قضايا وآراء

أَوبِئَةٌ وبِيئاتٌ وَبائِيَّة.. طَبيعيَّةٌ وبَشَرِيَّة

علي عقلة عرسان
1300x600
1300x600

في هذه الظروف المأساوية القاسية التي تحكُمنا وتهدِّد البشر في عالمنا، تركَّزَ الحديث على فيروس "سارس ـ كوف ـ 2" وعلى وباء "كوف 19"، كورونا، وهو حسب الخبراء، من أخطر الأوبئة التي ألمَّت بنا وتهدِّدنا وتكاد تشل حياتنا، وها هو العالم يستنفر لمواجهته هذا الوباء بعلم وحزم.. 

ومن المؤكد أنه سيضعف وينتهي كما انتهت أوبئة وجائحات أخرى. لكنّ هناك طيفاً واسعاً من الأوبئة التي تجتاح عالمنا وتنهك البشر وتبيد الملايين منهم ويستمر تهديدها لهم، ولا يتم الحديث عنها ولا تواجَه بجدية لكي يوضَع لفتكها وتهديدها حدّ، وتبقى مقيمة وولودا، على الرغم من خطورتها وتأثيرها الكبير على الناس والحياة.
 
من المعروف أن من الفيروسات والأوبئة ما تطوره الطبيعة عبر مخلوقات حية ويكون فيها العنصر البشري "مضيفاً وحاضناً ووسيطاً" وناقلاً للعدوى فيصل إلينا الوباء قتالاً، ومنها ما يكون فيه العنصر البشري صانعاً للوباء ومصدراً وناشراً له ومستثمراً فيه..
 
وإذا ما دققنا في مراحل من الزمن القريب والراهن وجدنا: الأوبئة ذات المنشأ الطبيعي مثل الطاعون والملاريا والجدري والأنفلونزا الإسبانية والفيروسات التاجية التي من آخر أجيالها "كوفيد ـ 19 كورونا".. ووجدنا الأوبئة ذات المنشأ البشري التي تعتمدها سياسات وتصنِّعها دول في مختبرات وتستخدمها للإبادة في الحروب وتهدد بها في السّلم، وتسميها "أسلحة محرَّمَة دولياً" يُمنع تصنيعها وتطويرها واستخدامها "نظرياً"، لكنها مباحة ومستباحة عملياً بصورة حصرية "تصنيعاً وتطويراً واستخداماً" من الأقوياء الذين يستخدمونها بوحشية، ولا يتورعون عن ترديد "التحريم" ادعاء ونفاقاً.. ومن تلك الأسلحة ـ الأوبئة: "البيولوجية والجرثومية والنووية وما في حكمها..".. وهي أسلحة ـ أوبئة، أو أوبئة مسلحة تفتك بالبشر في الحروب، وتسبب جائحات ومجاعات وكوارث ومآسٍ إنسانية ومعاناة لا توصف، ويروح ضحيتها عشرات الملايين من الناس، وتُدمر دولاً وعمراناً ومجتمعات وقيماً وثقافات وحضارات.. 

ويضاف إلى وباء الحروب ودمارها، ما تسببه صراعات الدول على "زعامة الغابة البشرية واستباحة أناسها وخيراتها" من تهديد للسلم والأمن والاستقلال والاستقرار وإضعاف للاعتماد المتبادل والثقة المتبادلة والتعاون بين الشعوب والدول.. 

وإذا أضفنا إلى هذا وذاك ما ينتجه جشعُ السياسات والمؤسسات والشركات العملاقة والشخصيات الأنانية والعنصريات المتورمة "نفسياً وروحياً وخلقياً" من أوبئة حية متنقلة محمية بالقوة المتوحشة، وما يؤسس له ذلك من أسباب وحاضنات ومنشطات ومفعِّلات للأوبئة ولملوثات البيئة ومُخَرِّبات المناخ ومقومات العيش.. فإن ملامح صورة ما ينعكس على البشر من جائحات وكوارث وتعاسات وكروب ومعاناة، ذات مناشئ طبيعية وبشرية قد تتضح قليلاً..

