قضايا وآراء

فشل فرنسا ونجاح نيوزيلندا في ملف الأقليات

هاني بشر
1300x600
1300x600
يقاس تقدم الحضارات والأمم بمدى تعاملها مع الأقليات، وتقاس فاعلية رؤساء الدول بمدى قدرتهم على توحيد الجبهة الوطنية أمام الأخطار والتحديات. وقد اجتمعت عوامل النجاح في هذه وتلك على يد رئيسة وزراء نيوزيولندا جاسيندا أرديرن، بينما اجتمعت كافة عوامل الفشل على يد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. جمعهما السن الصغير في المنصب والبدايات المشرقة، وفرقتهما النتائج والمآلات المؤسفة.

إن مَثل ماكرون ليس كمثل ترامب، فهو ليس بزعيم يميني قادم على بساط الوعود القاسية تجاه الأقليات، بل هو شاب أتى من خارج الصندوق بحزب جديد وبخطاب يتجاوز انقسامات النخبة الفرنسية السياسية.. يتحدث عن التغير المناخي ويبشر بعهد جديد، يتحدث الإنجليزية ويغرد بالعربية.. وبين عشية وضحاها انقلب إلى نسخة أسوأ من ترامب؛ يتبنى خطابا قاسيا تجاه أكثر من عشرة في المئة من سكان بلاده، يتكلم عنهم وكأنهم مليشيا انفصالية وليسوا مواطنين لهم الحقوق والواجبات ذاتها.

لو كان لدى فرنسا رئيس مثل رئيسة وزراء نيوزيلندا، لربما انتهز فرصة التحديات التي تموج بها البلاد لتوحد كافة الأقليات والأديان والأعراق ليواجه بها مشكلة وباء كورونا أولا، وليصلح ما أفسده السياسيون والتاريخ الاستعماري ثانيا، تماما كما وحّدت أرديرن البلاد بعد حادث إطلاق النار على المسجدين في نيوزيلندا، وكما أخذت قرارات مبكرة حمت بلادها من تفاقم أزمة كورونا، وكما استطاعت تجاوز مأساة انفجار البركان العام الماضي.

هذا الدور كان الأليق بسيد الإليزية، الذي قام اعترف بالتعذيب في الجزائر كما لم يسبقه رئيس فرنسي من قبل. كان عليه أن يكمل النهج نفسه ويصالح فرنسا مع حاضرها قبل أن يعترف بجزء من جرائم الماضي، لكن ثقل تحديات الداخل والخارج دفعته دفعا لتبني خطاب مغاير متناقض تماما مع سياسته التي أتى بها للسلطة وليس مناسبا له ولا لحزبه. فهو خطاب يضمن له بعض الأصوات اليمينية في مقابل زيادة الاحتقان لدى ملايين من سكان ومواطني فرنسا، وتعريض الأمن القومي للخطر عبر إثارة موجات الكراهية والتحريض.

توجد في العلوم السياسية نظريتان كبيرتان، إحداهما هي النظرية الواقعية أو البراغماتية والثانية هي المثالية. الأولى تقدم المصلحة على ما سواها، والثانية تعطي الأولوية للمبادئ والقيم حتى ولو تعارضت مع بعض المصالح، فليس بالخبز وحده يحيى الإنسان. ولا تخرج الممارسة السياسية بشكل عام عن تطبيق هاتين النظريتين. ووفقا لكلتا النظريتين، أي وفقا للممارسة السياسية بشكل عام، فإن ما يفعله ماكرون مؤخرا تجاه الإسلام والمسلمين هو إخفاق كبير.

من الناحية البراغماتية، ليس من مصلحة فرنسا الدخول في مواجهة كبيرة مع ملايين المسلمين داخلها وعشرات الملايين خارجها، وهي التي تنفق الملايين من أجل نشر ثقافتها وتعزيز دبلوماسيتها. ومن الناحية الأخلاقية، ليس مقبولا ولا معقولا الاستهزاء بمقدسات الآخرين أو التشجيع على ذلك، ولو من باب حرية التعبير، فالجمهورية إن لم تمنع هذا الاستهزاء، فليس أقل من أن تأخذ مسافة منه، لا أن تتبناه لتكون طرفا في المشكلة وليس جزءا من الحل.

لو كان لأحد أن يتبنى خطابا شعبويا لكان لرئيسة وزراء نيوزيلندا أن تقوم بذلك، وهي التي اضطرت لأن يكون لها نائب شعبوي من حزب "نيوزيلندا أولا"، وهو متهم بالشعبوية وبالقومية بعد أن اتهم الهجرة الآسيوية بأنها مصدر الإجرام في البلد، لكن ذلك لم يجعلها تنجرف لمستنقع هذا الخطاب اليميني الآسن، ولم يمنع من أن تفوز بالانتخابات مؤخرا بأغلبية كبيرة.

يوما ما سيتقاعد ماكرون ويكتب مذكراته كمعظم القادة الأوروبيين، وغالبا سيندم على ما فعله ببلاده وبعلاقتها مع الدول العربية والإسلامية. وحين يأتي ذلك اليوم، نتمنى ألا يكون الأوان قد فات لإصلاح ما أفسدته هذه السياسات الاندفاعية.

twitter.com/hanybeshr
التعليقات (0)