كتب

تقرير التنمية البشرية لعام 2019.. المساواة الغائبة

تقرير أممي: معدل الأمية بين البالغين في الدول العربية بقي في حدود 36 في المائة (عربي21)
تقرير أممي: معدل الأمية بين البالغين في الدول العربية بقي في حدود 36 في المائة (عربي21)

الكتاب: تقرير التنمية البشرية لعام 2019
الكاتب: مجموعة باحثين متخصصين .
الناشر: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي،(351) صفحة من القطع الكبير.
الترجمة إلى العربية: فريق من لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الأسكوا).

يعتبر تقرير التنمية البشرية لعام 2019 هو الأحدث في إطار إصدارات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ عام 1990. وقد تضمنت التقارير الأولى مؤشرات ذات دلالة للتطور لـ (178) دولة في العالم، تتمثل بمؤشر العمر المتوقع للفرد ودخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، فضلاً عن معدلات التعليم للفئة العمرية التي تتجاوز خمسة عشر عاماً من العمر. وقد رصد التقرير الحديث بالمعطيات لأوجه عدم المساواة في القرن الحادي والعشرين .

في أسباب الثورات

يرى تقرير التنمية البشرية لعام 2019، بأن موجات التظاهرات الشعبية التي تجتاح بلداناً عديدة وبطبيعة الحال ثورات الربيع العربي منها، هي بمثابة إشارة واضحة إلى أن توجه الناس إلى الشارع يكمن في أسباب مختلفة، فمن ثمن أسعار البنزين إلى المطالب السياسية بالاستقلال والحرية. أما المحرك المشترك لجميع هذه المطالب فهو الشعور العميق المتفاقم بالإحباط إزاء عدم المساواة والعدالة الغائبة.

ويتطلب فهم كيفية التعامل مع ما يعم العالم اليوم من اضطراب النظر إلى "ما وراء الدخل والمتوسط والحاضر، وفي حين يلجأ الناس إلى الاحتجاج ليبقوا على ما في جيوبهم من المال، يبقى النفوذ صاحب الكلمة الفصل: نفوذ القلة، وعجز الكثرة، والنفوذ الجماعي الذي يمكّن الناس من المطالبة بالتغيير. والمقصود بتخطي الدخل تناول المصالح المتجذرة ـ الأعراف الاجتماعية والسياسية التي تضرب جذورها عميقاً في تاريخ وثقافة شعب أو مجموعة.

 

موجات ثورات الربيع العربي التي كان الشباب الجامعي نواتها، تعتبر بحد ذاتها دالة جوهرية بأن هذه الفئة من الجماهير العربية كانت الأكثر تضرراً من السياسات الفاشلة للنظم العربية الشمولية،

 



يكشف تقرير التنمية البشرية لعام 2019 نشوء جيل جديد من أوجه عدم المساواة. وإذ تضيق الفجوة في مستويات المعيشة الأساسية، وتفلت أعداد غير مسبوقة من براثن الفقر والجوع والمرض، تتطور الإمكانات التي يحتاج إليها الناس للمنافسة في المستقبل. فقد نشأت فجوات جديدة، كما في التعليم العالي وفي إنترنت النطاق العريض ـ الفرص التي كانت في السابق من الكماليات أصبحت اليوم حاسمةً في التنافس والانتماء، لا سيما في اقتصاد المعرفة، حيث لا سلّم لارتقاء عدد متزايد من الشباب المتعلم المتصل بالعالم.

ويمكن الجزم بأن موجات ثورات الربيع العربي التي كان الشباب الجامعي نواتها، تعتبر بحد ذاتها دالة جوهرية بأن هذه الفئة من الجماهير العربية كانت الأكثر تضرراً من السياسات الفاشلة للنظم العربية الشمولية، التي أدت إلى إفقار 90 في المائة من الشعوب العربية وترسيخ عدم المساواة وتوطيد نفوذ القلّة وهيمنتها السياسية والاقتصادية .

ماذا عن المستقبل؟

يؤكد التقرير بأن أوجه عدم المساواة في التنمية البشرية هي بمثابة حواجز تحول دون تحقيق خطة التنمية المستدامة في دول العالم لعام 2030. ولا تقتصر هذه على الفوارق في الدخل وفي الثروة، ولا يمكن اختزالها بمقاييس تركز على بعد واحد، بل إنها ستحدّد معالم مستقبل من قد تكتب لهم الحياة في القرن الثاني والعشرين. هكذا، لا بد في دراسة أوجه عدم المساواة في التنمية البشرية من الذهاب إلى ما وراء الدخل والمتوسط والحاضر، ما يؤدي إلى خمس رسائل رئيسية تتمثل بالتالي:

أولاً ـ بينما تجاوز كثيرون الحدود الدنيا للآداء في التنمية البشرية، لا تزال التفاوتات واسعة الانتشار. في أوّل عقدين من القرن الحادي والعشرين تحقّق تقدما ملحوظا في الحد من أشكال الحرمان الشديد، غير أنّ التفاوتات لا تزال على مستويات غير مقبولة في مجموعة من الإمكانات، لا سيما حرية الأفراد في أن يحققوا ذواتهم وما ينشدونه من دراسة أو عمل أو ما يكفي من غذاء. ويخلّف التقدم وراءه بعض من هم أكثر عرضة للمخاطر، بل حتى من يعانون أشد أشكال الحرمان. ويخلص التقرير إلى نتيجة مفادها، بأنه لا يمكن القضاء على التفاوتات المذكورة سابقاً بحلول عام 2030، كما تنشد أهداف التنمية المستدامة.

