قضايا وآراء

الإسلام والرجم (20): بم تثبت الحدود في الإسلام؟

عصام تليمة
1300x600
1300x600
إن الحديث عن الرجم يتطلب منا حديثاً عن الحدود بشكل خاص، من حيث تأصيلها، والاستدلال عليها، وهو ما يتطلب منا طرح سؤال مهم وجوابه، وذلك من حيث الأصول، أي كيف تثبت الحدود أصولياً؟ وقصدنا بالإثبات هنا من حيث الثبوت، أي دليله الشرعي الذي تثبت به العقوبة، لا الإثبات من حيث الشهود الذين يتوفر بهم شرط تطبيق العقوبة.

فهل تثبت الحدود بآيات وأحاديث متواترة، أم بأحاديث آحاد؟ فمما سبق تبين لنا أن الرجم ورد في السنة، وفي أحاديث لم يثبت تواترها، فهي تدور في فلك حديث الآحاد، فهل تثبت الحدود بمثل هذه الأحاديث؟

والقضية على أهميتها لم أجد الأصوليين قد أفردوا لها مباحث مفصلة، ولا أدري علة ذلك، بل ذكرت في عبارات مختصرة في بعض كتب الأصول، ولم يفردها باحث معاصر بالحديث المفصل كذلك، اللهم إلا الدكتور علي الضويحي؛ في بحث له عن حديث الآحاد، وفي مبحث من المباحث تناول "ثبوت الحدود والكفارات بخبر الواحد"، في حدود خمس صفحات، دون إسهاب في التناول للقضية وتأصيلها(1).

ونفس الأمر عند الدكتور محمد البلتاجي في كتابه: "مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري" فقد تناولها في أقل من صفحة، وكان جل تركيزه في بحث المسألة: هل يصح نسبة الرأي القائل بعدم الأخذ بحديث الآحاد في الحدود والكفارات عند أبي حنيفة أم لا؟(2).

لقد اختلف العلماء في هذه القضية، فيرى الإمام أحمد، وهو قول أصحاب الشافعي: أنه يقبل. وقد أثبت الإمام أحمد اجتماع الجلد والرجم على الزاني المحصن بخبر عبادة، وأثبت النفي والجلد على الزاني البكر بخبر العسيف.

ودليل أصحاب هذا الرأي: أنه خبر عدل فيما يتعلق بالشرع مما لا طريق فيه للعلم، ولا يعارضه مثله، فوجب العمل به، قياساً على غير الحدود.

ولأن خبر الواحد يوجب غلبة الظن، كما أن شهادة الشاهدين توجب غلبة الظن، ثم ثبت أن الحد يجب بشهادتهم، فالخبر كذلك.

يبين صحة هذا: أن الحكم بالشهادة ثابت من طريق موجب للعلم وهو الإجماع، نص القرآن، وخبر الواحد، كذلك الحكم به ثابت من طريق موجب للعلم، وهو الإجماع والقرآن(3).

واختلف أصحاب أبي حنيفة: فحكى أبو سفيان عن أبي يوسف أنه يقبل. وهو اختيار أبي بكر الرازي.

وحكى عن الكرخي: أنه لا يقبل فيه، ولا في ما يسقط بالشبهة(4).

واستدل أصحاب هذا الرأي، القائل بأن الحدود لا تثبت بخبر الآحاد، بما يلي:

واحتج: بأنه لما لم يجز إثبات القرآن بخبر الواحد، لأنه مما يعم فرضه، فكذلك غيره.

وأجاب الكلوذاني الحنبلي عن هذا الاستدلال بقوله: "إن القرآن لم يقبل فيه خبر الواحد، لا لما ذكرتم، لكن لأنه يجب علينا إثبات للعمل به قطعاً ويقيناً، بخلاف هذه الأحكام، فإن طريقها الظن، ولهذا تثبت بالاجتهاد والقياس، فجاز أن تثبت بخبر الواحد"(5).

واستدل أصحاب هذا الرأي كذلك بأن الحدود موضوعة في الأصل على أن الشبهة تسقطها، وخبر الواحد لا يوجب العلم، وإنما يوجب غلبة الظن، فيصير ذلك بمنزلة حصول شبهة، فيمتنع من ثبوته(6).

ورد عليهم مخالفوهم بأن هذا يوجب أن لا يحكم بالحد بشهادة الشهود؛ لأن العلم لا يحصل مع شهادتهم، وقد أجمعنا على ثبوته بقولهم، فبطل ما ذكروه.

