أخبار ثقافية

أصل الرواية ونشأتها (3)

يرى باختين أنّ جذور الرواية ترتبط بصور تراثيّة وبحالة طقسيّة تلقيديّة - أرشيفية
يرى باختين أنّ جذور الرواية ترتبط بصور تراثيّة وبحالة طقسيّة تلقيديّة - أرشيفية

على الرغم من تأثير الموقف الماركسيّ من نشأة الرواية المرتبط مباشرة بظهور الطبقة البرجوازيّة وتناقضاتها في التصوّر العامّ عن هذا الفنّ وتطوّره، بما يتضمّنه ذلك من مرجعيّة الموقف الهيجليّ المبنيّ على تطوّر الوعيّ، فقد تَعرّض الموقف الماركسيّ لنقدٍ جذريٍّ على يد الفيلسوف والناقد الروسيّ ميخائيل باختين (1895-1975). وينطلق باختين في رفضه لتفسير الماركسيّة عموما لنشأة الرواية، ولنظريّة لوكاتش ولأساسها في نظريّة هيجل خصوصا من اعتقاده أنّ الرواية تنتمي إلى الثقافة الشعبيّة في التقاليد القديمة، لا سيّما الطقوس الكرنفاليّة واستعراضاتها الاحتفاليّة.

وبما أنّ باختين يرى أنّ جذور الرواية ترتبط بصور تراثيّة وبحالة طقسيّة تلقيديّة، فهي بالتالي غير معتمدة في ظهورها على الطبقة البرجوازيّة. وكذلك الأمر، يقف باختين موقفا صارما ضدّ النظريّة الهيجليّة في نشأة الرواية، على أنّها تطوّر للملحمة نتيجة لتطوّر الوعيّ الإنسانيّ في العصر الحديث الذي تسود فيه قيم الفرديّة المختلفة كليّا عن نموذج العصر الملحميّ، حيث خضع المجتمع بأسره في تلك الحقبة لهيمنة شكلٍ ثابتٍ من القيم الجمعيّة غير القابلة للتغيّر والتميّز، بالإضافة إلى ربط شكل المجتمع الحديث بالدولة الحديثة وما تولّد عنها من تصوّرات عن الذات الفرديّة والعلاقات الجمعيّة.

رأى باختين أنّ أساس الإشكاليّة في التفسير الهيجليّ ينبع من إغفاله أنّ الرواية والملحمة جنسان أدبيّان لا تجمعهما سماتٌ وخصائصُ مشتركة لكي تُربط المتأخّرة مع السابقة باعتبارها تطوّرا عنها. ولعلّ أهمّ ما يورده باختين في مناقشته للاختلاف بين الرواية والملحمة هو وصفُه للملحمة بأنّها ذات نظام ثابت على مستوى البنية، ورؤية واحدة ومنظور واحد على مستوى تصوّر الوجود والعلاقات فيه؛ فالملاحم المختلفة تمتلك الأشكال والبنى والرؤى نفسها مهما اختلفت شخصيّاتُها وحكاياتُها.

على العكس من ذلك، الرواية فنّ غير مستقرٍّ على صيغة بنائيّة ثابته؛ فهو في صيرورة غير قائمة على شكلٍ ثابتٍ، ومختلف جوهريّا عن الفن الذي تكون مكوّناتُه وخصائصُه منجزةً بشكلٍ مسبق. وهذه الصيرورة تحفظ لفنّ الرواية قدرته على الاستمرار في التطوّر وفق صيرورة المجتمع وتطوّره غير المتناهي. وفقدان هذه السمة في الفنون القديمة، كونها قامت على أشكال ثابتة، كان السبب الرئيس في موت تلك الفنون وعدم قدرتها على الاستمرار وملاءمة أشكال المجتمعات وأفكارها المتغيّرة.

