كتاب عربي 21

المعركة ضد الفخفاخ أم ضد الرئيس سعيد؟

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600

لم تنته قصة الجامعي قيس سعيد بمجرد وصوله إلى قصر الرئاسة، فهو ليس من أولئك اللاهثين وراء السلطة بحثا عن النفوذ والجاه. للرجل رؤية سياسية تسكنه منذ سنوات، ولا يزال يؤمن بها رغم الانتقادات الشديدة التي يتعرض لها بسبب هذا الحلم. حتى الذين دافعوا عنه خلال حملته الانتخابية راجعوا موقفهم منه، وأصبحوا اليوم يتهمونه بكونه يحمل أفكارا من شأنها "تهديد الدولة الوطنية". من بين هؤلاء على سبيل المثال أستاذه في القانون الدستوري عندما كان طالبا، عياض بن عاشور، الذي سبق أن سانده من قبل لنقض تهمة الكثير من المثقفين الحداثيين ووصمه بكونه سلفي، انقلب عليه هذه الأيام وهاجمه بقوة عندما وصفه بـ"الرئيس الضد"، فهو من وجهة نظره "ضد الأحزاب وضد النظام الحالي وضد كل شيء". واعتبر برنامجه المتمثل في إرساء الديمقراطية المباشرة "مغالطة للرأي العام ولا يمكن تحقيقه مطلقا".

بعد أن أصبح رئيسا لتونس وحقق نسبة استثنائية في عدد الأصوات التي حصل عليها من الناخبين، وجد هذا الجامعي نفسه حبيسا لقواعد اللعبة الديمقراطية التي وضعتها الأحزاب، ونص عليها في الدستور. وبما أن وظيفته الأساسية كرئيس للبلاد تتمثل في المحافظة على هذا الدستور وعدم الخروج عليه وإلزام الجميع باحترامه حرفيا، فقد أظهر أمانة عالية في الالتزام بحماية منظومة هو مقتنع في أعماقه بكونها مغشوشة في جزء منها، وتتعارض جوهريا مع مرتكزات مشروعه السياسي الذي تأسست عليه شرعيتها الانتخابية.

 

لم يتخل الرئيس سعيد عن أفكاره السياسية ولم ينس الوعود التي قدمها لجمهوره العريض الذي انتخبه. هو مدرك لكونه في مأزق حقيقي، لا يستطيع أن يتحرر من القيود الدستورية التي تحدد مجال حركته

لم يتخل الرئيس سعيد عن أفكاره السياسية ولم ينس الوعود التي قدمها لجمهوره العريض الذي انتخبه. هو مدرك لكونه في مأزق حقيقي، لا يستطيع أن يتحرر من القيود الدستورية التي تحدد مجال حركته، وتجعله مضطرا للخضوع لإرادة البرلمان. كما أنه غير قادر على القفز فوق الأحزاب التي تعتبر ركيزة أساسية من ركائز النظام السياسي القائم حاليا في تونس. فمن واجبه التعامل مع الأحزاب رغم اقتناعه بأن جزءا من العطب الذي يعاني منه الانتقال الديمقراطي بتونس يكمن في المشهد الحزبي السائد الذي لم ينضج بالقدر الكافي، والذي يتسم بتضارب مصالح بين تنظيمات لم ترتق إلى مستوى أحزاب حقيقية، كما فشلت في مواجهة اللوبيات التي تلعب دورا بارزا في هذه المرحلة الدقيقة التي لم تتمكن خلالها الدولة من استعادة قوتها وهيبتها رغم مرور تسع سنوات على الثورة.

هذه الوضعية لا تثير قلق سعيد فقط، ولكن تثير بالخصوص المنحازين له، والذين أصبحوا يخشون عليه من مناورات الأحزاب وشبكات المصالح. فالجبهة الداعمة للرئيس تبحث حاليا عن وضع استراتيجية تكون ناجعة من أجل دعمه، وتخفيف الضغوط عليه، وتفكر في وسائل واختيارات من شأنها أن تحرر الرمز ومشروعه.

تعتقد هذه الجبهة بأن الأحزاب لن تنجح في تحسين أوضاع البلاد بشكل جوهري، وأن فشلها سيدفع نحو حل البرلمان والدعوة إلى تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، سواء الآن خلال التصويت على الحكومة الجديدة أو بعد ذلك بأشهر. ورغم أن هذه "الجبهة" لا تولي أهمية جدية لفكرة الأحزاب ودورها، نظرا لإيمانها بصيغة المجالس التي يعمل سعيد على تجسيدها على أرض الواقع، إلا أن بعض أنصارها قد يلجأون إلى التفكير في تأسيس حزب يعتقدون بأنه سيكون كبيرا وقويا من شأنه أن يخوض الانتخابات القادمة ويفوز فيها، وعندها يصبح هذا التيار فاعلا رئيسيا وقادرا على مساعدة رئيس الدولة، والحد من هيمنة "الجبهة المضادة" له التي تعمل على منعه (بحكم موازين القوى) من تنفيذ مشروعه السياسي.

 

الخطوات السياسية الجارية حاليا تهدف إلى اختراق البرلمان والحكومة، ومحاولة إرساء ميزان قوى واضح يفصل بين من هو مع الرئيس ومن هو مضاد له ولمشروعه المسكوت عنه في هذه المرحلة

في الأثناء، تعتقد هذه الأطراف بأن الرئيس قيس سعيد يعمل حاليا على كسب ثقة الأحزاب التي يعتقد بكونها قريبة من روح الثورة وشعاراتها. في هذا السياق كثر الحديث في تونس خلال الفترة الأخيرة عما يسمى بالخط الثوري، وهناك مساع حثيثة حتى تكون هذه الأحزاب بمثابة العمود الفقري الذي تستند عليه الحكومة القادمة. أما الخطوة الثانية التي تمت في هذا السياق فهي أن يصبح رئيس الحكومة المكلف قريبا من رئيس الجمهورية، وهو ما يحصل حاليا بعد اختياره إلياس الفخفاخ.

يعني هذا أن الخطوات السياسية الجارية حاليا تهدف إلى اختراق البرلمان والحكومة، ومحاولة إرساء ميزان قوى واضح يفصل بين من هو مع الرئيس ومن هو مضاد له ولمشروعه المسكوت عنه في هذه المرحلة. لهذا السبب يدور جدل حول ما يسمى بحكومة الرئيس، ولهذا السبب ايضا تهدد بعض الأطراف بنقل المعركة ضد رئيس الحكومة المكلف إلى معركة أكثر اتساعا بأن تكون ضد رئيس الدولة.

الأيام القادمة وحدها هي التي ستكشف إن كانت هذه الفرضية صحيحة أم لا؟

التعليقات (0)