ثانياً ـ الرسالة الثانية تتمثل بنشأة جيل جديد من أوجه عدم المساواة الحادة، مع أن الكثير منها الذي نشأ في القرن العشرين أخذ يُذلل. ففي ظل أزمة المناخ وموجة التغيّر التكنولوجي الكاسحة، تتطوّر أوجه عدم المساواة في الإمكانات بطرق ملتفة. فعدم المساواة في الإمكانات الأساسية، المرتبط بأشكال الحرمان الأشد، آخذ في التقلص، بصورة درامية في بعض الحالات، كما في عدم المساواة في متوسط العمر المتوقع عند الولادة على الصعيد العالمي. وكثيرون ممن كانوا في الأسفل يصلون اليوم العتبات الأولية للتنمية البشرية. ولكن في الوقت نفسه، تتفاقم أوجه عدم المساواة في الإمكانات المعززة التي تعكس جوانب من الحياة يحتمل أن تزداد أهمية في المستقبل لأنها ستكون على التمكين أقدر. ومن يتمتعون اليوم بهذه الإمكانات يقفون على أبواب غد أفضل.

 

إعادة توزيع الثروات الوطنية وتالياً الدخل في الدول العربية وترسيخ العدالة الاجتماعية والاقتصادية أمر مستحيل في ظل استمرار النظم السياسية العربية الديكتاتورية في الحكم .

 



ثالثاً ـ الرسالة الثالثة تتمثل في المؤشر الثالث (حسب تقرير التنمية البشرية لعام 2019) في إمكانية تراكم أوجه عدم المساواة مدى الحياة، وكثيراً ما تفاقمها اختلالات عميقة في موازين القوى. فهي ليست سبباً للإجحاف قدر ما هي نتيجة له، تدفعها عوامل متجذرة في المجتمعات والاقتصادات والبنى السياسية. 

وتعني معالجة أوجه عدم المساواة في التنمية البشرية التصدي لهذه العوامل: التحسين الحقيقي لن يتأتى بتصحيح الفوارق فقط عندما تكون مداخيل الأفراد قد أصبحت بالغة التفاوت، لأن أوجه عدم المساواة تبدأ منذ الولادة، بل أحياناً كثيرة حتى قبل ذلك، ويمكن أن تتراكم مدى الحياة. كما لا يكون التحسين الحقيقي أيضاً بالنظر إلى الوراء ومحاولة تكرار سياسات ومؤسسات نجحت في خفض عدم المساواة في أوقات وبلدان معيّنة خلال القرن العشرين.
 
رابعاً ـ أما الرسالة الرابعة فتتمثل بضرورة تقييم عدم المساواة في التنمية البشرية ثورة في المقاييس. فالسياسات الجيدة تُبنى على مقاييس جيّدة، والجيل الجديد من أوجه عدم المساواة يستدعي مقاييس جديدة. وتبعاً لذلك، ثمة حاجة إلى مفاهيم أوضح مرتبطة بتحديات العصر وإلى الجمع بين مصادر شتى للبيانات واستدام أدوات أدقّ للتحليل. وما يجري من أعمال مبتكرة ينمّ عن أن المداخيل والثروات تتراكم لدى الشرائح العليا في العديد من البلدان بسرعة تفوق ما يمكن التقاطه بمقاييس موجزة لعدم المساواة. ويمكن لهذه الجهود إن عُمّمت ونُشرت أن تُرشد على نحو أفضل المناقشات العامة والسياسات. وقد لا تبدو المقاييس أولوية إلى أن يأخذ المرء بالاعتبار مدى سيطرة مقاييس كالناتج المحلي الإجمالي منذ إطلاقة كمؤشر اساسي للتنمية البشرية في الدول خلال النصف الأول من القرن العشرين.

خامساً ـ الرسالة الخامسة والأخيرة، تكمن في أن تصحيح عدم المساواة في التنمية البشرية في القرن الحادي والعشرين أمر ممكن، إذا بدأنا العمل حالاً، قبل أن تتحوّل الاختلالات في النفوذ الاقتصادي إلى هيمنة سياسية راسخة. وفي تحسّن مستويات عدم المساواة في بعض الإمكانات الأساسية ما يبيّن بوضوح أن التقدم ممكن. لكن ما تحقق من إنجازات في الإمكانات الأساسية في الماضي لا يلبّي تطلعات الناس في هذا القرن. 