 

إن هذه البيئة التي يخلقها بشر، ويوظفها ويستثمر فيها بشر.. هي ما يجب أن نواجهه لنواجه أطيافاً من الأوبئة تنتهكنا وتفتك بنا وتجعلنا حطَبَ متوحشين وأغنياء حاكمين وسياسيين عنصريين دمويين فاسدين وطغاة تفسد بهم ومعهم الحياة.

 



ومن الملاحَظ أنه نادراً ما يجري الحديث عن أوبئة تسمّم الأرواح والأنفس وتخرّب الأفراد والمجتمعات، وتفتك بالإنساني والأخلاقي والوجداني والروحي، وتنتج بيئات ملوثة فاسدة طاردة للخير والفضيلة والرحمة والقيمة في حياة الأفراد والمجتمعات، ومدمرة للمعايير السليمة وطاردة للكفاءات في معظم المجتمعات ولكل عوامل النهوض والعيش النظيف الكريم القويم في مجتمعات معافاة.. ويزيد الطِّينَ بِلَّة أن تلك الأوضاع المأساوية التي تحيق بالفقراء والطيبين والمساكين من البشر توظفها دول وأنظمة وسلطات وأجهزة في دول ووتفرض ما تريده هي والقوة المتوحشة الآمرة على الناس بأساليب الفساد والإفساد، مستبيحة كل الوسائيل والأساليب والأدوات لتحقيق أهدافها معتَمَد "سياسات، واستراتيجيات، وأهدافاً، ومصالح" خاصة تضعها فوق العادل والحقَّاني والقانوني والإنساني والأخلاقي، وتجعلها مع الزمن في صلب التكوين التربوي والقيمي لفئات وأشخاص.. وتلك أنواع من أوبئة تحتاج إلى من ينظر إليها ويدقق في منشئها ومخاطرها وفي كيفية مواجهتها والتخلص منها، لتخليص البشرية من بيئة ملوثة طاردة تنتج أوبئة طبيعية وبشرية وتحتضنها وترعاها وتنشرها.

إن أساس الكثير من الأدواء والأوبئة والمآسي والمعاناة في المجتمعات والدول تعود إلى تكوُّن البيئة الملوثة الفاسدة، وهي بيئة طاردة للأصلح والأسلم والأقوم والأفضل، على صعيد الملَكات والطاقات والأعمال والنيات والاستثمارات والسياسات والمعارف بأنواعها، وعلى صعيد الأخلاق والقيم الإنسانية المعافاة.. والبيئة الطاردة يخلقها الطغاة والطغيان، الاستبداد والمستبدون، العدوان والمعتدون، والجشع والادعاء والأنانية المتورِّمة والقوة الغاشمة ومن يصنعون ذلك ويوظفونه لصالحهم، ومَن يضعون كل شيئ في خدمتهم من خلال تلك البيئة الطاردة الملوثة الطاردة التي يرعونها ويستثمرون فيها. 

والبيئة الطاردة، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو مالية أو اجتماعية، أو إعلامية أو ثقافية، فإنها بيئة مفقرة مبئسة مؤسية وقاتلة: وهي فاسدة مفسدة، متخلّفة ومغلقة ومتعصبة وجاهلة مُجَهِّلَة، عنصرية وطائفية متعصبة وضيقة.. كيفما كانت وتجلت "أيديولوجية عِصموية، وحزبية متشنجة، وشِلَليَّة انتهازية، وغوغائية ادعائية، إلخ…".. 

