كتاب عربي 21

لماذا يتعاطف بعض المسحوقين مع طاغية يموت؟!

ساري عرابي
1300x600
1300x600
حازت وفاة حسني مبارك قدرا من التعاطف لدى قطاعات من الناس، بدت متجاوزة عن خطايا حكمه، وهو الأمر الذي من شأنه أن يثير السجال بين من لا يمكنه التجاوز عن وظيفة مبارك التي شغلها طوال ثلث عمره، ثمّ آثارها المتجاوزة لعمره، وبين من يجرّدون مبارك من تلك الوظيفة، ويرغبون في النظر إلى وفاته بوصفه إنسانا مجرّدا من الفاعلية والتأثير.

الطرف الثاني يغرق في تناقض رهيب، فهذا القدر من التعاطف الظاهر، لن يناله إنسان غير مشهور، بمعنى أنّ أحد أسباب دوافعهم للاهتمام العاطفي بلحظة وفاته هو شهرته، لا إنسانيته المجرّدة. وهذه الشهرة لم تكن منفكّة عن دوره ووظيفته، بل إنّ وظيفته لم تمنحه الشهرة فحسب، ولكنّها، وبالإضافة إلى ذلك، خَلَقَتْ نمطا من التعلّق به، مرجعه إلى سياسات الدولة العربية عموما، والمصريّة في هذه الحالة، والتي تختزل النظام والدولة والوطن في شخص الحاكم، ثمّ تُجيّر مقدّرات الدولة لجعله في الذهنية العامّة أبا للجميع، أو شيئا ما فيه ملامح ألوهية. فهذا السبب في التعاطف معه الناجم عن وظيفته، يُراد نفيه من الحضور حين التعاطف معه، وهذا هو التناقض، ولكنه واعٍ بقدر ما، لأنّ حضور السبب ينقض التعاطف، لجسامة المصيبة العامّة التي اقترفها حُكم الرجل، وهو ما يحيل إلى السبب العميق في هذا النوع من التعاطف.

يمكن قول الكثير في تفسير ظاهرة التعلّق بالمشاهير، أو محضهم العطف الذي لا يناله من هو دونهم شهرة من الناس. وهي ظاهرة تأخذ أشكالا متطرّفة تصل إلى ما يوصف بـ"عبادة المشاهير". ولعلّ بعضا من العلوم والمعارف التي طوّرها البشر تُعنى بدراسة مثل هذه الظاهرة، إلا أنّ الذي نحن بصدده فيه إشارة إلى ما هو سوى ذلك، وإن اتصلت بحبل مع عموم الظـاهرة، من جهة الهشاشة وانعدام التوازن والبحث عن معنى للوجود، فإنٍ آخر هو إنسان هشّ وضعيف بدوره، ومهما طفت على سطحه معالم القوّة والإبهار والإخضاع، هي زائلة بزواله، أو حتّى أثناء وجوده.

يصعب أن تجدَ متعاطفا مع مبارك تضرّر مباشرة، منه أو من حكمه. ونقصد بالضرر هنا، الضرر الذاتي اللصيق، كأن يُسجن ظُلما، أو يُقتل له قريب، أو يُقطع عمله، فإنْ وُجِد فهو بالضرورة يعاني من تشوّهات نفسية أو عقلية. فالتسامح لا يدخل إلى مثل هذا الحيّز، بينما من الوارد جدا أن تجد متعاطفا معه، أو مع غيره من الحكّام، بصرف النظر عن الكوارث العامّة التي تسبّب بها حكمهم، كانهيار منظومات التدبير الإنساني كلّها، من صحة وتعليم وقضاء وأمن، وما هو سوى ذلك، وكالحطّ من الكرامة العامّة للناس، بالاستبداد بأمرهم ومصادرة حرّياتهم. فبالرغم من أنّ هذه الكوارث أخطر وأعمق، وأبعد أثرا من ظلم فرديّ مباشر يمسّ المرء، إلا أنّ الإحساس بها والتألّم بسببها أقلّ، بما لا يوصف قلّة وضآلة، من الإحساس بالأذى الذاتي المباشر.

ومن نافلة القول، إن ما تتضمّنه تلك الكوارث، من ظلم يقع مباشرة على أفراد بأعيانهم، أو على مجموعات مخصوصة، من سجن وقتل وقطع عمل وملاحقة متعدّدة الوجوه، على هؤلاء الذين يتبنّون موقفا معارضا للحاكم، أو يُشتبه بهم أنّهم كذلك، أو تربطهم قرابة ما مع من هو كذلك، إلا أنّ هذه المباشرة اللصيقة في الظلم والأذى لا يشعر بها الآخرون، لأنّها لم تقع على أعيانهم، حتّى لو عانوا من جهات أخرى من فشل الدولة أو تردّي خدماتها، فهذه المعاناة لا يشعرون بها، ولا يلاحظونها!

