ومنذ مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، عملت السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة خلال تلك المرحلة على إقرار حق اليهود الأمريكيين في فلسطين وإقرار حق الحماية القنصليّة لليهود. وكان  الكثير من السّاسة الأمريكيين يعارضون مثل هذا التّدخّل لصالح اليهود، لأنّه مضرّ بالمصالح الاقتصاديّة والسّياسيّة لأمريكا في المنطقة. 

قاعدة عسكرية متقدمة في فلسطين

ولما كان المشروع الصهيوني ليس سوى مشروع استعماري عسكري بريطاني ـ أمريكي، فإنه منذ أن أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض (1939)، لم تعد حاضنة ملائمة لاستمرار المشروع الصهيوني، عمد زعماء الحركة الصهيونية العالمية إلى عقد "مؤتمر بلتيمور"عام 1942، الذي كان يعني نقل مركز الحركة الصهيونية العالمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها أصبحت القوة الصاعدة والقائدة للمعسكر الإمبريالي خلال الحرب العالمية الثانية، ولهذا السبب قرر المؤتمر الصهيوني الذي عقد في بلتيمور، ضرورة أن يكون هناك 40% من الأعضاء المشتركين في المجلس الصهيوني من الولايات المتحدة. وعندما تم إعلان قيام دولة إسرائيل، قال أحد أعضاء المنظمة المسؤولة عن التمويل اليهودي في أمريكا سائلا بن غوريون عما تطلبه إسرائيل من يهود أمريكا، فأجاب الأخير: "الدولة الجديدة سوف تحتاج عون الولايات المتحدة لتستطيع البقاء".

 

تشير المعطيات الإحصائية الصهيونية إلى أنّ أكثر من (20%) من المهاجرين اليهود إلى فلسطين بين عامي 1948 ـ 2008م، قد غادروا فلسطين المحتلة نتيجة عدم قدرتهم على التكيف مع ظروف حياة مختلفة كليا عمّا هي عليه في البلدان التي نشأوا فيها.


وهكذا أصبحت إسرائيل من منظور المصالح الاستراتيجية الأمريكية قاعدة عسكرية متقدمة في فلسطين المحتلة، ومركزا إقليميا يقوم بدور وظيفي عسكري لقمع النضالات الوطنية والقومية لحركات التحرر الوطني العربية.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقيام الكيان الصهيوني بفعل خارجي إمبريالي أساسا، ارتبطت إسرائيل بنيويا بمركز الرأسمالية العالمية والقوة القائدة لها، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: الولايات المتحدة الأمريكية، وبمراكز القوى الاقتصادية المتنفذة فيها، ومن ثم بالاستراتيجية الكونية لهذه الإمبريالية الصاعدة، الهادفة إلى بسط سيطرتها ونفوذها في العالم العربي، مستفيدة من تقهقر القوتين الاستعماريتين الآيلتين للأفول بريطانيا وفرنسا.

تزايد أعداد المستوطنين المغادرين من الكيان الصهيوني 

يثير قلق المسؤولين الصهيونيين من الهجرة المعاكسة ارتفاع نسبة المغادرين من الكيان، إذ تشير المعطيات الإحصائية الصهيونية إلى أنّ أكثر من (20%) من المهاجرين اليهود إلى فلسطين بين عامي 1948 ـ 2008م، قد غادروا فلسطين المحتلة نتيجة عدم قدرتهم على التكيف مع ظروف حياة مختلفة كليا عمّا هي عليه في البلدان التي نشأوا فيها. وسجلت الإحصاءات الصهيونية أرقاما عالية للهجرة المعاكسة إلى خارج فلسطين، إذ تجاوزت ثلاثة آلاف مهاجر سنويا، وثمّة احتمال بارتفاع نسبة الهجرة المعاكسة من فئة الشبان بحوالي (40%)، هذا مع العلم أن وزارة الهجرة والاستيعاب الصهيونية لا تصرح بعدد المستوطنين الذين يغادرون الكيان الصهيوني .

