أخبار ثقافية

سِفر إستر: الخروج الثاني

سفر استر
سفر استر

في كتابه الأكثر إثارةً للجدل (رحلة إلى إسرائيل) الصادر عام 1994، قال الكاتب المصري المسرحي الراحل (علي سالم) ما مضمونُه إنه حين اقتربَت منه فتاة إسرائيلية جميلة تصوّرَ نفسَه لوهلةٍ الفنان محمود عبد العزيز في دور (رأفت الهجان)، والفاتنةُ الإسرائيلية (إستر) – التي جسّدَتها (إيمان الطوخي) – تحاول إغواءه! كان علي سالم إذ ذاك قد قاربَ الستّين، فكانت عبارتُه هذه مزيجًا من السخرية من نفسِه والسخرية من قوالب التفكير النمطية التي تحكم رؤية المصريين للإسرائيليين. والحقيقة أن المهم في هذا الأمر بالنسبة لنا الآن هو اسمُ (إستر)، أحد أهم أسماء الإناث في دولة الاحتلال، وإن كان شيوعُه قد تراجع في المواليد الجديدة، لكن تقرير مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي يخبرنا بأن اسم إستر هو الأكثر شيوعًا بين أسماء جَدّات مواليد عام 2016 حسب ما أوردته صحيفة "أورشليم بوست".

يتمتع اسم إستر في التقليد اليهودي بحمولة عاطفية فريدة، يندر أن نجد لها مثيلاً في أسماء الإناث.

ومَردُّ ذلك بالطبع إلى سِفر إستر، أحد سِفرَين فقط بين أسفار التاناخ (الاختصار الذي يشير إلى الكتاب المقدس اليهودي) يحملان اسم امرأة، حيث الآخَر هو سِفر راعوث "Ruth".   

ملخص سِفر إستر:

يحكي لنا السِّفر باختصار عن الملك أحشويرش Ahaseurus أحد أباطرة الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، وهو من يُعتقد أنه عين الإمبراطور خشيارشاه الذي تشير إليه المصادر الفارسية والعربية وزركسس Xerxes في المصادر الأوربية، وقد حكم بين عامي 486-465 ق م. كان من أوسع الأباطرة مُلكًا فقد امتدّت إمبراطوريته في 127 كُورة من الهند إلى كوش في أعالي حوض النيل. قرر أن يدعو نبلاءه وعبيده في فارس وميديا إلى وليمةٍ باذخةٍ امتدّت ستة أشهر، وختمها بوليمةٍ أخرى امتدت سبعة أيام، وكان الخمر مباحًا حسب رغبة المدعوين إلى الوليمة، وفي اليوم السابع طلب الملِك من خصيانه السبعة – وقد لعبت الخمر برأسه - أن يأتوا إليه بالملكة وَشتي Vashti ليطّلع الجميع على جمالها، فرفضت (وشتي)، وغضب الملِك واستشار المقرَّبين من أمرائه ونبلائه في أمرها فأشاروا عليه بتجريدها من المُلك، وبأن يذيع رسلُه في شعوب الإمبراطورية هذا الخبر لتتعظ النساء و"ليكون كلُّ رجُلٍ متسلِّطًا في بيتِه."

بعد ذلك عُقِدَت مسابقة لفتيات الإمبراطورية ليتخذ الملِك أجملهن زوجةً تحل محل (وشتي)، واستمرت المسابقة عامًا كاملاً، ستة أشهر تدَّهِن الفتيات بزيت المُرّ وستة أشهر بطُيُوبٍ وأدهانٍ أخرى. والمهم أن أحد خَدَم قصر الإمبراطور في شوشن Susa (عاصمة الأخمينين) هو اليهودي مردخاي بن يائير من سِبط بنيامين، وقد وقع جده الكبير مع ملِك يهودا في سبي نبوخذ نصر البابلي، وكان مردخاي يكفل ابنة عمه اليتيمة (هدسة Hadassah) واسمها أيضًا (إستر)، وقد قدّمها في المسابقة شريطة أن تخفي انتماءها اليهودي. وراقت إستر الملِكَ واتخذها زوجة وحلّت ملِكةً محلّ (وَشتي).

