كتب

الاستقلال التونسي وجذور الخلاف بين بورقيبة وبن صالح

كتاب يروي القصة الكاملة للاستقلال التونسي ونشأة الدولة الوطنية  (أنترنت)
كتاب يروي القصة الكاملة للاستقلال التونسي ونشأة الدولة الوطنية (أنترنت)

الكتاب: الباهي الأدغم الزعامة الهادئة.. ذكريات وشهادات وخواطر
الكاتب: إعداد وإشراف وتحرير الدكتور عبد الرحمن الأدغم، مراجعة وتنسيق الدكتور عبد اللطيف عبيد، والأستاذ عادل الأحمر
الناشر: دار نيرفانا للنشر، تونس، الطبعة الأولى تشرين ثاني (نوفمبر) 2019، 
748 صفحة من القطع الكبير

عندما طلب مني الصديق والأخ العزيز الدكتور عبد الرحمن الأدغم، أحد مناضلي حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي كنت رئيسها إلى سنة 1989، أن أكتب كلمة لتقديم كتاب والده الزعيم المرحوم الباهي الأدغم، قبلت بكل فخر وسرور، ذلك أنّي عاشرت الرجل العظيم سنوات طويلة خلال حياتي السياسية، وأحمل عنه جميل الذكريات، ويسعدني أن أثير بعضها، وأنا أقدم كتابه للقراء.

 



لقد رعاني الباهي الأدغم وحماني وأنا أخطو خطواتي الأولى في الحزب الدستوري، مناضلاً في صفوفه، وصحفيا في جريدة "ميسيون" التي كان هو رئيس تحريرها والهادي نويرة مديرها المسؤول سنة 1950. وبعد قرار تدويل القضية التونسية واعتقال عدد من الزعماء، وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة، في 18 كانون ثاني (يناير) 1952، كنت على استعداد للذهاب خلسة إلى ليبيا ومن ثم إلى أمريكا، بعد ذهاب الباهي الأدغم إلى هناك سنة 1952، لإعانته في المنتظم الأممي.

وبعد عمل دؤوب في الأمم المتحدة للتعريف بالقضية التونسية، ثم مفاوضات الحكم الذاتي، رجع الزعيم الباهي الأدغم من أمريكا. وإثر عودته إلى تونس في تشرين أول (أكتوبر) 1955 توسّط في فضّ النزاع بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، وذلك بمحضر امحمد شنيق، لكن دون جدوى.

وفي هذا الصدد، لا بد من التذكير كذلك أنّ الباهي الأدغم فرض إبعاد الجيش عن السياسة ومنع العسكريين، عندما كان وزيرًا للدفاع، أن يكونوا أعضاء أو مشتركين في الحزب الدستوري الذي كان الحزب الوحيد والحاكم، وقد سانده بورقيبة في ذلك. وواصلت بدوري على نفس المنوال عندما اضطلعت بمسؤولية وزارة الدفاع الوطني، وبقيت هذه السُنَّة متبعةً حتى الآن.

عندما سميت بداية تموز (يوليو) 1966 وزيرًا للدفاع خلفًا للباهي الأدغم... كنت أعلم أنّ الباهي الأدغم أقام مؤسسة للدفاع حجرة حجرة، وكوّن الجيش من عدم، فانتدب العديد من الشبان وأرسلهم للدراسة خارج الوطن في أحسن المدارس الحربية، حيث تكوّنوا أحسن تكوين. كما لم يغفل عن غرس الروح الوطنية في الجيش، فكرّس جهوده، منذ البداية، لتلقين الإطارات الجديدة من الضباط وضباط صف دروسًا في الوطنية الخالصة، كما أنه أدخل مادة تاريخ الحركة الوطنية في برامج تعليم مدرسة ضباط الصف. وكان مصرًّا على حفظ حرمة القطاعات الحساسة، كالدفاع والخارجية، من كل تسرب أجنبي وذلك بمنع زواج الضباط والديبلوماسيين بأجنبيات. كما أقحم الجيش الوطني في تنفيذ بعض المشاريع التنموية وخاصة المتعلقة بالبنية التحتية والتشجير، وقد تواصل ذلك بعد مغادرته الوزارة.

