تقارير

سعيد البرغوثي لـ "عربي21": فلسطين أرضي وهويتي وذاكرتي

سعيد البرغوثي: سافرت إلى أكثر من بلد ومكان، لكن فلسطين الأرض والهوية ظلت تحتل مشاعري ووجداني
سعيد البرغوثي: سافرت إلى أكثر من بلد ومكان، لكن فلسطين الأرض والهوية ظلت تحتل مشاعري ووجداني

سعيد البرغوثي، مثقف يساري فلسطيني غادر فلسطين عام النكبة إلى بلاد الشام وقلبها دمشق، وظل لاجئا فيها إلى يوم الناس هذا، دون أن يلغي حلم العودة إلى صفد، التي مازالت حاضرة في ذهنه كما لو أنه لم يغادرها قط.

الكاتب والإعلامي التونسي توفيق المديني التقى سعيد البرغوثي الذي أسس دارا للنشر في سوريا في تسعينيات القرن الماضي، وأجرى معه حوارا خاصا لـ "عربي21"، عن ذاكرته الفلسطينية أولا، وصورة فلسطين في أذهان من غادروها مكرهين.. 


س ـ في سؤال جامع؛ كيف تعرف نفسك في ارتباطك بالهوية الفلسطينية، وكيف تدافع عنها؟


 ـ تسألني عن الحديث عن نفسي، هو أمر محفوف بالمخاطر، فالحديث عن الذات قد لا يخلو من المبالغة. أنا إنسان فلسطيني يساري عروبي، فالفلسطينيون خارج إطارهم العربي أسماك خارج الماء، على الرغم من الواقع الأليم الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية والموقف الرسمي منها، وتسألني عن منجزي، أعترف أنه منجز متواضع، أنا كناشر من السهل أن أنشر كتابا يحمل اسمي، ولكني في الوقت نفسه، أرى أن من ليس باستطاعته أن يقدم جديدا للمشهد الثقافي والمعرفي، عليه أن يحترم القارئ، وقبل ذلك أن يحترم نفسه. 


قمت بإعداد وتحرير كتابين هما: الإسلام بين الشرق والغرب، وهو عبارة عن مقالات للمفكر الكبير إدوارد سعيد، نشرت في صحف ومجلات مختلفة، وكان مصيرها ربما الاندثار، قمت بتجميعها وتحريرها، وقدم لها المفكر والناقد د. فيصل دراج.

كما قمت بجمع وتحرير وتبويب حوارات مع الشاعر الكبير محمود درويش، التي نشرت ضمن صحف ومجلات، كانت معرضة للاندثار، وذلك ضمن كتاب وسمته بعنوان (الطروادي الأخير)، كما بوبت تلك الحوارات بحيث لم أقدمها للقارئ ككتلة صماء، بل بوبتها حسب زمنيتها، تناولت البلدة، الأسرة، الانتماء الأول، وذلك بعد خروج الشاعر من فلسطين، جاءت بفصل حمل عنوان البدايات ـ الوطن الذاكرة، وتتابعت الفصول: شهادات حصار بيروت، التجربة الشعرية، الشاعر يحاور نصه، حوارات على ضفاف المصادفة، الشعر الذاكرة، على ضفاف السياسة، المرأة ـ الحب ـ الآخر، والخاتمة- اللقاء الأخير مع محمود درويش عند سفره لإجراء العملية في الولايات المتحدة الأمريكية.

سعيد البرعوثي مدير دار كنعان للدراسات والنشر، ولدت بصفد ـ عروس الجليل ـ في فلسطين عام 1938 وخرجت منها عام 1948.. لذلك ذاكرتي عامرة بكل تفاصيلها بداية من الكُّتَابِ ومعلمي محمد رضا خميس، الذي استشهد صبيحة انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في 15 أيار (مايو) 1948، يومها أمطر الصهاينة مدينة صفد بالعديد من قذائف الهاون العشوائية لإرهاب أهلها وأرغمهم على الرحيل.