بعد ذلك كشف مردخاي مؤامرةً حاكها اثنان من حرَس القصر لاغتيال الملِك، ولم ينل مكافأة عن ذلك بشكل مباشِر. ورفع الملِك (هامان بن همداثا الأَجاجيَّ) أحد مقرَّبيه فوق كل من عداه من النبلاء والموظفين، إلى منزلة تقارب باصطلاحنا المعاصر منزلة رئيس الوزراء، وأخذ كل من في القصر يسجدون لهامان تبعًا لأمر الملِك، إلا مردخاي اليهودي. اغتاظ هامان من مردخاي وقرر أن ينتقم من الشعب اليهودي كله لا من مردخاي فقط، فأوغر صدر الملِك على اليهود ووافق الملِك على مخطط هامان لإبادتهم، وهنا اقترع هامان ورجاله على أنسب شهور السنة وأيامها لتنفيذ مخطط الإبادة، وكانوا في شهر نيسان (الشهر الأول في التقويم اليهودي) من السنة الثانية عشرة لمُلك أحشويرش، ورَسَت القُرعة على اليوم الثالث عشر من شهر آذار (آخر الشهور). وسارَ سُعاة الملِك بأوامره إلى وُلاته في جميع ولايات الإمبراطورية الفارسية لتجتمع قوتهم على إبادة اليهود في ذلك اليوم.

ولما بلغ الخبر مردخاي شقّ ثيابه وصرخ وأخذ ينتحب، ثم تطور الأمر إلى أن دعا إستر لأن تكلّم الملِك في هذا الأمر ليَنقُض أوامره، علّ إنقاذ اليهود يكون على يديها، لكنّ إستر توجّست خيفةً من أن يلحقَها مصير سلَفِها (وَشتي) أو أن تُعدَم إن اقتحمَت حضرة الملِك دون إذن، فقررت أن تصوم ثلاثة أيام ودعَت مردخاي إلى أن يطلب من اليهود أن يصوموا لأجلها ثلاثة أيام لتُوَفَّقَ في مسعاها لإنقاذهم، واحتالَت حتى حظيَت بدعوة الملِك للدخول إليه، لكنها رفضَت أن تخبرَه بطلبِها مباشَرةً رغم وعدِه إياها بأن يُعطِيَها مسألتَها ولو كانت نصفَ مملكتِه، وإنما أولمَت له ولهامان وليمةً كبيرةً يومين متتاليين، وكان هامان فخورًا جدًّا بهذه الحُظوة، لكنّ مرأى مردخاي جالسًا أمام باب القصر لا يقوم له كان يفسد فرحتَه، فأشارَت عليه زوجتُه (زِرِش) بقتل مردخاي وصَلبِه على خشبة عالية يستطيع كلُّ من في شوشن المدينة أن يراها. وراقَته الفكرة بالفعل!

إلى هذه النقطة لم يكن الملِك يعلم شيئًا عن دور مردخاي في إفساد مؤامرة اغتياله، فأرِقَت عيناه ليلةً بعد وليمة إستر الأولى، فأمر بسِفر أخبار أيام مملكته أن يُقرأ عليه، فعرف منه خبر مردخاي، فاستشار هامان في الصباح التالي عن التكريم اللائق لمَن يريد الملِك أن يكرمه، فظن هامان أنه هو المُراد بالتكريم وأشار بما يراه لائقًا، ليفاجأ بأنّ المُكرَّم مردخاي، وهو الذي كان ينوي أن يخبر الملِك بنيّته في صَلب مردخاي هذا اليوم!

