قضايا وآراء

وثيقة محمد علي بين الالتفاف والإرجاف

1300x600
1300x600
من مأثورات الشيخ محمد الغزالي: "الناس من خوف الفقر في فقر، ومن خوف الذل في ذل". ولقد سمعت منه رحمة الله عليه: "لا تدعوا الناس على بطون خاوية".

خلال السنوات العشر الأخيرة لم يتوقف حزب العدالة والتنمية التركي وحكوماته المتعاقبة عن بناء والمطارات والجسور والمدارس والجامعات والجوامع، وشق الطرق والأنفاق، وإنشاء الحدائق، وصناعة القطارات والطائرات والغواصات والدبابات، وتجاوزت الداخل التركي إلى بناء الجوامع والمراكز الثقافية في الدول الصديقة كإحدى أسلحتها الناعمة.

ومع أننا نرى كل يوم إنجازا جديدا يثلج صدور المطلعين على محددات السياسة وتجاذباتها، ونزداد فرحا وفخرا في كل يوم تتقدم فيه تركيا خطوة إلى الأمام، كدولة مسلمة تزاحم الكبار إقليميا ودوليا وتظهر مع كل موقف كقوة مهمة في المنطقة بل والعالم، إلا أن كل ذلك لم يكن ضمن سياسة أو خطة حزب العدالة والتنمية الذي انتخبه الشعب وأولاه ثقته خلال السبعة عشر عاما الماضية عليها، تلك الثقة التي كانت من أجل الحد الأدنى للأجور وتوفير فرص عمل ورفع القوة الشرائية للعملة، مع توفير علاج مجاني يرفع أعباء مالية تضاف في الغالب على كاهل الأسر التي تتحمل تكاليف التعليم المرهقة في ظل تدني منظومة التعليم في حينها.

الشعب التركي اليوم بشكل عام لا يفكر إلا في قوت يومه وما ينفق، ولا يهمه لا الطائرات في السماء ولا السفن في الماء، ولا أن تركيا باتت تزاحم الكبار ولا حتى أن تقف في أول صفوفهم.. ما يهم المواطن التركي هي تلك الليرة التي فقدت 30 في المئة من قيمتها خلال 2019، وهو ما أثر على مدخول المواطن في ظل تزايد التضخم وقلة الصادرات والسياحة. فأصبح على الرئيس أردوغان وحزبه التقليل من تعبيد طرق وإنشاء الجامعات وصناعة الطائرات والغواصات لملء جيوب شعبه وتوفير حاجاته الأساسية، من مأكل وملبس وتعليم وعلاج وتوفير وظائف لمئات الآلاف الذين ينضمون إلى سوق العمل سنويا، وإن كنت على يقين بأن الرئيس أردوغان وإدارته ليسوا غافلين عن هذا الأمر، وهم يعملون على مشاريع وحلول ترضي المواطن التركي من هذا الجانب. مع ذلك فإن هذا المواطن الذي وضع ثقته في الحزب عاقبه أخيرا في الانتخابات البلدية، لأن ما يهم هذا المواطن في النهاية وفي البداية هو قوت يومه.

على الرغم من أن وثيقة المقاول والفنان محمد علي ما هي إلا وثيقة جامعة للقوى الوطنية، يراد منها تجميع هذه القوى على أمر جامع بعد أن استحال هذا الأمر على مدى ست سنوات منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، وعلى الرغم من أن كل تلك القوى الوطنية اتفقت، كل على حدة، على ضرورة دحر الانقلاب وإنقاذ مصر من نظام غاشم قاتل فاشل، لم تجنِ مصر من سيطرته إلا الجوع والخراب ومزيد من البؤس والمرض، مع تقزيم هذا البلد العظيم الذي يُكبره كل العرب، ما يحمله مسؤولية هذه الأمة استقلالها ونهضتها.. إلا أن محاولات البعض وضع شروط أو محاذير أو تفسيرات لوثيقة هي أشبه باتفاق نوايا؛ هي محاولات لإفشال مسار ست سنوات وإدخال الجماعة الوطنية في دوامة لن تنفك منها أبدا.

فمحاولات أسلمة الوثيقة أو علمنتها أو أخذها باتجاه اليسار أو اليمين، أو وضع فرضيات لم تأتِ بها الوثيقة، من عيّنة تقسيم مصر، والافتئات على الجماعة الوطنية التي توافقت إلى حد كبير على أغلب ما جاء في تلك الوثيقة، ووصف كاتبها بأنه مخابرات.. كل ذلك هو قفز على الواقع ومصادرة على المطلوب.

فالجماعة الوطنية لم تتفق على شيء أكثر من اتفاقها على حتمية إنقاذ هذا الوطن، مع ذلك فإن الوقت أضاع منها فرصا كثيرة بخلافاتها على التفاصيل، لذا فإن من يحاول أن يضع شروطه على الوثيقة أو محدداته هو في الحقيقة إما واهم أو يعمل في مساحات لا يمكن أن تتلاقى مع الجماعة الوطنية.

والغريب أن هؤلاء لا يملكون في موازين القوة الحقيقية في الشارع شيئا، فالحقيقة تؤكد أننا كمقاومة سلمية لا نملك من أوراق الضغط إلا القليل، لكنها مهمة، وخصوصا بالنسبة للشارع، فيما لو وثق بنا وفي قدرتنا، فإذا حدث فإننا نملك القوة الحقيقية في معادلة السلطة. لذا فإن محاولات البعض عرقلة هذه الوثيقة هي محاولة غير بريئة، وسيذكر التاريخ موقفهم لأنهم في الحقيقة يزايدون على وطنية المعتقلين والمهجرين والموضوعين تحت الإقامة الجبرية حكما.

وثيقة محمد علي في النهاية ليست دستورا ولا قانونا، ولا هي كتاب سماوي لا يمكن مخالفته، لكن مواقف القوى الوطنية هي الحاكم في العمل الثوري المنتظر، لذا فإن العمل لا يزال كثيرا، والمشوار طويل والتكوين صعب والتدريب أصعب، والتهيئة والإعداد ومن قبلها إيجاد الحاضنة الشعبية المؤمنة بالعمل الثوري في ظل بيئة التخوين والإرجاف؛ أمر يحتاج إلى جهد لن يقوم به إلا المخلصون الذين لا يزالون يضعون تخليص وطنهم هدفا، ويؤمنون بالثورة سبيلا.
التعليقات (0)