قضايا وآراء

تونس زمن وباء كورونا: بين الروح التضامنية وأنانية العصابات

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600
عادة، المخاطر الخارجية توحد الشعوب وتدفعها إلى تجميع الطاقات لمواجهة عدو خارجي، وكلما كانت التهديدات أقوى كانت حالة التوحد أمتن وأصلب، حتى لكأن "الخوف" يعتصر الشعوب ليستخرج أجمل ما فيها من قيم التضامن والإيثار والتضحية.

للمرة الثانية يتبدى توحد التونسيين بشكل لافت بعد أن مزقتهم الصراعات الأيديولوجية والمعارك الحزبية والتنافس على المواقع.

في المرة الأولى كان ذات كانون الثاني/ يناير من العام 2011، في حماية الحرية التي تفجرت كما ينبوع ماء كان يجلس عليه المستبد ليسد منابعه.

لقد أوقدت روح الشهيد محمد البوعزيزي مخزون شعبنا ومدخراته من كل معاني الخير والحب والكرامة والتضحية والصبر، حتى لكأننا كنا نكتشف هذا الشعب لأول مرة بعد عقود من التجفيف والتفريغ مارسها عليه سياسيون يختلفون في العناوين ويشتركون في المناهج، يومها اكتشف الشعب نفسه التي حجبوها عليه، يكتشف أنه قادر على الإطاحة بأعتى ديكتاتور وأنه شجاع وملتحمٌ وذكي.

كل المدن بشوارعها وأحيائها وأزقتها كانت عامرة بأفواج من الأطفال والشباب والكهول والشيوخ يسهرون الليل كله إلا قليلا، يحرس بعضهم بعضا وتهب جموع كلما دبّ دبيبٌ غريبٌ، يتقاسمون الشاي والقهوة والطعام في مشهد من التآزر والإيثار لم نشهده من قبل. لقد حجبوا طيلة عقود أجمل ما في شعبنا من القيم السامية ومن المبادئ الكبرى ومن الروحانية الإنسانية الفريدة، إنها تونس الحقيقية التي لم نرها من قبل.. لم يُعلمونا معانى الكرم والتسامح فيها إلا في أبعادها السياحية الدعائية، ولم يعلمونا معاني التضامن فيها إلا في سياق سياسة التدجين والتجميع والتنميط.

كانت تونس يومها تتبدى كأجمل ما تكون وكأبهى ما يجمل.. مبهرة وساحرة  في عيون المراقبين والمحللين وعلماء العمران البشري، لم تر العيون السائحة فيها طيلة عقود تلك الأعماق ولم تكتشف فيها تلك الأسرار العميقة.

في زمن كورونا (وبعد عودة المعارك السياسية طيلة المواسم الانتخابية ومراحل التجريب السياسي) ها هي تونس تستعيد روحيتها التضامنية، وها هم التونسيون يتوحدون في مواجهة وباء داهم العالم كله.

ليس مهما إن كنا بصدد حالة تجريب حرب بيولوجية، وإن كان الفيروس مُعَدّا في أحد مختبرات مخابرات الدول الكبرى، ولكن الأهم أننا نواجه تهديدا حقيقيا وعدوا غير معلوم وغير مرئي، تماما كمن يتسرب في الظلام ليغدر بالغافلين؛ يصيبهم في مناعتهم ويسلبهم سلامتهم وعافيتهم.

وزير الصحة الدكتور عبد اللطيف المكي صوّر المعركة بكونها "حربا" ضد "عدو خفي"، ونبه التونسيين إلى كون المعركة مع العدو الخفي أعسر من معركة مع عدو مكشوف، واستحث "جيش" الإطار الطبي على رص الصفوف، حتى إنه حضر مراسم أداء القسم في مناسبتين، كما لو أنه يسد باب "التولي يوم الزحف" وهو يرى أن المعارك السابقة كانت تخوضها الجيوش العسكرية مسنودة بالطواقم الصحية، أما اليوم فالحرب ضد كورونا تخوضها الجيوش الطبية مسنودة بالطواقم العسكرية.

لقد استطاع الوزير عبد اللطيف المكي أن يكون كيمياء وحدة وطنية، واستجمع من حوله التونسيين كل التونسيين في مواجهة خطر كورونا.