بعد الوليمة الثانية تفصح إستر للملِك عن رغبتها في إنقاذ شعبها اليهودي من بطش من أراد لهم الإبادة، وتشير إلى هامان، فيَخرج الملِك مَغيظًا إلى حديقة القصر، ويتوسل هامان إلى إستر أن تشفع له عند الملِك، وحين يعود الملِك يرى هامانَ متواقعًا على السرير الذي تجلس عليه إستر فيظنُّه يحاول الاعتداءَ عليها، وينتهي الأمر بهامان مصلوبًا على الخشبة التي أعدّها لصَلب مردخاي.

انتهاءً، يتحول الأمر الملَكيّ إلى نقيضِه، فيهَب الملِكُ إستر أملاكَ هامان، وتقيمُ هي مردخاي عليها، كما يعطي خاتمَه الملَكيّ لمردخاي وينصّبه مكان هامان، ويكتب مردخاي رسالة ليهود الإمبراطورية يختمها بخاتم الملِك، أن ينتقموا من كل شعبٍ أراد بهم سوءًا في طول البلاد وعرضها في نفس اليوم الذي كان محددًا لإبادتهم (13 آذار)، حتى أنهم قتلوا أبناء هامان العشرة، وخمسمائة رجلٍ في قصر شوشن، وخمسةً وسبعين ألفًا من أعداء اليهود من كل الأُمَم في باقي بلدان الإمبراطورية، واستراح يهود الإمبراطورية يوم 14 آذار، بينما واصل يهود شوشن العاصمة مذابحَهم يوم 14 واستراحوا يوم 15. وأوصَت إستر ومردخاي يهودَ البلاد بالاحتفال بهذين اليومين كلّ عامٍ بإعطاء العَطايا للفقراء والشّراب والفرح وإهداء الهدايا للأصدقاء.   

إستر: خروجٌ من الفطرة إلى الحضارة:

يبدو سِفر إستر تجسيدًا فريدًا لانزياح عنيف في الشخصية اليهودية الجَمعية مِن مرحلة الفِطرة التي يهيمن عليها الخِطاب الديني المحافِظ المنغلِق على ذاته والمتعلّق بالله، إلى مرحلة الحضارة التي ينفتح فيها اليهود على العالَم وينصهرون في بوتقتِه متخففين من قُيود إرثِهم المحافِظ. ولهذا الانزياح شواهد في بِنية السِّفر ومكانه بين أسفار التاناخ ومجموعة من خصائصه، نوجِز هذه الشواهد في النقاط الآتية:

1- اسم بطلة السِّفر نفسُه (إستر): وهو أحد الألغاز الكبرى الملهِمة والمثيرة للخيال في التاناخ.

للاسم تفسيراتٌ شتّى، أشهرُها أنه تحريفٌ عبرانيٌّ لاسم (عشتار) إلهة الأكاديين والبابليين والآشوريين المنحدرة من (إنانا) السومرية. ولا يَخفَى ما في هذا التفسير من مفارقة، فالبطلة التي يَعُدُّها اليهود خاتمةَ النبيّات السبع (بعد سارة وميريام ودبورة وحَنّة وأبيجائيل وخلدَة) ومُنقِذة الأُمّة اليهودية من الهلاك المُحَقَّق تحمل اسمَ إلهة الأغيار الوثنيين! التفسير الآخَر هو أنه اسم منقلِب عن مفردة (أسترا Astra) الفارسية التي تعني النجمة، وهو تفسير لا يَبعد بنا كثيرًا عن عشتار، إذ إنّ الرمز الأشهر للإلهة الأكاديّة القديمة هو النجمة الثُّمانية التي توسّطت العلَم العراقي بين عامَي 1959-1963م مع بداية المَدّ البعثي واحتفائه بقومية ما بين النهرين! فكأننا أمام امرأة يهودية ذائبة منذ ميلادها في حضارة الوثنيين. على صعيدٍ آخر، نعرف أن اسمها الآخَر الأقلّ شُهرة (هَدَسّة)، وهو الاسم الذي اختارته المنظَّمَة الصهيونية الأمريكية للمرأة عام 1912 حين اجتمعت المؤسِّسات يوم عيد البوريم.