إنّ المتعاطفين مع مبارك حين موته، هم في الحقيقة الذين كانوا لا يشعرون بمصائب حكمه العامّة، أو لا يرونها أصلا، ولا مظالمه الواقعة على غيرهم. يذكّرنا هؤلاء بذلك الصنف من الناس؛ الذين وحين اعتقال السلطة الحاكمة لشخص من بينهم بدوافع سياسيّة يسارعون إلى القول "إنّه لو لم يفعل شيئا لما اعتُقِل"، بدليل أنّهم لم يُعتقَلوا، في تحويل جوهري للجريمة. فالجريمة متمثّلة لديهم في معارضة الحاكم لا في اعتقاله لمن عارضه. وهذه النتيجة لها مقدّمات لا ترى الحاكم مخطئا، فضلا عن أن يكون مجرما، في تدميره للبلد وحطّه من كرامة الناس. وهذه المقدّمة نتيجة لأخرى، وهي أنّ الحكم حقّ خاصّ به، وأنّ ما يناله الناس من خير من حكمه محض تفضّل منه، فما نقص عنهم ليس تقصيرا منه، إذ يحق له الحكم ولا يجب عليه العطاء!

لا شكّ أنّ الذين يستبطنون وعيا كهذا، هم عبيد في الحقيقة، عبيد بكلّ ما في الكلمة من معنى. لكن ما الذي أوصلهم إلى هذه الدرجة من الانحطاط في العبودية لإنسان فانٍ مثلهم تزول عنه قوّته؟!

تتحمّل الدولة بسياساتها وأجهزتها مسؤولية عن ذلك، فالدعاية المكثّفة لعقود، بقصد تشويه الوعي، وخلق كائنات خاضعة مهزوزة وهشّة كهذه، لا بدّ وأنْ تثمر على هذا النحو، وهي لا تستند في ذلك إلى الدعاية فحسب، بل إلى أدوات القوّة الفرعونية النمرودية "أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي"، "قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ". فالذي يرونه يطعمهم ويسقيهم ويقتلهم ويبقيهم هو الحاكم، لا الله تعالى، والوصول إلى كائنات كهذه بالضرورة يتطلب تجريد الناس من وعيهم السياسي، ومن إحساسهم بآدميّتهم الحرّة.

العبودية هنا هي التعبير الآخر، أو المعادل الموضوعي لافتقاد الناس للحساسية الأخلاقية، أو هي النتيجة التي لا بدّ منها لغياب الحساسية الأخلاقية. والعدل هو جوهر الحساسية الأخلاقية، والظلم نقيض العدل. والشرك جُعِل ظُلما عظيما، لأنّه يعيد تشكيل معنى الوجود الإنساني، من الوجود الحرّ المتّسم بالكرامة إلى وجود مستعبد لما هو فانٍ، أي هو إيجاد لِشرعة جديدة تُسوّغ استعباد البشر لبعضهم. فالذي يعبد غير الله لا يظلم نفسه فحسب، بل يظلم الجنس البشريّ كلّه. أمّا عبادة الله تعالى فالغاية منها ضمان الكرامة الآدمية والدفع نحو تحقيق العدل، بمنع الفاني من عبادة فانٍ مثله، فإنْ تعجب، فمن مصلٍّ متبتّل في محراب المسجد، ثمّ يتخذ عبادة الحاكم له دينا!

والحاصل أنّ هؤلاء الذين يتعاطفون مع مبارك حين موته، أو غيره من الطغاة، هم الأقلّ إنسانية، لأنّهم الأقلّ كرامة آدميّة، وهم الأقلّ امتلاكا للحساسية الأخلاقية.
التعليقات (3)
رائد عبيدو
الأربعاء، 04-03-2020 03:23 م
تعليقي لا علاقة له بالكاتب ولا بمواقفه، بل هو محاولة لفهم أوسع للمقالة حتى لا تركز على شخص واحد، بل على مسألتها الأساسية، وهي التعاطف مع المجرمين عموما، ومع أشدهم إجراما: الصهاينة والنظام الأمريكي ومن يتعاون معهم. فمن لا يتعاطف مع هذا المجرم وينتقد المدافعين عنه قد يتعاطف مع مجرم آخر ويدافع عنه، كما هو مشاهد ومعاش، فيكون تعاطفه مثل تعاطف من يعارضهم، شخصيا ونفعيا لا مبدئيا. ولا يجعله هجومه عليهم أو انتقاده لهم أفضل منهم، بل يصبح ذلك إدانه له وحجة عليه.
ساري
الثلاثاء، 03-03-2020 06:45 م
الأخ رائد الكاتب مسؤول عن مواقفه ولا شأن له بمن تعاطف مع فلان أو علان!
رائد عبيدو
الثلاثاء، 03-03-2020 03:22 م
هل من تعاطف مع قابوس حين مات أكثر إنسانية؟ وهل من ما زال يتعاطف مع أتاتورك ويرفع صوره وتماثيله أكثر إنسانية أم عبودية؟ عندما لا يهتم الفرد بالآخرين ولا بعواقب الأمور سيظهر تعاطفه لمن يستفيد منه حتى لو كان يضره ضررا قليلا أو غير مباشر، فتجد من يتعاطف مع رئيس أمريكي مجرم لأنه ساهم في تخليص بلاده من احتلال، بل قد تجد من يتهم من لا يترحم على الحاكم الذي يحبه بفقدان الإنسانية، حتى لو كان ذلك الحاكم قد حافظ على اتفاقية سلام مع الصهاينة وعين سفيرا في تل أبيب.