مقالات مختارة

"ترايدن" في الشرق الأوسط: نفط ونطفة وجثتان

توفيق رباحي
1300x600
1300x600

يحل الرئيس الأمريكي جو بايدن في منطقة الشرق الأوسط بعد ساعات وأمامه ومن خلفه أزمات ومشاكل لا حصر لها. هناك أزمات وقضايا عامة شبه خالدة، وهناك أخرى طارئة متعلقة بأمريكا وسياساتها ومواقفها التي تسبّبت في الكثير من كوارث المنطقة، ولا تزال.

من المناسب القول إنه لا يوجد توقيت مناسب لزيارة أيّ رئيس أمريكي للشرق الأوسط. كل الزيارات وكل التوقيتات تجد بسهولة ما يلوث أجواءها.

هذه المرة يحل بايدن وفي الأجندة نطفة حلف "نيتو" شرق أوسطي، لكن في الخلفية المشاكل العالقة زائد جثّتين (واحدة مفقودة). النفط و"النيتو" شرق الأوسطي أمر يدعو للتفاؤل من وجهة نظر أمريكية، لكن جريمتي جمال خاشقجي وشيرين أبو عاقلة حِمل مزعج، من وجهة النظر الأمريكية أيضا، حتى لو امتلك البيت الأبيض، كعادته، مهارة وجرأة المراوغة والإفلات منه.

غير أن اللافت أكثر في الخلطة أن مكوّناتها يخدم بعضها بعضا.

عندما يحل بايدن في إسرائيل سترفرف من حوله روح الصحافية شيرين أبو عاقلة. وسط الحديث عن إيران والشوط المقبل من التطبيع مع من تبقى من العرب، ستسائله لِمَ اغتيلت مرتين، مرة برصاص قناص إسرائيلي جبان استعمل سلاحا أمريكيا، وأخرى ببيان أمريكي لا يقل جُبنا. وستسائله لماذا تفاوضت الخارجية الأمريكية مع الإسرائيليين على كل كلمة وحرف في ذلك البيان الجبان. ولماذا اختارت إدارته أنصاف الحلول وأنصاف المواقف، فسقط بيانها في لغة هلامية من قبيل "من المستبعد" و"من المرجح" و"يصعب تأكيد" و"لا يبدو أن" و"يمكن التأكيد لكن يصعب الجزم".. وأمثالها من عبارات غايتها النهائية إيقاع أقل ما يمكن من حرج على إسرائيل وطمس القضية حتى تمر الزيارة بسلام.

المنطق الأمريكي يقوم على أن التخلص الجيّد من قضية أبو عاقلة يكمن في تركها وراءك، ثم الرهان على عامل الوقت. والبيت الأبيض في رئاسة بايدن يكرر المنطق ذاته الذي استعمله في رئاسة ترامب مع قضية خاشقجي.

سيكون من السهل على بايدن إثارة قضية أبو عاقلة في إسرائيل. وسيكون سهلا عليه أيضا الخروج منها بلا ندوب، فإسرائيل حليفة حتى لو كانت صاحبة الجريمة، والسلطة الفلسطينية مغلوبة على أمرها. لكن على الأغلب سيكون من المستحيل على بايدن وأيٍّ من مرافقيه طرح قضية خاشقجي في السعودية. المرجّح أن المضيف السعودي هو الذي سيطرح القضية لكن من وجهة نظره، كأن يسأل عن سرّ كل حماس بايدن الكبير لخاشقجي.

أما إذا توافق الطرفان على السكوت عن الموضوع، فتلك بالتأكيد مكافأة (بونص) إضافية على الصفقة المربحة. إدارة بايدن تمارس الواقعية السياسية ذاتها التي مارستها أمريكا في الماضي. يبدو الأمر مختلفا هذه المرة لأنه يُقاس بأداء ترامب، فالأخير زاد الجرعة وبايدن قلّصها، ما جعل الهوَّة تبدو أكبر من المعتاد. بينما الواقع أنه اختلاف في اللغة والجرأة. قدوم ترامب من خارج الإستبلشمنت التقليدية جعله أكثر صراحة وحتى فجاجة في قول الأشياء. بينما أعاق الانتساب إلى هذه الإستبلشمنت بايدن عن امتلاك الجرأة والفجاجة ذاتهما.