والاسم يعني بالعِبرية (شجرة الآس العِطري Myrtle) المعروفة بمرارة ثمارها ورائحتها العَطِرَة، وهو ما قد نراه منعكسًا في الدور الذي لعبته هدسّة/ إستر في الملحمة التي يخلّدها سِفرُها، فهي امرأة تُظهِر خلافَ ما تُبطِن، وتتذرّع بالحِيلة، وتتمسكن للملِك حتى تتمكّن، وحين تتمكّن تنتقم، لا مِمَّن أقدموا على الفتك باليهود فقط، وإنما مِن كُلِّ مَن يُشتَبَه في إضمارهم الكراهية للأُمّة اليهودية. وفي جعبة هذا الاسم الرهيب مفاجأة أخرى أكثر إثارةً سنعود لها في نقطةٍ لاحقة.

2- افتتاحية الإصحاح الأول: قليلةٌ هي أسفار التاناخ التي تبتدئ بتحديد تاريخِ وقوع أحداثِها بسنوات حُكم مُلوك الفُرس الأخمينيين، وتكاد تنحصر في (إستر) وثلاثة أسفارٍ أخرى هي (عزرا – حَجّي – زكريا). لكن (إستر) ينفرد مِن بينها باسترسالِه في وصف عَظَمة ملوك هؤلاء الأغيار وأُبَّهة قصورهم وولائمهم، في تجسيدٍ للانبهار غير المشروط بمجد الفُرس. صحيحٌ أنّ هناك إصحاحاتٍ سِتّةً يعترف بها المسيحيون الأرثوذكس والكاثوليك ولا يعترف بها البروتستانت ولا اليهود الذين يقصُرون السِّفر على الإصحاحات العشرة الأولى، وأنّ هناك إشاراتٍ متنوعةً في تلك الإصحاحات الستة المختلَف عليها إلى تبرُّم إستر بمكانها من هؤلاء الأغيار "إنك تعلم أني أبغض مجدَ الظالمين وأكره مَضجِعَ القُلفِ وجميعَ الغرباء. وأنت عالِمٌ بضرورتي وأني أكرهُ سِمةَ أُبَّهتي ومجدي التي أحملها على رأسي أيام بروزي وأمقُتها كفِرصة الطامث ولا أحملها في أيام قراري." (إصحاح 14: 15-16). إلا أنّ موضوع مقالِنا هو سِفر إستر كما يوجد في التاناخ العبري كتاب اليهود المقدّس، وهذا يخلو من تلك الإشارات المتبرّمة.

3- السِّفر التالي لإستر في التاناخ هو سِفر (أيوب) الذي تعتبره طائفة كبيرة من المفسرين اليهود من أنبياء الأُمم الأخرى، وهو ما يلفت انتباهَنا إلى رمزية هذا الترتيب للسِّفرَين، فكأنّ انصهار اليهود في بوتقة العالَم كما جسّدَه سِفر إستر قد مهّد لرؤيتِهم الخيرَ في الأغيار، لكن تأتي النسخة اليونانية السبعينية Septuagint من الكتاب المقدس اليهودي لتُصادِر أيوب كأحد أحفاد إبراهيم من طريق (عيسو بن إسحاق) فهو لا يَبعُد في نسبه كثيرًا عن إسرائيل.

