مقالات مختارة

حرية الصحافة في مقياس القمع الحضاري وغير الحضاري!

هيفاء زنكنة
1300x600
1300x600

إذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد جعل واحدة من مآثره مهاجمة الصحافيين المستقلين، بكافة أجهزة الإعلام، وبشكل شبه يومي، حتى في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايس)، فإنه إنما يمارس بذلك تقليدا قديما لا يقتصر، كما قد نتوهم، على الحكومات العربية القمعية، بل ويحتضن الدول الغربية التي ترى نفسها مُصّدِرة للديمقراطية وحرية التعبير.


فمع الإقرار بوجود الاختلاف، بدرجات، حسب طبيعة النظام، وانتقائية سبل التعامل مع من يراد تكميم أفواههم، التي تتراوح ما بين الأساليب «الحضارية الناعمة» كالابتزاز والإغواء المادي والتهديد بجرائم فساد أو تهم أخلاقية والمنع من ممارسة المهنة، كما في الدول الغربية إلى الأساليب «غير الحضارية»، كالاعتداء الجسدي والاعتقال والاختطاف والقتل، وهو ما يُطبق في بلداننا.

وإذا كان القتل الوحشي قد غّيب الصحافي السعودي المعارض جمال الخاشقجي فان عملية تغييب الصحافي الاستقصائي جوليان أسانج، تتم بشكل يماثل من يُفصد دمه بشكل بطيء، من خلال العزل الانفرادي ولَّيْ القوانين لتسليمه إلى أمريكا حيث سيواجه الحكم بالسجن لمدة 75 عاما. وهي عملية تنفذها الحكومة البريطانية لصالح الإدارة الأمريكية التي لا تغفر للصحافي أن يمس مصالحها أو أن يكون مستقلا بشكل حقيقي. فكان العمل على تحطيم حياة أسانج وفريق « ويكليكس» الذي كشف عن مئات الآلاف من الوثائق الأمريكية وغيرها الفاضحة لمعلومات عن جرائم بحق مواطني البلدان الديمقراطية نفسها كما البلدان المستهدفة بالغزو أو الحصار أو الابتزاز.


إنها المعلومات التي أريد لها أن تبقى طي النسيان لما تحويه من مساس بحرية الفرد والرأي ومساحة التآمر عليه والجرائم التي ترتكب باسمه، بذريعة «الأمن القومي».


يشكل ادعاء الحفاظ على « الأمن القومي» واحدا من أكثر الذرائع التي تستخدمها الأنظمة القمعية للسيطرة على الشعوب، وغالبا ما يكون الصحافيون من أوائل الضحايا.

ففي إيران، ثلثا أعداد المعتقلين هم من الصحافيين الذين يدفعون ثمنا مكلفا بسبب محاولتهم التحقيق في ملفات فساد مالي ترتبط بأشخاص نافذين في هيكل النظام، حسب منظمة « مراسلون بلا حدود»، في تقريرها الصادر حديثا، وتبوأت فيه إيران المرتبة 170 من أصل 180 دولة حول العالم في 2019. وتعتبر سلطات الاحتلال الصهيوني استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين وقتلهم أمرا يدعو للاحتفال وتبا لكل القوانين باستثناء قوانين الاحتلال العنصرية.

 

من بين الشهداء، سقط في العام الماضي صحافيان، وفقد ثلاثة صحافيين على الأقل أعينهم بشكل نهائي. ولم تتوقف حملة الاعتقالات والاستجواب والاعتقال الإداري بالإضافة إلى إغلاق وسائل إعلام فلسطينية بحجة التحريض على العنف.

المفارقة الموجعة أن تتماهى سلطات دول عربية في القمع وتكميم الأفواه مع كيان الاحتلال الصهيوني والمنظمات الإرهابية المدعومة محليا وعالميا. وتمثل ممارسات الحكومات العراقية المتعاقبة منذ غزو البلد واحتلاله عام 2003، نموذجا صارخا لنظام يدّعي مسؤوليه، كما في الكيان الصهيوني، الديمقراطية واحترام حق الرأي والتعبير.