وإثر مؤتمر المنستير للحزب الاشتراكي الدستوري في تشرين أول (أكتوبر) 1971، والنجاح الكبير الذي حققه الباهي الأدغم في انتخابات اللجنة المركزية، وكنت قد تلوته مباشرة في عدد الأصوات، قرّر بورقيبة أن يبعدني عن الحزب ورفض دمقرطة الحزب كمرحلة أولى قبل دمقرطة الحياة السياسية عامة. وتدخل الباهي الأدغم لدى الرئيس بورقيبة لفائدة هذه الفكرة، لكن رئيس الدولة والحزب رفض ذلك، وانتهى الأمر بإقصائي من الحزب وإبعاد الباهي الأدغم عن الديوان السياسي، رغم تصويت  المؤتمر لصالحه بالأغلبية الساحقة، ومصادقته على إدراج مبدأ الديمقراطية في لوائحه. وقد تعرض سي الباهي في هذا الكتاب لما وقع آنذاك، مطولاً وبالتفصيل.

لقد كان المرحوم الباهي الأدغم (سي الباهي) وطنيًا مخلصًا لوطنه، وفيًا لرفاق دربه، معتدلاً حكيمًا في مواقفه سواء أثناء الكفاح التحرري المرير أو في فترة بناء دولة الاستقلال، أصيلاً في اختياراته وتوجهّاته، متجذرًا في هويته الوطنية التونسية العربية الإسلامية، منفتحًا على كل الحضارات و الثقافات، متعلّقًا بفكرة وحدة المغرب العربي ومدافعًا عنها إلى آخر رمق في حياته. وكان سي الباهي رجل دولة مقتدرًا، جادًا، صادقًا في القول مخلصًا في العمل.

رحم الله سي الباهي، وأبقاه رمزَا للوطنية والتضحية والصدق، ونفع بهذا الكتاب قراءه الأعزاء.

 



تُعّدُّ هذه التقدمة من قبل السيد أحمد المستيري الذي رافق وعايش الزعيم الوطني الباهي الأدغم مهمة جدًا، فالباهي الأدغم أنجز هذا الكتاب الضخم، الذي يتكون من مقدمة و19 فصلا، ويقع في 748 صفحة من القطع الكبير. ويسلط الكتاب الضوء على مختلف المراحل التي مرّت بها الحركة الوطنية التونسية منذ بداية تشكلها سنة 1930، مرورا بمرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، ووصولاً إلى مرحلة تحقيق الاستقلال وتأسيس الدولة الوطنية الحديثة، والخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي اتبعتها الدولة الوطنية بعد الاستقلال حتى العام 1970. إنّها مرحلة تاريخية دقيقة من تاريخ تونس المعاصر الذي يمتد من سنة 1930 ولغاية سنة 1970، حيث أقدم الباهي الأدغم على تقديم رؤيته، وشهادته التاريخية المهمة، لكل هذا المسارالنضالي، حيث استطاع أن يقوم بتدوين وتوثيق مجرى الأحداث التاريخية، وتسجيل تسلسل الوقائع بهدف كتابة تاريخ الحركة الوطنية التونسية.

ولقد ركزت من خلال قراءتي لهذا الكتاب الكبير، الذي يختزل الذاكرة الوطنية، على مفصل تاريخي مهم عاشته الحركة الوطنية التونسية، ألا وهو الصراع البورقيبي ـ اليوسفي، بشأن رؤية كل من هذين الزعيمين التاريخيين لجوهر وماهية استقلال تونس، وبناء الدولة الوطنية الحديثة.

اتفاقيات الحكم الذاتي تقسم الحركة الوطنية التونسية

شكلت اتفاقيات الحكم الذاتي، التي تم توقيعها في تونس في 3 حزيران (يونيو) 1955، والتي مُنحت تونس بموجبها استقلالاً داخلياً، منعرجاً سياسياً وتاريخياً كبيراً في تاريخ الحركة الوطنية التونسية، التي كان يقودها الحزب الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة. وعاشت تونس فترة مخاض عسيرة بين 3 حزيران/يونيو  1955 و20 آذار/مارس 1956، تاريخ استقلال تونس، حيث تفجرت كل التناقضات الأيديولوجية والسياسية والشخصية، التي كانت الحركة الوطنية قد طمستها خلال مرحلة تأطيرها وتجنيدها لكل القوى الحية من أجل خوض معركة التحرر الوطني، والظفر بالاستقلال.