4- كما قُلنا آنِفًا، هناك سِفرٌ واحدٌ خلافَ إستر يحمل اسم امرأة هو سِفر راعوث. في هذا الأخير نجد نموذجًا لامرأة من الأغيار (راعوث) تختار العودة مع حماتها اليهودية إلى بيت لحم بعد وفاة زوجِها، مفضّلةً شعب إسرائيل وربَّ إسرائيل على شعبها المؤابي وأربابها المحليين، فيكون جزاؤها أن يعوضها الله خيرًا بالزواج من رجُل خيِّر هو (بُوعَز Boaz) وتلد له صبيًّا تربّيه حماتُها ويسمونه (عوبيد)، يصبح جدّ النبي الملك داود عليه السلام، وهي بالتالي – بالمناسبة – جدّة كبرى للمسيح عليه السلام نفسه، ولذا يعتبر المفسرون المسيحيون هذا السِّفر إرساءً لمبدأ عالمية المسيح، فأسلافُه ليسوا في إسرائيل فقط. في هذا السِّفر نجد عاطفة دينية قوية تفوق الاعتزاز بالعِرق الإسرائيلي، ونكتشف في نهايته أن جدة (داود) أحد أهم شخصيات التاريخ اليهودي امرأة غير إسرائيلية لكنها آمَنَت بإله إسرائيل الواحد وتخلّقَت بما يتطلبه هذا الإيمان من أخلاق. ومن اللافت أن هذا السِّفر يبدو مع إستر على طرَفَي النقيض، ففي إستر نجد النعرة القومية غالبةً على ما سواها، ولا يمكن أن تفوتنا المجزرة اليهودية التي يدّعيها (إستر) في طول الإمبراطورية الفارسية وعرضها، فضلاً عن نبرة الفخر المجلجلة في نهاية الآية الأخيرة من الإصحاح الثامن "وكثيرون من شعوب الأرض تهوَّدُوا لأنَّ رُعبَ اليَهُودِ وَقَعَ عليهم." حتى أن هذا التقابُل بين السِّفرَين لم يَفُت معلّقًا ملحدًا هو كاتب الخيال العلمي الرائد (إسحاق عظيموف) ذو الأصل اليهودي، في بداية فصل (إستر) من كتابه (دليل عظيموف للكتاب المقدس Azimov's Guide to the Bible)، حيث يقول: "لا نجد في إستر ذلك السحر اللطيف الذي لسِفر راعوث، وهو السِّفر الأسبق المشتمِل على عناصر خيالية. وإنما إستر بالأحرى سِفرٌ وحشِيّ."

5- رابطة الدم محرّكًا للصراع: ينسب السِّفر عدو اليهود الأول (هامان بن همداثا) إلى (أجاج) ملِك (إدوم) المنحدِر من (عيسو بن إسحاق). فإذا عرفنا بخلفية الصراع بين شاؤول/ طالوت Saul أول ملوك إسرائيل و(أجاج) كما أوردها سِفرُ صمويل الأول، أدركنا أن صراع هامان الأجاجي ومردخاي الذي يمتد نسبه إلى (كيش) كالملِك شاؤول هو شكل من أشكال تصفية الحساب القديم، وهو إرث وطيد من الكراهية. هكذا تلعب العصبية القَبَلية دورًا محوريًّا في تحريك الأحداث.

6- مردخاي النبي ذو الطبيعة الخاصة: كثيرة هي تفسيرات اسم مردخاي، يزودنا قاموس هتشكوك  للأسماء الواردة في الكتاب المقدس بثلاثة منها، فهو قد يمُتّ بصِلَة إلى معنى التوبة أو المُرّ أو الرُّضوض.

لكن تفسيراتٍ أخرى تعود بالاسم إلى مردوخ الإله البابليّ، ويلفتنا (عظيموف) إلى صِلَة القرابة بين مردوخ وعشتار في الأساطير البابلية، فهما ابنا عُمومة، وينطلق من هذه اللفتة إلى افتراض أنّ كاتب السِّفر لم يفعل إلا أن اقتبس الأسطورة البابلية فجعل مردخاي ابنَ عمٍّ لإستر (عشتار اليهودية) في حكايةٍ تُفترَض تاريخيتُها محاولاً إرضاء أذواق مُتَلَقِّيه من اليهود!

