قضايا وآراء

كورونا.. "البشرية" إذ تكتب قصتها من جديد.

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
الكاتب "ستيفن بينكر" (66 عاما)، صاحب الكتاب الشهير "التنوير الأن" والذي أوصى بيل جيتس العالم كله بقراءته من عامين مضيا، له جملة شهيرة عن الأخلاق يقول فيها: "الأخلاق ليست مجرد موضوع قديم، إنها هي فهمنا للحياة، إنها الشيء الذي يمنحنا الإحساس بإنسانيتنا". بينكر "اليهودي المثقف" كما يصف نفسه، أو "اللادينى" كما يحلوا له أن يصف نفسه أحيانا، له كتاب آخر صدر قبل كتاب التنوير مباشرة، اسمه "الملائكة في جوهر الطبيعة البشرية". والكتاب يعرف من عنوانه كما يقولون، والعنوان كما نفهم يشير إلى الطبيعة الثنائية في الإنسان "الروحية والمادية". أهلا بك أيها اللاديني العتيد في رحاب الدين وأنوار الدين.

* * *

العلامة على عزت بيجوفيتش اعتبر تلك "الثنائية" مدخلا أساسيا لكتابه الأشهر "الإسلام بين الشرق والغرب"، والذي نشر عام 1994م، بل وأشار إلى أن سوء الفهم في الغرب تجاه الإسلام راجع لعدم فهمه لتلك الثنائية، بالإضافة طبعا لتجربته التاريخية الخاصة مع الدين. ويشير أيضا إلى طبيعة العقل الأوروبي "أحادي النظرة" في هذا السوء فهم وفي "قصور اللغات الأوروبية" عن استيعاب المصطلحات الإسلامية الجوهرية، وضرب مثلا بمصطلح "الثنائية القطبية".. العقل الغربي مثلا لم يفهم أن "يتوضأ" الإنسان وهو فعل مادي ثم يدخل في الصلاة يناجي ويركع ويسجد لله الذي يحبه ويخشاه "بالغيب" دون أن يراه.. وهما المبدآن اللذان يذهبان عميقا في بنية الإسلام. ويقول في كلمتين موجزتين: الصلاة هي "الاختصار الكودي" للإسلام ككل.

الروح والمادة.. هذه "الثنائية الكامنة" التي تجمع المتناقضين في كيان واحد، جمع "تفاعل وتزاوج" تنتج عنه كائنات جديدة متكاملة العناصر، كما في الطبيعة عندما تلتحم فيها ذرات الأوكسجين والهيدروجين لتنتج "الماء" الذي يشرب منه الأحياء، وهي خاصية جديدة وإلا فإن أحدا لا يشرب الأوكسجين. ويقول المفكر العلامة رحمه الله (1925 –2003م) مستشرفا مستقبلا لم يعشه ولكن توقعه؛ أن الفشل الذي يصاحب الأيديولوجيات الحديثة الكبرى سببه النظرة الأحادية إلى الحياة.

قبل أن يكتب "بينكر" كتاب "الملائكة التي في جوهرنا" عام 2011 م، كان المفكر الإسلامي الكبير قد تحدث عن عناصر "دينية إنسانية" في الفن والدراما والقانون والأخلاق والفلسفة.. كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" وصفه فيلسوف الإنسان الحنون الدكتور عبد الوهاب المسيري؛ بأنه الكتاب الذي غيّر مجرى حياته.

* * *

ما معنى هذا كله؟ وما علاقته بالأزمة الكبرى التي تعيشها البشرية الآن (كوفيد- 19)؟ وماذا يمكن أن تقدمه أفكار علي عزت بيجوفيتش وتلميذه الكبير وأستاذي الكبير أيضا، الدكتور عبد الوهاب المسيري، لهذه البشرية المنكودة المنكوبة الآن؟ إنه التراحم والتعاون والتضامن والتكاتف والدعم والإنسانية المشتركة بيننا.. تلك الكلمات التي نساها العقل الغربي من طول إهماله لها فكرا وسلوكا وحياة..

الصديق العزيز الأستاذ وضاح خنفر قال في محاضرة أخيرة له عن الوباء؛ إن "العالم سوف يبدأ الحديث عن معان وجودية جديدة.. الأديان والمعتقدات والفلسفات سوف تبدأ بالحديث عن معنى الإنسانية ومعنى الحياة. هناك تياران في العالم سيطرا على الإنسانية في كل الأزمات الكبرى، التيار "الإنساني" والتيار "المادي". التيار الإنساني كان يضع الإنسان، أي إنسان، في مقام المساواة الإنسانية التامة الدائمة، والتيار المادي يعتبر أن الإنسان القوي هو وحده جدير بالحياة..". الآن القوي والضعيف قررا في ملهاة إنسانية فريدة أن يتساويا أمام مخلوق لا يُرى بالعين المجردة.