مقبولية المكي لدى أغلب التونسيين من سياسيين ومنظمات وعموم الناس إنما يستمدها من "حضوريته" تواصلا وأداء، وحتى نجاحات قد تكون نسبية أو قد تكون مأمولة، وهو لا يستمد تلك المقبولية من هويته السياسية كقيادي في حركة النهضة.

نأمل ألا تتعامل معه مختلف الأطراف بهويته السياسية حتى لا يتألب عليه منافسو حزبه ولا يستثمر في "حضوريته" أبناء حزبه، فيجلبون عليه واضعي العصي في العجلات.

لم يحظ وزير بدعم مختلف الأحزاب والمنظمات كما حظي به وزير الصحة الحالي، ولأول مرة يقود الاتحاد العام التونسي للشغل حملة التبرعات لصالح صندوق مقاومة كورونا. لقد أنست كورونا التونسيين معاركهم السياسية لتوحدهم في معركة هي أشبه ما تكون بحرب ضد عدو غير مرئي.

في ظل هذا التماسك والتضامن وحملات التبرع وصمود جيش الميدعة البيضاء، يتسلل أصحاب الغرائزية المتوحشة يريدون الاستثمار في الأزمة، يسرقون الأدوية ويسمسرون فيها، بل ويستوردون معدات منتهية الصلاحية، لا يهمهم غير كسب المال حتى وإن مات تونسيون.

كتب الدكتور عدنان منصر، عالم الاجتماع ومستشار الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقي:"إسبانيا توقف استعمال مئات آلاف معدات الكشف عن كورونا صينية الصنع بسبب عدم مطابقتها للمواصفات نتيجة عملية غش في التصنيع. الأمر يتعلق بنفس الأجهزة التي سعى سمسار الأدوية وشركاؤه لإدخالها حيز الاستعمال في تونس لولا يقظة وزارة الصحة. صفقة فاسدة قيمتها مليارات عديدة، بالإضافة إلى أن استعمالها كان يعني ليس إطالة الكارثة فقط، بل إبادة التونسيين. هؤلاء الذين فتح لهم زملاؤهم السماسرة المنابر الإعلامية لمهاجمة وزارة الصحة، ولإثارة الهلع في الرأي العام، يجب أن يكونوا عبرة لمن يفكر مستقبلا في ارتكاب جرائم إبادة ضد التونسيين. الأمر ليس سمسرة للربح المالي فقط، بل سمسرة من أجل الإبادة. ماذا ستفعل الحكومة؟ المشاركة في جريمة إبادتنا بالصمت على هؤلاء؟؟ ماذا ستفعل هياكل المهنة الصحفية؟ الصمت على محاولة إبادتنا أيضا؟ ماذا سنفعل نحن؟ السكوت عن محاولة قتلنا جماعيا؟".

كما ذكر المهندس فتحي عبد الباقي المقيم بباريس:

"اليوم على إذاعة France info

في مدينة نيس الفرنسية تم اكتشاف وإيقاف شبكة تهريب كمامات تأتي من تونس إلى ثلاثة صيادلة في "نيس" و"كان" و"قراص. ليس مستبعدا أن الكمامات تهرّب من المصانع أو تُسْرق من المستشفيات التونسية وتباع وتهرّب للخارج لأن الطلب عليها كبير والثمن أغلى بكثير".

ثمة نداءات إلى رئاسة الجمهورية وإلى رئاسة الحكومة من أجل اتخاذ إجراءات رادعة بمستوى حالة "الحرب"، حتى يُعامَل المستثمرون في الوباء معاملة الخونة، وإن أشد الخيانات هي التي تحصل زمن الحروب. وهناك عريضة يتم إمضاؤها لمقاضاة بعض من ثبت تورطهم.

التونسيون أبدوا ردة فعل عارمة بوجه برنامج تلفزي على إحدى القنوات الخاصة كان هدفه استهداف وزير الصحة وخدمة تجار الأدوية والأجهزة الفاسدة، ردات الفعل تلك أجبرت الهيئة العليا للإتصال السمعي البصري على إصدار قار بإيقاف البرنامج لثلاثة أشهر، وهو قرار يراه أغلب التونسيين غير كاف وليس بحجم الجريمة التي ارتكبتها القناة.

مستوى التزام الحجر الصحي في تونس هو الذي نجد آثاره في مجموع الإصابات التي تبدو حتى الآن متوسطة ولا تدفع إلى الفزع، بل لعل تونس تصنف ضمن الدول الأقل تضررا حتى الآن..
التعليقات (0)

خبر عاجل