7- ما تَغلِبُ به، العَب به: يبدو أحشويرش إمبراطورًا خفيف العقل سهل القِياد، ينصاع لهامان بسهولة، ثم ما يلبث أن ينصاع لإستر بسهولةٍ أكبر! لكن السِّفر لا يذكره بسوء، كأن هناك اتفاقًا ضمنيًّا حتّمَ على كاتب السِّفر أن يسكت عن الإساءة إلى أحشويرش طالما أنه انحاز في النهاية إلى اليهود. تبدو نموذجًا احتذاه اليهود في قابل تاريخهم، فهكذا مجَّدوا نابليون الذي حررهم وعمل على إدماجهم في المجتمع الفرنسي بمقتضى قوانينه المدنية Napoleonic Code، فلا ندهش إن رأينا تمثالاً صغيرًا له على رأس شمعدان يهودي قديم الطراز (مينورَة حانوكِيّة Chanukkiyah) في أكبر معبد يهودي في أوربا في بودابست. كما لن يدهشنا أن نرى مثل ذلك مع دونالد ترامب نظير اعترافه بالقدس عاصمةً أبديةً للدولة اليهودية. وهو تَجَلٍّ آخر مُهِمّ لذلك العالَم اليهودي الجديد الذي افتتحه سِفر إستر منذ كتابتِه.

8-  من النقاء اللُّغوِيّ إلى سيّد الألسُن: ثَمّ قضيّة تثيرُها نهاية سِفر (نحميا) السابق مباشَرةً على (إستر) في ترتيب التاناخ، هي قضية النقاء اللغوي. يقول نحميا في الآيات 23 -25 من الإصحاح الثالث عشر: "في تلك الأيام أيضًا رأيتُ اليهود الذين ساكَنُوا نساءً أشدوديّاتٍ وعَمونياتٍ ومُؤابيات. ونِصفُ كلامِ بَنيهِم باللسانِ الأشدوديِّ ولم يَكُونوا يُحسِنُون التكلُّمَ باللسانِ اليهوديِّ بل بلسانِ شَعبٍ وشَعب. فخاصمتُهم ولعنتُهم وضربتُ منهم أُناسًا ونتفتُ شُعورَهم واستحلفتُهم بالله قائلاً لا تُعطوا بناتِكم لِبَنيهم ولا تأخذوا مِن بناتِهم لِبَنيكُم ولا لأنفُسِكم." هكذا يمثل نحميا حرصًا دينيًّا لا يخلو من قوميّةٍ على أن يلتصق اليهود بالفطرة. مِن الفِطرة أن تكون لهم لغةٌ يتواصلون بها ويقرأون بها أسفارَهم المقدسة، أما إذا تكلّموا بألسنة الأغيار ضاعت فطرتُهم وانسلخوا من قيود الدين الطاهر إلى عالَم الحضارة المُدَنَّس. وهو ما يحدث بشكلٍ سافرٍ في (إستر). فبغَضِّ النظر عمّا يدعم الوجود التاريخي لمردخاي في سجلاّت الأخمينيين – وهو أمرٌ مختلَفٌ عليه - يُحدّثنا السِّفر عن إصدار مردخاي الأوامر إلى نبلاء وعمال أحشويرش/ خشيارشاي فضلاً عن اليهود في كل أصقاع الإمبراطورية، كُلٍّ بلُغَته ولسانه. ليس ذلك فحَسب، وإنما دأب المفسرون على اعتبار اسم مردخاي بالكامل (مردخاي بلشان Mordecai Bilshan) فهكذا ورد الاسمان متعاقبَين في (عزرا 2:2) و(نحميا 7:7)، وعن مفردة (بلشان) قالوا إنها تعني المُرّ (ما يذكّرنا بثمار شجرة الآس التي تحمل اسمها هدسّة/ إستر) أي البيلسان بالعربية، أو إنها من كلمتي (بل شونو Bel Shu nu) أي (مردوخ سيِّدُهم) بلسان البابليين، أو كما تقول التأويلات المِدراشية التي يذكرها التلمود، جاءت كلمة (بلشان) من كلمتَي (بعل لَشون) أي سيد الألسُن، في إشارة إلى تمكُّن مردخاي من ناصية لغاتٍ كثيرة. هو إذن ذلك النبيُّ الذي بدأ حركة (تطبيع) واسعة مع الشعوب المتاخمة لليهود، بُغية تحقيق أكبر مكاسب ممكنة لإسرائيل.