ومن الكُّتَاب انتقلت إلى المدرسة الابتدائية في حي السويقة، ومنها إلى دار الزاوية لإتمام المرحلة الابتدائية، ولا أذكر من تلك المدرسة سوى مديرها محمود العابدي الذي منح صفد كتابا عن تاريخها. ومن هناك انتقلت إلى المدرسة الإعدادية في الرجوم، ولم أبق في ذلك الصف الرابع سوى عدة أشهر، أي يوم انتهاء الانتداب البريطاني، جمعنا مدير المدرسة، شفيق بريك الذي يعتمر فيصلية، وأخبرنا أن نذهب إلى بيوتنا، حيث انتهى التدريس.

فلم يعد مرجعية للمعلمين مع انتهاء الانتداب البريطاني، ولم يطل مكوثي بعدها في صفد، فقد أخبرتني والدتي أنَّ بيت خالي مهاجرون إلى الشام، وذهبت معهم لرؤيتهم قبل سفرهم. كانت زوجة خالي شديدة الحساسية، لاحظت الغيرة تجتاحني، فابنها محايدي سيذهب إلى الشام، أما أنا فلن أذهب إلى هناك. عرضت زوجة خالي الذهاب معهم، أمي لم تمانع. هكذا كنت "قرد العش" في العائلة، وكنت أنام إلى جوار والدتي.


مشينا سيرا على الأقدام إلى شمال فلسطين، ونزلنا في بيت مختار البلدة، وقدموا لنا العشاء، وجاء وقت النوم، وقت الاستحقاق، فلأول مرة أنام بعيدا عن حضن والدتي، لم أكن في سنّ لأسمح لنفسي بالبكاء طالبا أمي، غطيت وجهي وسالتْ دموعي على فراق أمي. أمي بالنسبة لي هي فلسطين الهوية.

التهجير القسري من فلسطين قادنا إلى مدينة القنيطرة جنوب سوريا.. وتكرَّر المشهد مع الدموع، وأخذت أسأل نفسي أسئلة عميقة: هل يمكننا العودة إلى صفد بعد هذه الرحلة الطويلة؟ لكن بعد القنيطرة ركبنا في الحافلة إلى دمشق.

سافرت إلى أكثر من بلد ومكان، لكن فلسطين الأرض والهوية ظلت تحتل مشاعري ووجداني، وعلقت في ذاكراتي معالمُها.

س ـ "إسرائيل" واقع استعماري، وقد أجمع المثقفون العرب من اليمين واليسار أن "إسرائيل" هي جزء من الظاهرة الاستعمارية الأوروبية. وقد تبنى هذا الموقف العالم الثالث على أوسع نطاق، بوصفك مثقفا فلسطينيا تتبنى المشروع القومي العربي التحرري، كيف كنت تنظر في مطلع شبابك إلى مأساة الشعب الفلسطيني، باعتباره ضحية لمعطيات وأهداف الاستعمار الأوروبي، الذي خطط وباشر في تنفيذ خططه في الاستيلاء على المنطقة العربية، وفي إقامة دولة "إسرائيل"، على أرض فلسطين كحلّ للمسألة اليهودية؟


 ـ هناك إجماع لدى المثقفين والسياسيين العرب بشكل عام، والمعنيين بالشأن الفلسطيني ممن احتفظوا بشكل عام، بأن إسرائيل مشروع استعماري استيطاني، وقد تمثل ذلك باقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره في وطنه، وإحلال الصهاينة الذين قدموا إليها من أرجاء العالم كافة، ليتخذوا من فلسطين وطنا لهم؛ تماشيا مع وعد بلفور المشؤوم، وقد تحملت بريطانيا بشكل ممنهج منذ انتدابها على فلسطين تحقيق ذلك الوعد، عبر تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، وغض النظر عن تسليحهم، في حين مارست كل أشكال القهر والتضييق على الفلسطينيين، لدرجة الاعتقال وهدم البيوت لمن تجد عنده ولو قطعة سلاح صغيرة وقديمة.

عندما أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين عام 1948، بعد أن اطمأنت لرجحان كفة القوة للصهاينة، قام العدو الصهيوني بإمطار المدن الفلسطينية بوابل من قذائف الهاون بشكل عشوائي، لإدخال الرعب بنفوس الناس، وإجبارهم على ترك بيوتهم والهجرة منها، وقد تزامن ذلك مع وهم عاشه جميع الناس عربا وفلسطينيين، أن موضوع الحرب مع الصهاينة سيفضي إلى فشل وانهزام مشروعهم، وكانت مقولة الجيوش السبعة التي ستزحف على فلسطين لنصرة الفلسطينيين سائدة وشبه يقينية لدى الجميع، بما فيها أصحاب تلك الجيوش.