إنها بيئة طاردة للكفاءة والإبداع، للعدل والرحمة، للأخلاق والضمير، للحر والنقي والإنساني.. هي بيئة أشخاص وفئات وأقليات أدمنت العدوانية وغطتها بفوقية عنصرية ووبأغطية مثالية.. تعيش حالات رُهاب عتيق عميق تحولها إلى إرهاب مقنّع أو صريح، وإلى عداء وكراهية ومقت مغطى بادعاءات براقة منها نشر العدالة الاجتماعية ومحاربة الظلم والتهميش، والدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية والتحرير.. إلخ.. 

إنها بيئة تحارب المبدعين الأصلاء، والمنتجين الأكفَاء، والإنسانيين الأحرار.. تزوِّر المفاهيم الإنسانية والوطنية والقومية وتتاجر بها، وتحاسب الوطنيين الحقيقيين والمنتمين لأوطانهم وشعوبهم بشرف وصدق.. يعرِش فيها الفساد وينتج إفساداً وفاسدين ومفسدين.. بيئة يُقهر فيها الناس ويزادون رهقاً وجوعاً وخوفاً ورخاوة و وخواءً على ما هم فيه.. بيئة ترتفع فيها صورة فرد مصَنَّع تعنوا لها رقاب حولها الجوع والخوف والطمع والتزلف إلى صُور تتبع صُوراً، ولأشباه أشخاص وأشباه أحياء يسكنهم الرعب والجهل، يرفعون الطاغوت آية وراية وغاية، ويزعقون بتبعية تشبه العَمَه وتخوض في التأليه، ويثابرون على فعل يبيد العقل والجرأة والفعل المنقذ والضمير الحي والهمة.. 

 

إن أساس الكثير من الأدواء والأوبئة والمآسي والمعاناة في المجتمعات والدول تعود إلى تكوُّن البيئة الملوثة الفاسدة، وهي بيئة طاردة للأصلح والأسلم والأقوم والأفضل،

 


ويؤولون من بعد إلى مذَلَّة وسُقْمٍ وعقم وعذاب مقيم.. فتترسخ بهم بيئة موبؤة لا تأخذ بالعدل ولا تعرف النهضة ولا التسامح والرحمة.. يحكُمها الماديُّ ويتحكَّم بها ويضمحل فيها الرُّوحي والمعنويُّ ويتهرَّأ جُوَّنيَّتِها.. لا يعني فيها الإيمان لأفرادها شيئاً.. بيئة موبوءة بالنفاق والارتزاق والادعاء، تفرِّخُ الموبوئين والأوبئة والفساد والمفسدين، وتُنْسِل الأدوات والأدواء والشقاء جيلاً بعد جيل.. تصادر الفرحة، وتسلب الضحكة من القلب، وتحاسب على الابتهاج والابتسامة، وتلغي الأمن والأمل من حياة الإنسان، وتنتج جحيماً يورِّث جحيماً. 

المقت فيها يموء ملء القلوب والوجوه، والكراهية تسعى في فضائها، والغدر يتربص بإنسانها في دقائق الأزمنة وفي زوايا الأمكنة ليفتك به.. بيئة حقولها خصبة يُبْذَرُ فيها الكذبُ والافتراءُ والخداعُ فتعطي من ذلك المزيد والمزيد.. تسلب المرءَ الأمل والقدرة على استثمار طاقاته في العمل والإبداع، من دون إحساس بدونية ولا انصياعٍ ولا اتباع.. بيئة تورث بؤس التفكير والتدبير، وتأخذ بزوير الواقع والوقائع، وبتشويه الأشخاص والأديان.. تبيح وتستبيح بلا حدود ولا قيود.. وتهمل الإنسان والإنساني، وتنتهك الروحاني والمثاليَّ وتستهين بالحياة. 

إن هذه البيئة التي يخلقها بشر، ويوظفها ويستثمر فيها بشر.. هي ما يجب أن نواجهه لنواجه أطيافاً من الأوبئة تنتهكنا وتفتك بنا وتجعلنا حطَبَ متوحشين وأغنياء حاكمين وسياسيين عنصريين دمويين فاسدين وطغاة تفسد بهم ومعهم الحياة. 

التعليقات (0)