9- أين اسمُ الرَّبّ؟!: النقطة الأخيرة وهي الأخطر على الإطلاق هي شهرة سِفر إستر بأنه الوحيد من أسفار التاناخ – بالإضافة إلى نشيد الأنشاد – الذي يخلو من أي ذِكرٍ لاسم الرّبّ. تقارن كرِستين هِايس "Christine Hayes" أستاذة الدراسات الدينية اليهودية بجامعة يِال سِفرَ إستر بسِفر دانيال، وتقول إن كلاهما يصور خطرًا يهدد الوجود اليهودي، لكن بينما يُهيبُ (دانيال) باليهود أن ينتظروا بإيمانٍ الخلاص مِن يد الربّ، تنحلّ العقدة في (إستر) بفعل بشري يهودي صِرف، فإستر ممتصّة تمامًا في الحضارة الفارسية، والهويّة اليهودية في (إستر) مسألة عِرقٍ أو قوميةٍ، لا مسألة دين.

والحقّ أن المفسّرين يدفعون بمفهومٍ مركزيٍّ في احتفال البوريم، يربطونه بظاهرة غياب اسم الرب عن السِّفر. هذا المفهوم يسمى (هِستِر بانيم Hester Panim) أو وجه الرب المستور. يقول التلمود البابلي إن أحداث سِفر إستر أُشيرَ إليها في سِفر تثنية الاشتراع من أسفار موسى الخمسة، تحديدًا في الآيات 16-18 من الإصحاح 31: "وقال الرب لموسى ها أنت ترقد مع آبائك فيقوم هذا الشعب ويَفجُر وراء آلهة الأجنبيين في الأرض التي هو داخلٌ إليها فيما بينهم ويتركني وينكث عهدي الذي قطعتُه معه. فيشتعلُ غضبي عليه في ذلك اليوم وأتركه وأحجبُ وجهي عنه فيكون مأكَلُه وتُصيبُه شرورٌ كثيرة وشدائد حتى يقول في ذلك اليوم أما لأن إلهي ليس في وسطي أصابَتني هذه الشرور. وأنا أحجُبُ وجهي في ذلك اليوم لأجل جميع الشر الذي عمله إذ التفتَ إلى آلهةٍ أخرى."

وعبارة "سأحجُب وجهي" بالعبرية تُنطَق Haster Astir Panai ومن هنا نعود إلى تلك المفاجأة المثيرة التي تحدثنا عنها في النقطة الأولى في اسم (إستر). في هذا التفسير، ينطوي اسم (إستر) على هذا المفهوم: وجه الرب المستور. أي أن غياب اسم الرب عن السفر أمر مقدّر سلَفًا. رغم ذلك لم يعدم المفسّرون تخريجًا نصّيًّا سحريًّا بعض الشيء لسِفر إستر، يظهر بمقتضاه اسم الرب أربعة ظهورات ملغِزة، من خلال تجاورات بعض الكلمات العبرية في عباراتٍ على ألسُن شخصيّات السِّفر، وهم قد تجاوزوا ذلك إلى إثبات هذه الظهورات في الترجمة الإنجليزية للسِّفر.