يستند الباحث عبد الحميد غنيم في تحليله لموضوع الهجرة المعاكسة من الكيان الصهيوني على "دراسات تشير إلى أنّ أكثر من 40 ألف مستوطن ممن يحملون جنسيات دول مختلفة إلى جانب "الجنسية الصهيونية" غادروا هذا الكيان، ويرفضون العودة إليه، كما تبيّن هذه الإحصاءات أن ثلاثة يهود بين كل 2000 مستوطن قد غادروا الكيان بين سنتي 2005 ـ 2008م، ويرتفع عدد المستوطنين المغادرين إلى 15 شخصا من بين كلّ 2000 مستوطن، سبق لهم أن هاجروا إلى فلسطين من دول الاتحاد السوفييتي السابق ودول شرق أوروبا، أي إنّ أكثر من 72 ألف يهودي ممن قدموا إلى الكيان من تلك الدول قد عادوا إليها مجددا، أو أنهم اتجهوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وترافق ذلك مع استمرار الهجرة المعاكسة وحركة مغادرة الصهيونيين، فقد غادر الكيان سنة 2013م حوالي 16.200 يحملون جوازات سفر إسرائيلية، رجع في السنة نفسها 8.900، أي إن عدد المستوطنين المهاجرين بشكل معاكس بلغ أكثر من سبعة آلاف"(ص 82 من الكتاب).

ففي الوقت الذي أصبحت فيه إسرائيل تعاني من خطر الهجرة المعاكسة، تراجع أيضا شعور اليهود الذين يقيمون في البلدان الغربية، ولاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية بالانتماء إليها. وكان القادة الجدد للدولة الإسرائيلية، يؤكدون أن شرط الصهيونية هو العيش في إسرائيل، وقد عبّر الجنرال موشي دايان عن هذه القناعة في تصريحه الشهير بكندا في 9 آذار (مارس) 1960، حين قال، "إن حكومته تمثل اليهود في إسرائيل ومصالح اليهود في كل مكان". وكذلك ما صرحت به غولدا مائير في 15 نيسان (أبريل) 1960، حين قالت: "سوف تواصل إسرائيل التحدث باسم اليهود". 

وفي كانون أول (ديسمبر) عام 1960، أصدرت اللجنة اليهودية الأمريكية مذكرة انتقدت فيها بشدة تصريحات بن غريون أمام المؤتمر الصهيوني الخامس والعشرين التي قال فيها، إن اليهود الذين يعيشون في الخارج يعيقون إكمال الإنجاز اليهودي، "كما أن يهود الشتات في الدولة الغنية يعيشون تحت تهديد "قبلة الموت" من خلال عملية الانصهار التدريجي". كما انتقدت اللجنة قانون العودة لأنه يعطي الانطباع بأن اليهود خارج إسرائيل هم يهود مشردون وبأن إسرائيل هي وطنهم الطبيعي. وكان رئيس الجمعية اليهودية الأمريكية بلوستين التقى بـ(بن غوريون) عام 1961، وأكدا التزامهما بالاتفاق السابق مع اختلافهما على تعريف معنى من هو اليهودي، وأكد رؤساء الحكومات اللاحقة هذا الالتزام الرسمي، لكن حرب حزيران عام 1967 غيّرت العلاقة بين إسرائيل ويهود الشتات في لمح البصر.
 
في هذا السياق، يقول الباحث عبد الحميد غانم: "أكدت دراسات ديمغرافية قدمت لـ"مؤتمر هرتزليا" الذي عقد سنة 2013م، أن (22%) من الصهيونيين أكدوا ميلهم للهجرة بسبب الوضع الاقتصادي والأمني المتدهور وانتشار الفساد في الكيان، وسعيهم للبحث عن حياة أفضل من ناحية العمل والتعليم على المستوى الشخصي، خاصة لدى قطاعات المستوطنين اليسار، كما كشفت الدراسات أن (24%) من أصحاب الدرجة العلمية الجامعية يفكرون بالهجرة، وأن واحدا من بين أربعة أغنياء يفكرون بذلك أيضا، وأن المستوطنين العلمانيين يميلون أكثر من المتدينين للهجرة المعاكسة.