ومع أن تكثيف الجهود لمواصلة الحد من عدم المساواة في الإمكانات الأساسية لازم، إلا أنه لا يكفي. فإذا كانت الإمكانات المُعززة تعني التمكين، قد يؤدي تجاهل الفجوات الناشئة في هذه الإمكانات إلى شرخ بين واضعي السياسات وبين تمكين الناس من تولي أمورهم بأنفسهم، أي قدرتهم على اتخاذ قرارات تلبّي تطلعاتهم وتنسجم مع قيمهم. 

ولا يمكن بغير التنبّه إلى الجيل الجديد من أوجه عدم المساواة في الإمكانات المعززة، والكثير منها آخذ في النشوء، اجتناب المزيد من تجذر عدم المساواة في التنمية البشرية في القرن الحادي والعشرين. كيف؟ لا بالنظر في السياسات الواحدة بمعزل عن الأخرى أو الاعتقاد أن حلاً سحرياً يصلح لكل مسألة. في بعض الحالات، يُنظر إلى إعادة توزيع الدخل، الذي يغلب على مناقشات السياسات بشأن عدم المساواة، على أنه الحل السحري. وهنا أجزم كباحث ومتابع بأن إعادة توزيع الثروات الوطنية وتالياً الدخل في الدول العربية وترسيخ العدالة الاجتماعية والاقتصادية أمر مستحيل في ظل استمرار النظم السياسية العربية الديكتاتورية في الحكم .

التنمية البشرية العربية 

من خلال متابعتنا الدقيقة لمعطيات تقارير التنمية البشرية في العالم الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بشكل دوري منذ عام 1990 وحتى عام 2019، نلحظ بوضوح عدم تصدر أي دولة عربية المراتب العشرة الأولى، مثل كندا واليابان والدول الأسكندنافية التي حققت مؤشرات تنمية بشرية مرتفعة تبعاً للمؤشرات التي تبنتها التقارير الصادرة عن البرنامج، مثل العمر المتوقع ودخل الفرد من الناتج المحلي ومعدلات التعليم بين الكبار، فضلاً عن مؤشرات إضافية مثل معدلات المعرفة بالتقنيات الحديثة والسوشيال ميديا والبحث العلمي، وصولا إلى مؤشر المساواة الذي تصدى له تقرير التنمية البشرية لعام 2019.

وعلى الرغم من ارتفاع مجموع المستفيدين من الخدمات الاجتماعية، وتحسن المؤشرات الدالة على ذلك في عدد من الدول العربية، مثل معدلات القراءة بين البالغين والشباب، إضافة إلى معدلات الالتحاق بمراحل التعليم المختلفة، ومتوسط العمر المتوقع، وتراجع معدلات الوفيات؛ وكذلك التحسن الملحوظ في مستويات التعليم والصحة، حسب تقارير التنمية البشرية التي تصدر سنوياً عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ عام 1990، فإن الثابت أن ثمة أزمات حقيقية ما زالت ماثلة للعيان؛ تهدّد، إلى حد كبير، الإنجازات المشار إليها؛ وكذلك تعتبر، في الوقت نفسه، من المعوقات الأساسية للثورة المعرفية الحقيقية في الوطن العربي، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي (السوشال ميديا) الذي أصبح في الوقت نفسه مؤشراً رئيسياً على التنمية البشرية العربية.

ومن أهم معوقات الارتقاء بالثورة المعرفية، واتساع طيف المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي بشكل إيجابي وبنّاء، ارتفاع معدلات الفقر؛ والفقر المدقع، والبطالة؛ والأمية، بشكل لافت.‏ وفي هذا السياق، يمكن القول إن ظاهرة الأمية الآخذة في التفاقم بسبب معوقات التعليم والارتفاع الكبير في مجموع السكان، حيث يتعدى معدل النمو السكاني في غالبية الدول العربية (3.5) في المائة سنوياً، تعتبر من المشكلات المستعصية في الدول العربية، على الرغم من محاولات بعض الدول العربية وضع خطط للحد من اتساع تلك الظاهرة، لكن ببطء شديد. 

وتفيد تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الصادرة بين 1990 و2019، أن نصف مجموع الإناث العربيات البالغات، ونحو ربع الإناث الشابات، أميات، كما تفيد المعطيات بأن معدل الأمية بين البالغين في الدول العربية بقي في حدود 36 في المائة خلال السنوات الأخيرة.

خاتمة 

تكمن أهمية تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ عام 1990 ومن ضمنها تقرير عام 2019، في مساعدة دول العالم لتحقيق التنمية المستدامة وجسر الهوة بين الشرائح الاجتماعية المختلفة بغرض تحقيق العدالة والمساواة الغائبة بسبب تراكم المداخيل في جيوب شريحة  محددة من المجتمع، كما أشار التقرير الذي عرضنا له .

*كاتب فلسطيني مقيم في هولندا

التعليقات (1)
mohamed.atef
الأربعاء، 08-04-2020 07:42 م
حسبنا الله ونعم الوكيل