وهكذا، تفجر الصراع بين جناح الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الحر الدستوري الجديد، الذي كان من أشد المدافعين عن التسوية السياسية مع الاستعمار الفرنسي، وبين جناح صالح بن يوسف الأمين العام للحزب، الذي كان من أشد المعارضين لهذه التسوية. ومنذ حينئذ ولدت الحركة اليوسفية، التي كان صالح بن يوسف أحد عناصرها ومكوناتها، ولكنها كانت تضم تيارات فكرية وأحزاب سياسية ومنظمات نقابية وعناصر وطنية وأخرى ثورية، تؤمن بالكفاح المسلح، وقطاعات شعبية عريضة، متناقضة مع نهج الحبيب بورقيبة المساوم مع الاستعمار الفرنسي. فالحركة اليوسفية هي أحد تعبيرات الأزمة الحادة التي دخلت فيها الحركة الوطنية التونسية، والتي أدت إلـى أكبر انشقاق شهده حزب الدستور الجديد، وكشفت بأن هذا التنظيم ليس حزباً سياسياً له برنامج واضح وعقيدة ثابتة لا تتزحزح، بقدر ما هو "حركة وطنية" التفت حولها تيارات مختلفة وأحياناً متباينة.

 



يقول الزعيم الوطني الباهي الأدغم: "في نهاية الصيف، أوائل أيلول (سبتمبر) 1955، وقبل رجوع العائلة إلى تونس، سألتني زوجتي عن نيتي، فأعلمتها أنني متردد، في الرجوع إلى تونس في خضم هذا الوصع. فقالت:"بورقيبة قد رجع، وسي صالح بصدد الرجوع، والاتفاقيات قد أبرمت. وما بقي لك إلا أن ترجع من نيويورك... وبعدما وصلت نيويورك، فكرت مليًا، قررت العودة.. وكان رجوعي بالتحديد يوم الأحد 9 تشرين أول (أكتوبر) 1955 قادمًا من نيويورك عبر باريس، فوجدت بمطار العوينة الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف جنبًا لجنبٍ، والمنجي سليم الذي أصبح يلازم مقر الحزب طيلة الوقت، ومسؤولي المنظمات القومية، وممثل الشاذلي باي، الرائد في جيش الباي بن زكور، والشخصيات الوطنية والمقاومين وعلى رأسهم المحجوب بن علي الذي كان مرتديًا زيًا عسكريًا حربيًا.. وعندما رأيت الزعيمين معًا، ذهب في ظني، أنَّ ما أشيع وقيل حول خلافهما غير صحيح، مما حدا بي في تصريحي إلى الصحافة أن "من يراهن على تفكيك الحزب فكأنّه يراهن على الخيال... إنَّ الخلافات التي ظهرت في المدّة الأخيرة لا بدّ من وجود حل لها للمحافظة على وحدتنا القومية الغالية.." (ص336 من الكتاب).

ويضيف الباهي الأدغم قائلاً: "غير أنّ أحمد بن صالح وأحمد التليلي اتصلوا بي ذاكرين لي أنّ المسألة خطيرة جدّاً" وأنَّ الرجل، والمعني هنا هو صالح بن يوسف الأمين العام، قد فُصِلَ عن الحزب دون اللجوء إلى مؤتمر، فقد اجتمع الديوان السياسي يوم 8 تشرين أول (أكتوبر) باقتراح من الحبيب بورقيبة وصادق على إقصائه. هذا بعد يوم من اجتماع شعبي ترأسه بن يوسف داخل جامع الزيتونة، إثر صلاة الجمعة، انتقد فيه الاتّفاقيات رافضًا إياها تمامًا، إذْ إِنَّها قد أرجعتنا إلى الوراء" (ص 336 من الكتاب).

 

ركزت من خلال قراءتي لهذا الكتاب الكبير، الذي يختزل الذاكرة الوطنية، على مفصل تاريخي مهم عاشته الحركة الوطنية التونسية، ألا وهو الصراع البورقيبي ـ اليوسفي، بشأن رؤية كل من هذين الزعيمين التاريخيين لجوهر وماهية استقلال تونس، وبناء الدولة الوطنية الحديثة.


وبعد أن قابل السيد الباهي الأدغم الزعيم الحبيب بورقيبة في إطار وساطته من أجل عودة الزعيم صالح بن يوسف إلى موقعه الحزبي السابق، وتبادل الرأي مع بورقيبة، قال له هذا الأخير ما يلي: "ماذا يريد صالح بن يوسف؟ ألم يكن يريد طيّ هذه المراحل التي قبلتها لأنّها تمثل على كلّ، اعترافًا بطرف مقابل؟ وإذا كان هناك من يريدون تسلّم الحكم في مرحلة الحكم الذّاتي ثم يطورونه لتقويض نظام الحماية، فأنا لا أرى مانعًا. لكن هذا الرجل يقول "هذه خطوة إلى الوراء"، وأنا أطلب من الباي إبعاد الطّاهر بن عمّارعن الحكم، وتسميته مكانه، وهذا أمر صعب نوعًا ما. على كل أنظر ماذا تستطيع أن تفعل معه. إذا أراد أن يتراجع عن كلامه (خطوة إلى الوراء) وهو لا تنقصه الحيل لذلك، وإذا أراد أن نتقابل لتنظيم ذلك، فإنّ كل شيء ممكن وهو يقدر أن يسيّر الحكومة الجديدة". 

