مقالات مختارة

التدخل التركي في مهب التناقضات حول سوريا

عبد الوهاب بدرخان
1300x600
1300x600

ثورة شعب سوريا، ثم الأزمة والحرب اللتان نجمتا عنها سلّطت الضوء على الأهمية المعروفة تاريخيا للموقع الجيواستراتيجي لسوريا، ومن ثم شكّلت اختبارا عمليا، دمويا ولا إنسانيا، لما ينطوي عليه هذا الموقع من تعدّد هويات دينية وعرقية داخليا وإقليميا، ومن تقاطع مصالح دولية.

 

وبطبيعة الحال كانت الاختبارات الأهم والأكثر قسوة تلك المتعلقة باستعدادات الداخل والخارج المتدخل في سوريا لرفض الاستبدادية المطلقة للسلطة، وبلورة ديمقراطية ما للحكم، بغية إخماد الصراعات وإدارة التنوّع.

 

لكن السقوط المطّرد لما عُرف بـ"قيم العصر" ساهم في سقوط كل الرهانات في سوريا ليحسم المجتمع الدولي أو بعضٌ منه بأن "الاستبداد أفضل/ أهون من الإرهاب"، معبرا بذلك عن عجزه وليس عن "حكمته".

حضرت هذه الصورة في كل محطات الأزمة والحرب السوريتين: من تدخّل إيران نصرة للنظام ضد شعبه، ودفاعاً عن مشروع إيراني إقليمي، إلى تدخّل روسيا لإنقاذ النظام، لكن لترسيخ موطئ قدم لها في الشرق الأوسط، إلى تدخّل الولايات المتحدة، بالتزامن لمحاربة إرهاب تنظيم "«الدولة"/ "داعش"، وأيضا لإيجاد دور أمريكي في سوريا، ووضع حواجز أمام النفوذ الإيراني، إلى توافق أمريكي - روسي نادر على تدخّل إسرائيل ومكافأتها بضم الجولان، وصولاً أخيرا إلى تدخّل تركيا بداعي محاربة إرهاب آخر (أكراد حزب العمال الكردستاني)، ودفاعا عن الأمن القومي التركي.

 

حظيت هذه التدخّلات، كلّ في حينه، باهتمام دولي أقلّ أو أكثر بحسب المصالح الأمريكية والغربية: الاتفاق النووي مع إيران، اجتذاب روسيا إلى مفهوم متوازن لحل سياسي متوازن ينهي الأزمة في سوريا، وفيما بعد اعتماد الضربات الإسرائيلية لإبلاغ رسائل إلى إيران، وفي كل المراحل استخدام المعارضة السورية وفصائلها المقاتلة لأهداف شتى لم يتبيّن أن بينها ما يمكن أن يحقّق طموحات الشعب السوري، بل كانت انعكاساً للصراعات بين القوى الخارجية المتدخّلة.


وحده التدخّل التركي يفجّر حالياً انقسامات دولية بمقدار ما يكشف من تناقضات وحتى تقاطعات. فمثلاً تلتقي أمريكا وروسيا على "تفهّمه" من دون تأييده، وكلٌّ منهما من موقع تنافسها مع الأخرى على تركيا. وتلتقي إيران وإسرائيل على رفضه من منطلق التنافس مع تركيا على تقاسم الحصص الإقليمية/ العربية.

 

وتلتقي إيران مع النظام السوري على رفضه؛ لأنهما يريدان أن يكونا مكان تركيا في شمال شرقي سوريا، لكنهما يلتقيان مع تركيا في سعيها إلى القضاء على مشروع الكيان الكردي الخاص في تلك المنطقة، مثلما التقيا سابقاً في رعاية نفوذهما على حزب العمال الكردستاني لتوظيفه ضد تركيا. وإذ تلتقي الدول الأوروبية أيضاً على رفضه، سواء خشية تجدّد قوافل اللاجئين، وإمكان انبعاث تنظيم الدولة، أو تعاطفا مع "القضية الكردية"، فإن هذه الدول لم تبدِ اعتراضات حازمة على التدخّلات الأخرى، وفضّلت دائماً الاختباء وراء الولايات المتحدة.


بهذه الخريطة من المواقف يتبيّن على نحو قاطع أن أياً من القوى المتدخلة لا تضع مصالح شعب سوريا في حساباتها، ولا تتبنى حقوقه وقضيته، يتساوى في ذلك مَن ادعوا يوماً دعم هذا الشعب ومَن استعدوه منذ البداية. أما بالنسبة إلى أكراد سوريا، كأقلية لها طموحات وحقوق، فتستحق الإنصاف بمعزل عن تدخّل حزب العمال الكردستاني في شؤونها.

 

كان أجدى أن يوضح الأوروبيون حقيقة هذا الحزب، ويزيلوا خطره عن تركيا، بدل تضخيم قدراته لاستخدامه ضدّها، ثم التباكي على خذلانه أمريكيا. ثمة أكثرية كردية تشكو من تسلّط هذا الحزب وأدواره المشبوهة.

التعليقات (0)