وقد نقل حجتهم أيضاً الإمام السمعاني المروزي فقال: "واستدل من قال: إنه لا يقبل خبر الواحد في الحدود: بأن الحدود موضوعة في الأصل على أن الشبهة تسقطها، وخبر الواحد يفيد الظن، ولا يفيد العلم، فلا يجوز إيجاب الحد به؛ لأن أقل أحوال الخبر الواحد يحصل معه شبهة انتفاء العلم به، وإيجاب الحدود مع الشبهة لا يجوز.

وليس كالشهادة حيث ثبتت بها الحدود ولأن كانت تفيد الظن ولا تفيد العلم؛ لأن الحكم بالشهادة ثابت من طريق يوجب العلم وهو الإجماع ونص القرآن، وأما الحكم الذي يرد به خبر الواحد لم يثبت بطريق يوجب العلم"(7).

ترجيحنا في ما تثبت به الحدود:

وما نميل إليه هنا: أن الحدود لا تثبت إلا بالتواتر، وهذا شأن الحدود في معظمها، فلو تأملنا الحدود في الإسلام، بخاصة التي لا خلاف عليها، سنجد أن دليلها المتواتر لا الآحاد، أو غير المتواتر، فالقصاص من القاتل ثبت بالتواتر، وهو القرآن الكريم، بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (البقرة: 178).

وجلد الزاني ورد في قوله تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" (النور: 2).

وعقوبة السارق وردت في قوله تعالى: "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (المائدة: 38).

وعقوبة القذف وهي حدّ في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور: 4).

وعقوبة الحرابة في قوله تعالى: "إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (المائدة: 33).

فهذه كلها حدود وعقوبات لم يختلف فيها فقيه قديماً أو حديثاً، وذلك لثبوتها بالتواتر في القرآن الكريم، ولأنها حدود فيها عقوبات تتراوح بين الجلد والقتل، والنفي، والصلب، وهي عقوبات مشددة على الإنسان، فلا بد من توفر الدليل القوي الذي لا يتطرق إليه شك، ولا يتوفر ذلك إلا في المتواتر.

عقوبات إنهاء الحياة لا بد فيها من نص قطعي:

رأينا أن العقوبات التي نص عليها الإسلام أنها حدّ، توفر فيها نص قرآني قطعي لا لبس فيه، ولا غموض، ولا خلاف، ولو أننا تأملنا العقوبات التي فيها إنهاء لحياة الإنسان، سنراها نصوصاً قطعية ثبوتاً ودلالة؛ فقتل النفس التي حرم الله، ورد فيها نص قرآني هو القصاص، ومع ذلك فتح باب العفو، كما أسلفنا عند نقاشنا لحديث: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث".

وعند عقوبة الحرابة، فليس مجرد الإفساد في الأرض، أو الخروج المسلح على المجتمع، يعاقب به صاحبه بالقتل، بل إذا خرج وقتل عوقب في ذلك بالقصاص منه، وإذا تاب من قبل القدرة عليه يصبح قتله هنا سياسة لا حدّاً، وإن نص القرآن على العفو عنه؛ أي إن عقوبة القتل وإزهاق الأرواح لم ترد قطعية بإجماعٍ لا خلاف عليه، إلا في نصوص قطعية، في القرآن الكريم تحديداً فقط، وكل ما انفردت به السنة في عقوبات تنتهي بالقتل كلها ليست قطعية، وليست موضع إجماع.

والرجم عقوبة تنتهي بصاحبها بالموت، وليست أي ميتة، بل ميتة فيها آلام وتعذيب شديد، فكيف تطبق من دون ثبوتها بنص قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة؟!
__________
الهوامش:

1- انظر: دراسات وتحقيقات في أصول الفقه للدكتور على الضويحي، ص: 96-100.

2- انظر: مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري للدكتور محمد بلتاجي، ص: 238،237.

3- انظر: العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الفراء (3/888،887).

4- انظر: العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الفراء (3/887).

5- انظر: التمهيد في أصول الفقه للكلوذاني، ص: 333.

6- انظر: العدة في أصول الفقه لأبي يعلى الفراء (3/888)، والتمهيد للكلوذاني، ص: 333.

7- انظر: القواطع في أصول الفقه لأبي المظفر السمعاني المروزي (2/577).

[email protected]
التعليقات (0)