ولكن، حسب محمد حسنين هيكل، كان لدى الصهاينة في ذلك الوقت، ما يقرب من مائة ألف مقاتل عسكري، من بينهم عشرة آلاف ضابط باختصاصات متنوعة، في حين كانت تلك الجيوش السبعة، لا تزيد عن خمس وعشرين ألف جندي حديثي التدريب، ولا يملكون سوى أسلحة بدائية، وهكذا كانت نتيجة المعركة محكومة بالواقع المختل لصالح الصهاينة، انتهت المعركة بانتصارهم، وفي الخامس عشر من أيار عام 1948، أعلن الصهاينة قيام دولتهم، بنشيد وعلم ووزارة ترأسها بن غريون، على المساحة التي خصصت لهم حسب مشروع التقسيم الذي كان لصالحهم.

وعندما قدمنا كلاجئين إلى سوريا عام 1948، منحتنا السلطة السورية إقامة لمدة شهر على أنه مدة كافية لإحباط المشروع الصهيوني، وانتهى الشهر ولم يتحقق ذلك، ومنحتنا الحكومة السورية إقامة لمدة ثلاثة أشهر، انتهت الشهور الثلاثة ولم يتحقق الانتصار الموعود، وهكذا منحنا تذكرة إقامة مؤقتة أصبح لها الآن أكثر من سبعين سنة.

س ـ لقد انتميت إلى حركة القوميين العرب مع مطلع شبابك، إذ نشأت تلك الحركة كرد فعل سياسي ونفسي على نكبة فلسطين 1948، وسلطت الأضواء على العجز والتفكك العربي، وكمحاولة للسعي للقوة والتنظيم والتوحيد وللانقلاب الجذري على الأوضاع القائمة، واسترداد الحقوق العربية التي عجزت الأحزاب عن انتزاعها، ومع ذلك ما هي قراءتك لأسباب فشل المشروع القومي العربي في مواجهة المشروع الإمبريالي الغربي والمشروع الصهيوني؟


 ـ أسباب فشل المشروع القومي العربي في مواجهة المشروع الصهيوني حتى الآن، عائد للتخطيط المحكم من قبل الصهاينة لإنشاء دولتهم، وكما ذكرت في صبيحة الخامس عشر من أيار عام 1948، أعلن قيام دولة اسرائيل مع نشيد ووزارة، هذا أولا. والأمر الآخر، هو الدعم اللامحدود بداية من بريطانيا ولاحقا من أمريكا التي قدمت دعما لا محدودا عبر إداراتها المتعاقبة، فقد اعترفت أمريكا بدولة إسرائيل بعد سبع دقائق من إعلان قيامها، ولم تبخل أي من الدول الغربية بتقديم الدعم المادي أو المعنوي للصهاينة، أما الفلسطينيون، فقد تحولوا إلى لاجئين في دول الجوار، في حين كان الجانب العربي حديث الاستقلال، محدود السلاح، وهذا ما أشرت له سابقا، بأن الكفة كانت لصالح الصهاينة، بل كان هناك خلل واضح بين الطرفين، وكانت المعركة في نتائجها الكارثية لصالح العدو بالمطلق.

إن للقوة أسبابها كما للضعف أسباب، وعندما تتبدل الأسباب يمكن أن تتحول القوة إلى ضعف والعكس صحيح، ولكن للأسف، ضاعف العدو الصهيوني من إمكاناته فيما بقيت الدول العربية على ضعفها وشرذمتها، وبقيت المعطيات هي المعطيات التي انتهت إلى هزيمة الجانب الفلسطيني، وامتدادا العربي، حتى الآن.

س ـ كيف تفسر صمت الدول الغربية على جريمة الفصل العنصري، التي يمارسها الكيان الصهيوني من خلال عمليات الضم لكل الضفة الغربية، وتوسيع الاستيطان، والعمل على تهجير ما تبقى من الشعب الفلسطيني؟ 


 ـ رأيي أن صمت الدول الغربية عن ذلك، يعود للرهاب الذي نتج عما يدعى المحرقة، وردة الفعل المتطرفة التي تغض الطرف عن الممارسات الإسرائيلية العنصرية الفاقعة، ولا أعتقد أن ذلك سيدوم طويلاً، فلا بد أن تمارس الدول الغربية دورها بتسليط الضوء على تلك الممارسات العنصرية طال الزمن أم قصر.

