مقالات مختارة

القيمة في زمن كورونا… عودٌ على بدء

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

مع اندلاع موسم الثورات العربية، وقبل أن تُغدر بكثير، كتبت مسجلا ملاحظتي أو رأيي، أن تلك الثورات أعادت الاعتبار للتاريخ. هذه الأيام مع استشراء الخوف وتفشي وباء كورونا، وما فرض ذلك من حالة حصارٍ، أجدني أتجاوز ذلك لأقرر أيضا أن تلك الحقبة برمتها، أو ذلك العقد الذي لم يكد ينتهي، سيعيدان الاعتبار أيضا للفكر الاشتراكي بطروحاته الأساسية، تلك التي صقلت تميزه منذ البداية، كأداة تحليلٍ، ومن ثم دليل عملٍ للتحرر، لا من عبودية رأس المال فحسب، وإنما لعقلنة الاقتصاد بما يخدم مصالح الناس، ومن ثم رسم سياساتٍ ووضع آلياتٍ لحمايتهم من عبث الطبيعة بجوائحها، وعشوائية السوق والاقتصاد وفوضاهما، بما يجران من أزماتٍ ناجمةٍ عن سوء التخطيط والإدارة والجشع، وقبل كل ذلك إيمان أعمى بمقدرة ذلك الصنم، السوق، على ضبط نفسه.


لذا؛ لست مبالغا بأي حالٍ إذ أؤكد أن وباء كورونا لم يجبر العالم بأسره، بماكينته الاقتصادية الجبارة في المجمل، على التوقف فحسب، ولم يضرب عرض الحائط كثيرا من المسلمات التي تندرج في إطار «العادي» و«الطبيعي» التي كرستها وعممتها هيمنة البورجوازية الفكرية على العالم، وإنما أعاد الوباء إلى الصدارة، ملحة حارقة، أسئلة قديمة، بل مؤسسة على رأسها ذلك الذي قسّم المدارس الاقتصادية، ومن ثم الانحيازات الاجتماعية مدارس وفرقا: القيمة، ما هو مصدر القيمة؟ ومن ثم ما هي قيمة الأشياء والأشخاص؟ وكيف نحدد القيمة؟


لست هنا والجا ذلك الموضوع (البسيط في حقيقة الأمر، الذي أُريد تعقيده لأغراضٍ ومطامع) من باب الاقتصاد، ولكن من باب الإنسانية الأرحب؛ إذ إزاء وباءٍ يهدد البشرية، اكتشفت هذه الأخيرة أن القيمة الحقيقية ليست في المال، ولا المنتجات، وإنما في العمل والإنسان العامل/الصانع. اكتشفت أن الذين ينقذونها بالمعنى الحرفي، هم أناسٌ من مختلف الأعمار، ومن خلفياتٍ مختلفة، أطباء وممرضون وعاملو نظافة وفنيو أشعة وصيادلةٌ وسائقو شاحناتٍ، توصل متطلبات المشافي من العقاقير والمستلزمات، وعلماء يبحثون عن مصلٍ وعلاج، وتصميمات جديدة لأجهزة التنفس الصناعي، وعمالٌ في مصانع تنتج هذه الأجهزة والأدوية، وكل على سبيل المثال المقصر لا الحصر، عاملون، أو طبقة عاملة بالمعنى الملائم لهذا العصر، يخرجون من بيوتهم بدافع التزامٍ مهنيٍ وإنسانيٍ أخلاقي، يقصدون مواطن تركز الوباء ليعملوا وينقذوا.


قد يعترض البعض بأنهم لا يقومون بذلك لوجه الله والوطن، بل طلبا للراتب وخوفا من الفصل، والإجابة هنا لحسن الحظ بسيطة للغاية: في بريطانيا مثلا تلتزم الحكومة بدفع 80% لمن فقدوا أعمالهم، ومن حق أيٍ من كان، أنلا يذهب للعمل بدعوى توعكه أو شعوره بأعراض كورونا، اعتمادا فقط على تبليغه بذلك: لكن العاملين يذهبون، يتفانون ويقضون أكثر من وقتهم المحدد، مع إدراكهم التام بما يعنيه ذلك من احتمال تعرضهم للعدوى، وما يجره ذلك على أسرهم، ما قد يصل إلى فقدان أحد أو كلا العائلين.
البشرية اكتشفت أن القيمة الحقيقية ليست في المال ولا المنتجات، وإنما في العمل والإنسان العامل/الصانع


لكن الناس مستمرةٌ في العمل، مدركةٌ تمام الإدراك البعد الاجتماعي لعملهم. في ضوء ذلك يتعين إذن، كما أسلفت، أن نعيد طرح السؤال القديم المتجدد ذاته، المنبعث طازجا ملحا مرة أخرى: من الذي يصنع القيمة وأين تكمن؟