وحسب دراسة صادرة عن مركز تراث "بيغن"، فإنّ (59%) من اليهود في الكيان توجهوا أو يفكرون بالتوجه إلى سفارات أجنبية للاستفسار وتقديم طلبات للحصول على جنسيات أجنبية، بينما أبدت (78%) من العائلات اليهودية دعم أبنائها الشباب لمغادرة الكيان. ويستدل على دراسة صادرة عن مركز "مدى الكرمل" في حيفا أن هناك 1.5 مليون مستوطن إسرائيلي يحملون جوازات سفر لعدد من دول العالم، إضافة إلى مئة ألف يحملون جواز سفر ألماني، ونصف مليون يحملون جواز سفر أمريكي، فضلا عن وجود 250 ألف طلب جنسية قدمها صهاينة إسرائيليون لسفارة واشنطن بالكيان"(ص83 من الكتاب).

إسرائيل تحولت إلى أخطر مكان في العالم لليهود

إذا كانت الحركة الصهيونية العالمية قد استفادت تاريخيا من المحرقة اليهودية، واستغلتها في تبرير إيجاد "دولة إسرائيل" في فلسطين، فإنّه على الرغم من مرور واحد وسبعين عاما على تأسيسها ، عجزت هذه الدولة في خلق وطن آمن لليهود بالفعل. فلا تزال إسرائيل اليوم، تعيش في حالة حرب دائمة مع العرب عامة، والفلسطينيين خاصة، وهي تشكل أخطر مكان في العالم بالنسبة إلى اليهود، وذلك ببساطة، لأنها أقيمت لكي تظل قاعدة استراتيجية متقدمة للإمبريالية الغربية، تقوم بدور وظيفي في إطار المخطط الإمبريالي العام حسب كل مرحلة تاريخية .

 

على الرغم من المساعدات الهائلة التي تغدقها على إسرائيل، حاميتها الولايات المتحدة، والفوائد التي تجنيها من المجتمع اليهودي الدولي، تظل إسرائيل مجتمعا يعيش أزمة اجتماعية واقتصادية خطيرة،


إن إسرائيل أوجدتها الإمبريالية الغربية الذي انتقل مركز قيادتها من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي إحدى الأدوات الرئيسية في الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي الغربي بزعامة أمريكا وبين المعسكر الاشتراكي الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي سابقا، وقامت باحتلال فلسطين وزرع استعمار استيطاني فيها، وشردت شعبها، وحرمت القسم المتبقي منه وسائل التعبير العادية والدفاع عن الذات، وأوهمت يهود العالم بأنها ستخلق لهم جنة تؤويهم في فلسطين. لكن المستوطنين الذين قدموا من أوروبا، الغاصة بالأنهار والغابات، حين رأوا المساحات القاحلة في فلسطين، التي تخلو من أي شجرة في بعض المناطق، شعر الكثير منهم بخيبة الأمل. فالمجتمع الصهيوني الاستيطاني الذي أوجدته إسرائيل، يخالف حقائق المجتمع البشري وترابط أجزائه بعضها مع بعض، لأنه مجتمع عسكري لا رابط بين أعضائه سوى التعطش لسفك الدماء والاستعداد لخوض الحروب، مثله في ذلك مثل أي مجتمع مرتزق يقوم بوظيفة حربية. ولكن إلى متى؟ 
 
على الرغم من المساعدات الهائلة التي تغدقها على إسرائيل، حاميتها الولايات المتحدة، والفوائد التي تجنيها من المجتمع اليهودي الدولي، تظل إسرائيل مجتمعا يعيش أزمة اجتماعية واقتصادية خطيرة، وتتفشى فيه البطالة، وجيوب الفقر المدقع، والعديد من علامات التفسخ الاجتماعي. وتمتاز إسرائيل بأوسع هوة بين الأغنياء والفقراء في العالم الصناعي برمته. ويعجز أكثر من نصف العائلات الإسرائيلية عن دفع فواتيره الشهرية، كما لا يقدر 14% من الإسرائيليين تدبير طعام مناسب. لهذا كله، تعيش إسرائيل هجرة معاكسة، باتجاه الغرب .

 

اقرأ أيضا: إسرائيل في نظر العرب قاعدة إمبريالية أنشأتها دول غربية

التعليقات (1)
هند
الثلاثاء، 15-03-2022 08:30 م
شكرااان لكم على مجهوداتكم جبار ??