س ـ كمثقف عربي عضوي بالمعنى الغرامشي، عاصرت جيلا عربيا كبيرا من المثقفين العرب الذين آمنوا بأن القضية الفلسطينية قضية مركزية لدى العرب: غسان كنفاني، عبد الرحمن منيف، جابر عصفور، فيصل دراج، فهل لا تزال فلسطين برأيك قضية قومية عربية، في زمن اندثار مفهوم المثقف العربي الرسولي والطليعي، وهيمنة سياسة وثقافة التطبيع على السياسة العربية الرسمية الراهنة، واستقالة العديد من المثقفين والأكاديميين العرب، عن خوض الصراع الفكري والثقافي على الجبهة الثقافية ضد التطبيع، باعتبارها آخر قلاع الحرب لدى الأمة العربية؟

  ـ مما لا شك فيه أن هناك تحولا كبيرا حصل حول الموقف من القضية الفلسطينية كقضية مركزية في الضمير العربي، وخاصة في السياسات الرسمية العربية، ولكن من الملاحظ، أن موجة التطبيع التي تمارسها بعض الأنظمة العربية، والتي بدأها السادات بحجة أنه لا يستطيع مجابهة أمريكا، وذهب بعيدا بأن قام بالذهاب إلى إسرائيل وهو رئيس أكبر دولة عربية، ليعلن نهاية الحروب، وعلينا أن نلحظ أن ذلك حصل بعد فجوة الدفراسوار، وتخطي الجيش الإسرائيلي إلى الضفة الغربية من قناة السويس، وبداية مفاوضات ما عرف بالكيلو 101 في إحدى الخيم على الضفة الغربية من قناة السويس، ولكن علينا أن نلحظ أنه على الرغم من مرور سنوات مع (المصالحة) التي تجسدت باحتفال بالبيت الأبيض، الأمر الذي تمخض عن استقالة المفكر إدوار سعيد والشاعر محمود درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة الفلسطينية.

وعلينا أن نلحظ أن التطبيع الذي حصل هناك لم يتعد المؤسسة الرسمية، وأن تاجرا أو صناعيا واحدا مصريا لم يذهب إلى إسرائيل. والذي اعتقده أن جميع عمليات التطبيع التي تمت برشاوى من الولايات المتحدة الأمريكية لتلك الحكومات التي بالغت بإجراءاتها، لن تنال من مشاعر الناس. ولأكون دقيقا، لن تنال من مشاعر أغلبية الناس من القضية الفلسطينية، وستبقى الجهات الرسمية تتجه لحساباتها البائدة ومصالحها المحدودة.

س ـ باعتبارك ناشرا ومدير دار كنعان للدراسات والنشر، هل تعتقد أن للكتاب الفلسطيني الورقي مستقبلا، في ظل هيمنة الوسائل الإلكترونية الجديدة من الإنترنيت، والكتاب الإلكتروني، وتراجع القراءة لدى العرب، إذ إنَّ الأمة العربية التي تَعُدُّ الآن أكثر من 400مليون، لا تتجاوز نسبة الذين يقرؤون الكتاب من العرب 5%؟

 
 ـ لا شك أنَّ للوسائل التي ذكرتها تأثيرا على رواج الكتاب وعلى القراءة، ولكنْ، علينا أن نعترف أننا أمة محدودة القراءة، مهما كانت صحة النسبة التي ذكرتها أو عدم صحتها، فإنَّها تُحِيلُ على الواقع المأساوي للكتاب وامتدادا للقراءة، التي هي في تراجع مستمر.

نحن في دار كنعان عندما انطلقنا في النشر عام 1989، كنا ننشر ثلاثة آلاف نسخة من كل عنوان، وتقلص ذلك العدد لاحقا إلى ألفين ثم إلى ألف نسخة، والآن إلى خمسئة نسخة وأقل من ذلك.

ذلك هو واقع الكتاب المأساوي وواقع القراءة الذي لا أعرف كيف يمكن التصدي له، وليحتل الكتاب مكانه اللائق، ودوره في عملية اكتساب المعرفة، وتوظيفها في عملية التطور والنمو.


التعليقات (0)