مقال بايدن في صحيفة "واشنطن بوست" يوم الأحد، الذي يدافع فيه عن إنجازاته وواقعية إدارته، يقول كل شيء عن هذه الجرأة الزائدة اليوم. اختياره "الواشنطن بوست" رسالة لمن يهمه الأمر، لأنها على رأس وسائل الإعلام الأمريكية التي طرحت أسئلة حول جدوى زيارة السعودية، ومن القلائل أيضا في الإعلام الأمريكي الذين يتذكرون بعدُ وجود كائنات تسمى "الفلسطينيون". حديثه عن السعودية وعن إسرائيل وعن إيران يختزل كذلك التوجه الجديد القديم.

سياسة واشنطن اليوم انتهت إلى الاعتراف بضرورة قبول الشرق الأوسط بعيوبه وتناقضاته وأزماته، وإلى الإقرار بأن الإدارة الأمريكية غير مضطرة لتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية لتحريره من مستنقعاته الكثيرة، طالما بقي فيه مخزونات النفط وإسرائيل. من الرباط إلى صنعاء، مرورا بما بينهما وحتى أنقرة، لن تجد الإدارة الأمريكية ضيرا في التعامل مع أشكال من الديكتاتوريين والانقلابيين ومُشعلي الحرائق.

لا عيب في اللجوء إلى واقعية سياسية لو كنا في عالم مثالي. بيد أنها في السياق الذي أمامنا تبدو آخذة طريقها فوق الجثث وعكس التيار. "نيتو" شرق أوسطي جديد لن يكون فكرة خلّاقة لأن إيران ليست الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي، وحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ليسوا أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. أحد أكبر حلفاء واشنطن في المنطقة، الإمارات العربية المتحدة، يبيع ويشتري مع إيران أكثر مما يفعل مع أمريكا ذاتها والصين. الإمارات هي حبل النجاة الأول لاقتصاد إيران وتجارتها وشبكتها المالية بـ16.5 مليار دولار من السلع العام الماضي وحده عبر شبكة حديثة ومتكاملة من البنى التحتية في البلدين (صحيفة وول ستريت جورنال 5 يوليو/تموز الجاري). هذا الاندفاع الإماراتي يقول الكثير عن تعاطي الحلفاء مع واشنطن.. عن واقعيتهم هم أيضا. يقول إنهم فقدوا الثقة في أمريكا وباتوا لا يأمنون على أنفسهم منها. الإمارات اختارت موقفا غير مؤيد للغرب في غزو روسيا لأوكرانيا، حتى عندما طلبت منها واشنطن دعما. ولي العهد السعودي قضى وقتا طويلا يرفض التواصل مع بايدن. إسرائيل لا تستمع للإدارة الأمريكية إلا عندما يناسبها الكلام. مصر تحاول تقليد الرياض وأبوظبي في جرأتهما.

الارتياب من واشنطن يفسر الليونة التي أبدتها العديد من حكومات المنطقة حيال بعضها البعض.. الإمارات وإيران، السعودية وتركيا، تركيا ومصر، السعودية وإيران عبر العراق، الكل وإسرائيل.. إلخ.

هناك الكثير من الرسائل وراء هذه الخطوط المفتوحة أبرزها: نعم لأمريكا، لكن من المهم أن نُبقي على خطوط الود في ما بيننا.

الذي يزور المنطقة في الساعات المقبلة هو بايدن، لكن ما في حقيبته يشبه كثيرا ما كانت ستحمله حقيبة ترامب لو كان هو الرئيس. إنها زيارة "ترايدن" لتكريس إمدادات النفط وتثبيت غلبة العسكري على ما دونه. مَن سيجرؤ بعد الزيارة عن الحديث عن اختلافات بين بايدن وترامب عندما يتعلق الأمر بهذا الجزء من العالم؟

 

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)