ويتّصل بلغز الغياب/ الحضور أمرٌ آخر، يُعيدُنا إلى السِّفر الآخَر الذي يخلو من ذِكر اسم الرب،  نشيد الأنشاد. يقول الربّي أبراهام بن عزرا إن كلمة (بَنَه) العبرية التي تعني "التفتَ إلى" في عبارة "التفتَ إلى آلهة أخرى" يجب أن تُقرأ (زَنَا) بمعنى ارتكاب الفاحشة، وهو بذلك يشير إلى تأويل نشيد الأنشاد باعتباره تعبيرًا عن وثوق العلاقة بين الرب وشعب إسرائيل كأنها علاقة زواجٍ، ومِن ثَمّ يصبح التفات اليهود إلى آلهة أخرى زِنا.

خلاصة هذه النقطة أنّ هذا الغياب الملغز لاسم الرب عن سفر إستر، وجِماع ما أشرنا إليه من تفاسير، والعلاقة بنشيد الأنشاد، كل ذلك يعبّر عن تقلُّص الحضور الإلهي الكثيف فيما يسبق هذا السِّفر من التاناخ إلى مجرد إشارات شديدة الخِفّة في (إستر)، كأن القداسة انتقلَت من الرب المتعالي إلى شعب إسرائيل نفسِه هنا، فهو شكلٌ من أشكال الحُلوليّة التي يحدثنا عنها أستاذنا د. عبد الوهاب المسيري في كتابه (اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود). لقد أخفى الربُّ وجهَه عن إسرائيل فانقضَت مرحلة الفطرة الدينية البريئة، وجاء زمنُ سِفر إستر ليدشّن مرحلةً جديدةً في علاقة إسرائيل بالعالَم، يصبح فيها شعب إسرائيل هو نفسُه الإله الذي يأتي بالخلاص لنفسه ويضرب مَن يُشتَبَه في عدائهم بيَدٍ من حديد. فإذا كان سِفر الخُروج يعبر عن خروج شعب الله المختار مِن مصر منتصرًا، فإنّ (إستر) في الحقيقة يعبّر عن خروجٍ ثانٍ، هو خروجُه من شرنقتِه التي يغلفها الحضور الإلهي الكثيف إلى معترَك العالَم وقانون الحضارة الوحشي، حيث يمارس ربوبيّته الخاصة بصِفَته (وارث الله المختار).

كلمة أخيرة:

للمكانة الخاصة التي لعيد البوريم دلالةٌ لا يجب أن تخفى علينا. إنه احتفالٌ يتجدد سنويًّا بهذا الخروج اليهودي الرمزي الثاني. وسواءٌ صَحّت أحداثُ السِّفر تاريخيًّا أو لم تصِحّ، يبقى وجود السِّفر وبِنَيته وخصائصه وعلاقاته بغيره من أسفار التاناخ/ العهد القديم بيّناتٍ على الذهنية اليهودية في ملامحها العامة. كما أن ما يتواتر من رفض آباء الكنيسة المبكرين لقانونية هذا السِّفر، وبينهم أثناسيوس ومليتو Melito of Sardis يثير الريبة بخصوص تسرُّب السِّفر إلى العهد القديم المسيحي الذي بين أيدينا. فحتى أشهر المُصلِحين المسيحيين قاطبةً (مارتن لوثر) يقول إن السِّفر تفسده أمورٌ وثنيةٌ لا تليق.

ويظلّ وجود السفر ضمن العهد القديم رغم كل ذلك يشير إلى نفوذ اليهود المتنامي في رسم المسيحية، فبدلاً من مفهوم (شعب الله الجديد) المركزي في المسيحية، والذي يفتح ذراعيه للبشرية كلّها، تظل هناك منطقة عميقة في التكوين العقَدِيّ للإنسان المسيحي ترى في إسرائيل ضرورةً حيّةً لابد من بقائها.        


0
التعليقات (0)