قضايا وآراء

إنه زمن الثورات.. فمن يفهم؟

غازي دحمان
1300x600
1300x600

يستحق الزمن الذي نعيشه، بالأخص في منطقتنا العربية، لقب عصر الثورات بامتياز. فقد سيطرت الثورة على أذهاننا، وشكلت وجداننا، وصنعت ذاكرتنا لأكثر من عقد من الزمن، ولا تزال تعدّ بأيام قادمة، قد تستغرق العقد القادم كله.


ولا تبدو الإجراءات التي تتخذها بعض الأنظمة والجماعات كافية لقمع الثورة، ومنعها من اختراق قلاع الاستبداد والفساد، فقد ثبت أن الثورة جهّزت بناها، وحدّدت أدواتها، ورسمت استراتيجياتها، وهي كل يوم تفاجئ طغمة حاكمة من الطغم المتسلطة على المستقبل العربي، لدفعها إلى الرحيل، أو وضعها على سكة التنازلات التي تقود للرحيل.

وتحاول نخب الحكم جاهدة، وبشتى الوسائل والطرق، تأجيل هذا الاستحقاق بكل الطرق، بالشراسة والمداهنة والتسويف والالتفاف، كل نظام حسب أدواته واستراتيجياته، لكنهم يدركون أنهم يخوضون لعبة غير مضمونة النتائج، طالما أنهم دخلوا على خط الثورات، وأصبحوا ضمن قوائمها. حالة النخب في لبنان والعراق وإيران تفضح مدى الارتباك والرعب الذي تعيشه نخب الحكم من الثورات.

 

لا تبدو الإجراءات التي تتخذها بعض الأنظمة والجماعات كافية لقمع الثورة ومنعها من اختراق قلاع الاستبداد والفساد، فقد ثبت أن الثورة جهّزت بناها، وحدّدت أدواتها، ورسمت استراتيجياتها

لقد شهدت مجتمعات المنطقة تحولات هائلة، وخاصة على مستوى توفّر المعرفة وانكشاف حقيقة النخب الحاكمة. وقد شكل ذلك معطيات لثورات الشعوب، يصعب على الآلة الديماغوجية لنظم الحكم مسحها من عقول الشعوب وإعادة وعيها إلى عصر سابق؛ حين كانت أدوات السلطة الإعلامية والحزبية ذات سيطرة كاسحة وقدرة على تشكيل وعي الناس ووجدانهم وتوجهاتهم.

لذلك، لا تنفع كل الإجراءات التي تقوم بها أنظمة الحكم في المنطقة تجاه الثورات، بل هي مجرد استجابات خاطئة ومتأخرة؛ لأن الثورات كلما زاد قمعها كلما تأججت، والدليل إيران، حيث تتحول الثورة شيئا فشيئا إلى نمط حياة وممارسة. وهي تبدو ثورة مستمرة مع بعض الاستراحات، فهي استراتيجية شعبية لمواجهة نظام القمع واستنزافه. وينطبق هذا التفسير على حالة مصر التي تبدو في حالة ثورة مستمرة، وإنما بدرجات متفاوتة من الشدّة والزخم.

تقع جميع أنظمة البلدان التي تشهد الثورات على خط أزمات، يمكن وصفها بالمزمنة، وخاصة أزمة الشرعية، حيث لا شرعية دستورية وقانونية تغلفها، ولا تتمتع قياداتها بالكاريزما، رغم انتهاء هذا النمط من الشرعيات. كما تعاني أغلب هذه الأنظمة من مشاكل القدرة على التكيف مع التطورات الراهنة، حيث لا تستطيع اللحاق بالتحولات السريعة التي تجري داخل المجتمعات، ولم يعد أسلوب مخبري الأنظمة في تجميع البيانات حول المجتمعات كافية.

 

إنهم جيل الشباب، هذا الجيل الذي لم يسعف الزمن أنظمة الحكم لتُشربه من كأس الخوف والخنوع، وقد تربى خارج أقفاصها المفاهيمية، وتشرّب قيم التمرد والثورة من الواقع الهزيل لهذه النخب

تعرف أنظمة الحكم خصمها جيدا.. إنهم جيل الشباب، هذا الجيل الذي لم يسعف الزمن أنظمة الحكم لتُشربه من كأس الخوف والخنوع، وقد تربى خارج أقفاصها المفاهيمية، وتشرّب قيم التمرد والثورة من الواقع الهزيل لهذه النخب، التي لا تعدو في نظره أكثر من كاركتيرات مضحكة، وبنفس الوقت فاسدة ومعطلة لمسار هذا الجيل صوب المستقبل. وهو لم يعد مستعدا للسكوت عنها والرضوخ لمشيئتها؛ لأن ذلك سيكون على حساب مستقبله، والزمن بالنسبة لهذا الجيل يقاس بالمعرفة والثروة التي لا يمكن أن تؤمنها نخب فاسدة ومتخلّفة.

وما دامت أنظمة الحكم لا تعي هذه التحولات الاجتماعية ولا تدرك كنهها، وبالتالي لن تستطيع تصميم استجابات مناسبة لها، والتكيّف مع هذا الواقع الجديد، فالثورة مستمرة أوتوماتيكيا في ربوعنا، والدليل أنها تنتقل من حيز لآخر، وتعاود الظهور في أمكنة سابقة، ولم يعد ممكنا قمعها مرّة واحدة وإلى الأبد. إذ إن الجيل الواحد قد يشهد أكثر من ثورة، وعلى نخب متعدّدة، والحكم لم يعد مضمونا إلى الأبد، وإمكانية نقله إلى الجيل الثاني وتوريثه أصبحت من ذكريات شعوب المنطقة الأليمة.

هو زمن الثورات، لا تنفع معه عمليات الترقيع التي يحاول البعض إجراءها. فإما أن تتغير العقول والسياسات والأساليب، أو فإن الثورة لن تنقطع عن هذه البلاد، حيث تعيش شعوب باتت مؤمنة بأن لها الحق في عيش محترم، وأن لها حقوقا في الثروة والسلطة؛ لن تتنازل عنها بعد اليوم لحفنة من اللصوص والمغامرين، وأن مستقبل أبنائها أولى وأهم.

التعليقات (0)