وينطبق الأمرُ نفسُه على مستوى الرؤية والمنظور التي تتضمّنها الملحمة والرواية، فبينما رؤية الملحمة وشخصيّاتها ثابتة لا تتغيّر ولا تنمو، وإنّما تقوم على رؤى وتصوّرات ثابتة، تتسم الرواية بحيويّة كبيرة للغاية تمكّنها من الجمع بين الرؤى المتناقضة والأصوات المتعددة. هذا التعدد يشمل مستوى العمل الروائيّ الكليّ ومستوى الشخصيّات التي تقبل طبيعتها أيضا التغيّر من منظور إلى منظور، فيمكن أن تنتهي في مكان مغاير أو ربّما مناقض لما كانت عليه في البدايات.

ولا بدّ من التأكيد هنا أنّ باختين يقف هذا الموقف الرافض لربط الرواية بظهور الطبقة البرجوازيّة على الرغم من أنّه ينتمي إلى الأيديولوجيا الماركسيّة، لكنّه قدّم نظريّته في الرواية دون الانقياد إلى الأطر الأيديولوجيّة التي حكمت تصوّرات غالبيّة النقاد الماكسيين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ظهرت نظريّة باختين عن الرواية في سياق صعود الشكلانيّة الروسيّة التي عدّت الأدب بنيةً شكليّة معزولةً وقائمةً على استقلاليّة عن المجتمع. على العكس من الشكلانيين والماركسيين، رأى باختين أنّ الرواية تنتمي إلى إطار جمعيّ لكنّه ليس اجتماعيّا، وإنما هو على مستوى الجنس الأدبيّ، حيث ينتمي الكاتب إلى ما يسمّيه باختين بـ "الذاكرة الجماعيّة"، وهذا يخالف تماما البعد الفرديّ الذي اعتمدت عليه الماركسيّة في ربطها بين الرواية والمجتمع البرجوازيّ. 

 

اقرأ أيضا: أصل الرواية ونشأتها (1)

اقرأ أيضا: أصل الرواية ونشأتها (2)

على أنّ هذا لا يُلغي اهتمام باختين بالأيديولوجيا في دراسته للرواية خصوصا وللأدب عموماً، فاللغة الأدبيّة والخطاب الأدبيّ عنده تتضمّن الأيديولوجيا بشكل غير مباشر، ذلك أنّها في نهاية المطاف تصوّر عن العالم يتحقق من خلال جملة من العلاقات الداخليّة في النصّ الأدبيّ والخارجيّة التي تجعله جزءا من جنس أدبيّ من ناحية، وتحقق صوت الكاتب باعتباره جزءا من مجموعة أوسع من الأصوات الاجتماعيّة من جهة أخرى. الرواية تظهر في سياق اجتماعيّ معيّن وضمن معطيات تاريخيّة محددة لا يمكن للرواية أن تكون معزولة عنها، لذلك يَعدّ باختين الرواية صوتا من الأصوات التي هي في حالة "حواريّة" معها باستخدام لفظ باختين، فتكون الرواية جزءا من ذلك السياق ومن تلك الأصوات، دون أن تعبّر عنها بطريقة مباشرة أو دعائيّة متعمّدة. والمتكلّم في الرواية يحمل رؤية معيّنة عن العالم ويمثّل في سياقه قيمة اجتماعيّة، الأمر الذي يجعل منه ومن منظوره مادة لتجسيد الخطاب. وبهذا يحقق باختين اختلافا كبيرا عن الشكلانيين الروس الذين كانت وجهات نظرهم ردّا على الدعوة إلى توظيف الأدب في خدمة الأيديولوجيا.

وفي إطار الحديث عن فكرة "الحواريّة" عند باختين، لا بدّ من التوضيح أنّ المستويات اللسانيّة المتعددة والمختلفة التي تشمل كلّ مستويات الخطاب العام وكذلك الأمر بالنسبة للأصوات في الرواية هي ذات طابع مزدوج، بحيث يمثّل كلّ واحد منها الصوت والمفهوم ونقيضه، أو اللغة ومقابلها، وهذا يجعل الرواية نوعا أدبيّا قائما في طبيعته الداخليّة على "الحواريّة" بالإضافة إلى البعد الخارجيّ لهذا المفهوم.

التعليقات (0)