* * *

الدكتور عبد الوهاب له جملة شهيرة يعرفها كل من عرف اسم "المسيري" في دنيا الفكر والثقافة والإصلاح، وهي "المجتمع التراحمي" و"المجتمع التعاقدي". فالدكتور عبد الوهاب هو صاحب موهبة كبيرة في الصياغة العميقة الجامعة للمعنى. ويحكي في مذكراته "البذور والجذور والثمار" موقفا سنحتاجه كثيرا في الفترة المقبلة في مجتمعاتنا، بل وفي كل مجتمعات الدنيا التي أرهقتها وسترهقها إجراءات الحماية والاحتراز من جائحة كورونا.. مجرد الإجراءات وليست التداعيات والانهيارات.. يقول: أذكر حادثة تعبر عن الواقع "التعاقدي التراحمي" في مجتمعنا، فقد جاءت لباب منزلنا فتاة كانت على قدر من الأناقة والجمال، تعرض سلة فيها بعض الأشياء للبيع، فرفضتها بناء على إدراكي أننا لا نحتاج لمثل هذه الأشياء، وفوجئت بأن أمي تزجرني، وقامت بشراء السلة من الفتاة بسعر جنيه مصري، مع أن القيمة الحقيقية للسلة لا تتعدى عشرة قروش.

فيما بعد عرفت أن هذه الفتاة ابنة أحد كبار التجار الذي أفلس أو توفي (وما أكثر الذين سيفلسوا ويموتوا في وقتنا هذا مع كورونا). يستطرد قائلا: وأن عملية البيع والشراء التي تمت بين أمي والفتاة تمت تحت غطاء تعاقدي ظاهري، ولكنها في الواقع الأمر تمت في إطار تراحمي، إذ إنه تم إعطاء الفتاة صدقة، ووظيفة الغطاء التعاقدي هي أن تحتفظ أمي للفتاة بكرامتها.. ويختم هذا المشهد الإنساني الجميل قائلا: "ما فعلته أمي جعلني أتبنى الرؤية الإسلامية لفهم العالم والتعامل معه..". انتهى كلام العلامة الكبير رحمه الله (1938-2008م) والذي كان شديد التحفظ على صورة التدين الذي يهدف إلى تحقيق "الخلاص الشخصي" كما وصفه، دون الاكتراث بالآخرين.. تدين البحث عن الراحة النفسية والتوازن الروحي دون أي "التزامات أخلاقية"، ولا يهتم إلا بتراكم الحسنات وتقدير قيمتها وحسابها!! ويقول بأعلى صوته مشيرا بكل أصابعه: في نهاية الأمر سيصبح الفرد المتدين أكثر أهمية من الدين والمجتمع كله!! وهو ما يتم وضعه الآن على نصل سكين حاد لاختباره..

العلامة علي عزت بيجوفيتش يحدثنا في هذا المعنى الرحيب عن أنه في الإسلام "الأعمال الاجتماعية" مقدمة على "الأعمال الروحية"، فنجد أن اللغو في الأيمان "اليمين" كفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد فالبديل هو الصيام.. هكذا.. قل آمنت بالله ثم استقم. والمعنى كما يقول: "أؤمن.. وأفعل خيرا..".

الآن "الجائحة" تدفعنا لإعادة كتابة "قصتنا البشرية"، والطريق الأن ممهد تماما لمثل هذه الفرصة ولأول مرة في التاريخ الحديث، حيث تئن غالبية المؤسسات تحت وطأة التغيير العالمي الذي يحدث. نحن مدعوون للارتقاء إلى مستوى المناسبة لخلق رؤية جديدة، فقد حان الوقت لإيلاء المزيد من الاهتمام لأمثلة حية لكيفية عمل التكافل، وأقل لعقائدنا الاقتصادية في الماضي، كما قالت الكاتبة الأمريكية إيلين وركمان في كتابها "إعادة كتابة النص"، والذي تدعو فيه صراحة إلى "التشكيك في افتراضاتنا الطويلة حول طبيعة فوائد الرأسمالية وفوائدها وتكاليفها الحقيقية".

بعد أن تنتهى عاصفة كورونا، ستكون الدعوة إلى "التشكيك" في الرأسمالية غير كافية، بل يجب البدء فعليا في "التفكيك".
التعليقات (0)