«سلامة الصحافيين في خطر أكثر من أي وقت مضى»، هو أحد عناوين تقارير دولية عدة تتناول وضع الصحافيين بالعراق. وهو وضع يشي باللامسوؤلية القانونية والإنسانية والأخلاقية لنظام فاسد يستهين بحياة مواطنيه، ويصوب رصاصه على كل صحافي مستقل يحاول الكشف عن الفساد ومرتكبي الجرائم، أو فضح حملات الاعتقال والتعذيب المنهجي أو تغطية الاحتجاجات، كما في الأشهر الأخيرة، ومنذ اندلاع انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019. إذ يتعرض الصحافيون لكل أنواع المخاطر بدءا من الاعتداء الجسدي والتهديد إلى الاختطاف والقتل على أيدي الميليشيات، ومن يطلق عليهم تسمية «مسلحون مجهولون»، بينما يقف المسؤول الحكومي متفرجا أو مشاركا في جرائم المليشيات.

وإذا كانت « مراسلون بلا حدود» قد وثقت اختطاف 48 إعلاميا وإعدام 13 صحافيا من قبل منظمة الدولة الإسلامية « داعش»، أثناء سيطرتها على مدينة الموصل، فإنها تواصل توثيقها لخطورة ما يتعرضون له « في ظل تعنت الشخصيات السياسية والدينية التي تعتبر نفسها مقدسة وغير قابلة للانتقاد»، وأي نشر عنها يعرض الصحافيين للملاحقات بتهمة «إهانة رموز وطنية أو دينية».


ولا تدخر الحكومة، عبر هيئة تنظيم الإعلام، جهدا في منع أي بث مباشر وتعطيل خدمة الإنترنت وسحب التراخيص الإعلامية ورفع الدعاوى والغرامات. وعلى الرغم من ازدياد حالات الخطف والاغتيال وتوثيق العديد منها ووجود شهود العيان، لم يحدث وتم اعتقال أو معاقبة أي شخص واقصى ما تفعله الحكومة هو الإعلان عن تشكيل لجان تحقيق تزويقية.


تعكس آلية التعامل مع أجهزة الإعلام ذكاء الأنظمة وقدرتها على احتواء الأصوات الممثلة لشرائح معينة من الشعب، في الأوقات العادية، أو غالبية الشعب، عند الحاجة، في ظروف معينة، كالأزمات الاقتصادية والحروب والنزاعات المحلية والفترات السابقة للانتخابات. فالرئيس ترامب، مثلا، يختار التهجم على أجهزة إعلام معينة، مهما كانت حرفية إعلاميها، لأنه متأكد من استقطاب أجهزة إعلام أخرى ترتبط معه، ومع الطبقة التي تجد فيه ممثلا لها، بمصالح مشتركة.


تتبدى هذه القدرة في الجمع بين إطلاق الأكاذيب واتهام أجهزة الإعلام بالكذب، في ذات الوقت، بدرجات أقل حدة في أنظمة بلداننا، لأنها تجد في التغييب العنيف والمباشر للصحافيين والأصوات المعارضة، كالاختطاف والقتل، حلا سريعا يساعدها، أيضا، على ترويع بقية أبناء الشعب وتجذير الإرهاب الحكومي، مع الانتباه إلى عامل مشترك يكاد يجمع ما بين كافة أجهزة الإعلام، في العالم، وهو قدرة الأحزاب السياسية الحاكمة أو المتنفذة على ركوب أجهزة إعلام معروضة للاستئجار أو البيع، بكل العاملين فيها، من صحافيين وغيرهم، أو تأسيس شبكات إعلام كذراع لها، وتسييرها وفق أيديولوجيتها ومصلحتها سواء كانت سياسية أو دينية أو اقتصادية أو كلها معا. تُبرر هذه التداخلات بانها علاقة مصالح متبادلة، وحين تؤدي، كما رأينا في تسويغ احتلال العراق، إلى أضرار جسيمة بحق البلد وأهله، فأنها تُروج باعتبارها « وجهة نظر».


بعيدا عن قمع الأنظمة، أينما كانت، وجهودها في تصنيع الرضا الشعبوي المبتذل، يبقى صوت الصحافي المستقل مخيفا للطغاة والمحتلين، وتبقى القوانين الوطنية والدولية، التي توجب حماية الناس، واعتبار الاستهداف المتعمد للمدنيين، بمن فيهم الصحافيون وأجهزة الإعلام، في عداد جرائم الحرب، السلاح الأقوى لتحقيق العدالة للجميع، ومع تنامي دور صحافة المواطن التي غيّرت دور المواطن من مجرد متلق إلى فاعل لنقل المعلومة والحدث والتوثيق في عصر، نأمل أن يساهم في إزاحة كابوس السلطة وأنظمة الاستبداد عنها.

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)

خبر عاجل