ولم يفت ذلك على الجمهور، الذي صار يقف ليصفق من الشرفات والنوافذ للعاملين في القطاع الصحي، أحسبهم وصلوا لإجابةٍ على هذا السؤال. وإن ذلك ليترسخ إذ يخطون نحو السؤال التالي منطقيا: لماذا إذن لا توجد مستلزماتٌ من أجهزةٍ وعقاقير تفي بالغرض، لاسيما وأن ثمة تنبؤاتٍ منذ سنين بشبه حتمية وقوع وباء؟ الإجابة جاءت في صورة أصابع اتهام وإدانة لا حصر لها، توجه للأنظمة ومؤسسات الحكم الرسمية، بأنهم خفضوا الإنفاق على قطاع الصحة عمدا، مؤثرين ضخ الاستثمارات بالمليارات في السلاح، من الأسلحة الخفيفة إلى حاملات الطائرات والغواصات النووية: فما قيمتها الآن؟ هل تسعف المرضى وتمنح الحياة؟ هذا في البلدان الأوروبية، التي تتمتع على الأقل، بمنظومة تأمين صحي، أما أمريكا حيث نسبة ضخمة من السكان لا يغطيهم تأمين صحي خاص، فحافز الربح الرأسمالي أبرز وأقبح. الأخطر من ذلك في رأيي هو ما أبرزته تلك الأزمة، لكل مدققٍ من الطابع الطفيلي للدولة البورجوازية على اختلاف طبعاتها، ففي حين اختبأ بوريس جونسون بحنكةٍ مثلا وراء الأطباء والخبراء، بعد مماطلة كلفت حياة آلاف من البشر، فإن ترامب ضرب أروع مثال على كيف يمكن للبورجوازية ألا تكون جشعة فحسب، وإنما معرقلة بغباء وجهل لمجهودات من يحاولون إنقاذ الناس. فمن الطبيعي إذن أن نطرح سؤالا: إذا كان العاملون يعرفون ما ينبغي فعله، وقادرون على إدارة شؤونهم، فما الحاجة إلى هؤلاء وكثيرٌ منهم مهرجون وحمقى بل وكارثيون؟ أليس من الطبيعي أن يستلموا زمام الأمور فيديرونها؟ ألم يثبتوا أنهم الأنجح والأحكم، بل والأهم من ذلك الأكثر معرفة ودراية؟ ستُطرح أسئلة كتلك بعد أن تنقشع الأزمة، أنا على يقين من ذلك.


أما على نطاق أوسع، فليست الحقبة التي دشنتها ثورات الربيع العربي، الأقرب إلينا، ولا حركات الاحتجاج والاعتصامات الأوسع في العالم (التي لم تخف انبهارها ومن ثم انجذابها واستلهامها لتلك الثورات) هي ما وسم عالمنا اليوم فحسب، بل إن ملامحه أنشأت تتشكل قبل ذلك بنحو عقدٍ\ آخر، مع بداية الألفية الجديدة، تلك التي كان من المفترض أن تشكل امتدادا لفترة استقرار على الشكل النهائي للحكم والاقتصاد، «نهاية التاريخ» بحسب فوكوياما، وتكريسا لهيمنة وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى أكبر، وربما وحيدة على العالم، فأتت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، مفعمة بالرمزية، لتدحض، بل تفجر في رأيي، كل هذه الطروحات والدعاوى، ومن ثم تبرز في قلب الساحة ما بات يتأكد يوما بعد يوم: أولا أن التاريخ لم ينته بعد، وأن تلك الترتيبة الدولية ليست نهائية بأي حال من الأحوال، بل إن الأطراف التي استُغلت كمسارح لصراعاتٍ بين الكبار، إبان الحرب الباردة حبلى بالمشاكل وبإرث الحروب واستحقاقاتها، وأنها لن تلبث أن تنفجر في وجه القوى المحركة والمستفيدة، ومن ثم فسوف تستنزفها، ما أسهم في تمكين دولٍ على رأسها الصين، باقتصادها المتنامي وروسيا العائدة من المزاحمة واقتطاع مناطق نفوذٍ لها. موازيا لكل ذلك، فثمة مؤشرات عديدة يحضرني على رأسها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والمزاج العام وثيق الصلة بصعود الشعبوية وما يعبر عنه من إحباط وفقدان ثقة، يوشك أن يصير اعتراضا واسعا، واستهجانا للبنية السياسية التقليدية في الديمقراطيات الغربية تحديدا، التي تكرست عقب الحرب العظمى الأخيرة، حتى صرنا نرى الكثيرين من الجمهور لا يخفون إعجابهم بنموذج الصين، الأكثر كفاءة في التعامل مع الوباء (هذا بالطبع وفق المتاح من المعلومات عن ذلك)، بيد أن الشاهد أن كل ذلك يؤكد أن ثمة سقما لا جدال عليه في الغرب، وشكا وتململا بالمؤسسة الحاكمة على اختلاف ممثليها.


أتفق بشدة مع كل من ذهب إلى أن العالم بعد كورونا لن يكون كما كان قبلها، فتساؤلاتٌ لا حصر لها ستُطرح، تساؤلاتٌ ستنال وتزلزل كل المفاهيم والمسلمات، ستهز السلاسل منبهة المقيدين بها لوجودها، وستضرب العلب أو «الصناديق» التي حشروا أدمغة الناس ووعيهم وخيالهم فيها، ثم طالبوهم بصفاقةٍ من آن لآخر بالتفكير خارجها، وعلى رأس تلك التساؤلات ستكون تلك التي تدور عن القيمة والعمل والأولويات وشكل المجتمع الذي يفي بها.

 

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)