فقلت له: "لكن، وفي نفس الوقت، نجد أنفسنا أمام اتفاقيات ترجىء الإدارة الداخلية، والدفاع والعملة والاقتصاد والخارجية إلى سنين، وذلك يعني قيودًا مجحفةً!"، فقال لي بورقيبة: "انسوا هذه الاتفاقيات واتركوها جانبًا وادخلوا حكومة جديدة تطالب من جديد بمفاوضات للاستقلال وادخل معه أنت، وافعلوا ما تريدون، واطووا المراحل واطلبوا الاستقلال. وإذا كان بن يوسف لا يريد ذلك، فيجب أن تعينني على تحمل المسؤولية" (ص 337 من الكتاب).

 


بعد هذه المقابلة مع الزعيم بورقيبة، اقتنع السيد الباهي الأدغم بكلامه عن القبول بالحكم الذاتي ومواصلة المطالبة بالاستقلال، على أن يحاول الاتصال بصالح بن يوسف في محاولة لتقريب وجهات نظر، لا سيما مع اندلاع ما يسمى "الفتنة اليوسفية". وبالفعل عاد السيد الباهي الأدغم إلى تونس واصطحب معه السيد امحمد شنيق، بعد أن أوضح له الأمور، طالبًا منه أن يكون شاهدًا أمام التاريخ، وذهبا معًا لمقابلة صالح بن يوسف، الذي قال ما يلي:

" كيف لا أقبل حلولاً منقوصة وأدعو في نفس الوقت إلى تطبيقها؟ ماذا يريد سي الحبيب؟ هل يريد أن أبيع ضميري لكرسي حكومي؟ ينبغي ألاّ ينسى أنّ آجال تسليم مقاليد الأمن إلى التونسيين ستستغرق مدّة تتراوح بين 10 إلى 20 سنة أعتقد أنّه من المستحيل خلالها أن تتنازل فرنسا حتّى ولو تعلّق الأمر بسنة واحدة قبل الآجال المحدّدة. وحتّى في صورة أنّني تراجعت وقبلت رئاسة الحكومة، فإنّ بورقيبة سيعمل لإسقاطي، وسيصبح المعارض الأوّل لكل عمل تقوم به الحكومة، فهو لا يطاق وأنا أعرف مكائده. لذا فأنا أقترح عليك يا سي الباهي، أن تقبل أنت هذه المهمة وأعدك بأنّني لن أكون ضدك، وسأعينك بالضغط من جانبي على فرنسا. أنت ليست لديك ارتباطات مباشرة، ومواقفك، معروفة بمساندتها للاستقلال التام، ولك سمعة طيبة في الأوساط السياسية. ولك خبرة إداريّة وتأثير على رئيس الحزب ومكانة متميزة عنده. وعلى كل يمكنك التّصرف وتحمّل هذه المسؤولية". فقلت له: "لا أرى مانعًا، فأنا متطرف أكثر منك، وإذا ما حدثوني عن الاتفاقيات، سأقول لهم إنّه قد تجاوزتها الأحداث، فلندخل سويًا الحكومة، وسأعينك على مهامها". فردّ بن يوسف بالرفض، وقال للباهي الأدغم: "لعلّ في ذلك خيرًا" (ص 337 من الكتاب).

وحين عاد الباهي الأدغم إلى الزعيم الحبيب بورقبة، وأخبره بما جرى في اللقاء، لا سيما اقتراح الزعيم صالح بن يوسف، دعاه بورقيبة إلى مساعدته لحمل الثقل معه (هز معايا وذن القفة بالعامية التونسية) موضحًا له: "أنت الشخص الوحيد الذي يمكن التعويل في هذا الظرف، فالمنجي سليم وقّع على الاتفاقيات. وبذلك فلا يمكنه اليوم أن يكذب نفسه بنفسه، بطلب تطويرها إن لم يكن إلغاؤها، أمّا علي البلهوان، فهو كما تعلم أديب، فضّل أن يكلف بمهام أخرى". و أنهى الحديث قائلاً "وعلى كل فأنا متأكد من أنّك ستكون صلبًا فيما يتعلق بالمواقف" (ص 337 من الكتاب)..

التعليقات (0)