هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: دراسات في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة: عملية الرصاص المصبوب-معركة الفرقان: [27/12/2008- 18/01/2009]
الكاتب: مؤلف جماعي، تحرير عبد الحميد الكيالي
الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ط1، بيروت 2009
عدد الصفحات: 318
1 ـ بين يدي الكتاب
يعود المؤلف الجماعي "العدوان الإسرائيلي على غزة: دراسات في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة" إلى "عملية الرصاص المصبوب" وفق التسمية الإسرائيلية أو "معركة الفرقان" وفق تسمية حماس، ذلك العدوان الغاشم الذي امتد لأكثر من عشرين يوما من التدمير المستمر لرقعة جغرافية لا تتحاوز مساحتها 365 كم2 نهاية سنة 2008 وبداية سنة 2009. فيتناول وقائعه من خلال محورين رئيسيين هما الأداء الإسرائيلي على المستوى السياسي والعسكري والإعلامي ويقارنه بالأداء السياسي والعسكري لغزة في ظل تراخ من السلطة الفلسطينية والبلدان العربية مركزا على استراتيجيات كل من إسرائيل وحماس في خوض تلك المعركة منتهيا إلى تقييم نتائجها من زوايا مختلفة منها زاوية الربح والخسارة ومنها زاوية القانون الدولي الذي يصنف ما تأتيه إسرائيل ضمن لجرائم الحرب.
واخترنا أن نركز على الفصول الخاصة بطبيعة الأداء الإسرائيلي التي شارك في صياغتها كل من عبد الحميد الكيالي ووليد سكرية وعدنان أبو عامر لنقف عند طبيعة الخلفيات التي تحكمه أولا ولنرصد ارتباكه الذي يكشف هشاشة ذلك الكيان الغاصب ثانيا.
2 ـ سياق عدوان "معلن"
ينطلق هذا الأثر من مصادرة مدارها على أن العدوان لم يبدأ في نهاية 2008 كما يعتقد البعض. فيعدّ الحصار والخنق الاقتصادي وغلق المعابر إثر عملية الشتاء الساخن في نهاية فيفري وبداية مارس 2008 جزءا من هذه الحرب. وكانت إسرائيل تتنكر لتعهداتها في اتفاق ماي 2008 الذي يقضي بهدنة مع حماس مقابل تخفيف الحصار على القطاع، وتقصره على ضمان الهدوء لقراها. وكانت إسرائيل بجرائمها تلك تعمل على إرهاق المواطنين اقتصاديا واجتماعيا لإحباطهم ودفعهم إلى الاستسلام أملا في تمردهم على حكم حماس. ولم يكن العدوان العسكري من هذا المنظور إذن غير تفريع للمسار الأمني إلى مسارات شملت السياسي والعسكري والإعلامي.
3 ـ الأداء الإسرائيلي على المسار السياسي أيام العدوان
ككل عدوان يثبت الإسرائيليون أن الاختلافات السياسية والمصالح الحزبية تفرقهم أيما تفريق. ولكن شهوة الدم الفلسطيني تجمعهم في النهاية. فقد أجمع مختلف سياسيوها على ضرورة منع الصواريخ الفلسطينية بمختلف السبل واقتصروا في مقارباتهم للتوتر مع القطاع على المعالجة العسكرية، بدءا ببيان إيهود أولمرت رئيس الحكومة عندها وممّا جاء فيه "في أعقاب خرق شروط التهدئة من جانب حركة حماس والهجمات المتواصلة لسلطة حماس على مواطني جنوب إسرائيل فقد أصدر الطاقم الوزاري المقلص في اجتماعه يوم الاربعاء الماضي [24/12/2008] تعليماته للجيش بالقيام بكل شيء من شأنه أن يقود إلى وقف إطلاق القذائف والهجمات من قطاع غزة".
واستجابة لهذه الشهوة رفضت مختلف الحساسيات السياسية الهدنة الفرنسية المقترحة. فاعتبروا أنها لا تستجيب إلى هدفهم وهو "إجتثاث الإرهاب الفلسطيني من أسسه نهائيا". وفي سبيل ذلك تحدت إسرائيل قرار مجلس الأمن رقم 1860 الصادر بتاريخ 08 ـ 01 ـ 2009 والداعي إلى وقف العدوان رغم التراخي الأمريكي الذي أطلق اليد الإسرائيلية لتواصل عدوانها لأطول فترة ممكنة وتعمده تأجيل إصداره.
تعلن إسرائيل انتصاراتها الوهمية في كلّ عدوان وتحتفل بالرقص على جثث الأطفال والنساء والشيوخ ولكنها تنتهي دائما إلى النتيجة نفسها ومدارها أن الفلسطينيين يطورون أسلحتهم بعد أن اقتنعوا أنهم يواجهون قدرهم لوحدهم في معركتهم ويحمون أرضهم بصدورهم العارية وأنّ النظام الدّولي متواطئ ضدهم..
ورغم هذا التوافق الإسرائيلي يقف الاثر عند تدرّج في الحدة يصل أوجه مع إيلي ياش رئيس حزب شاس الذي صرّح بأنه "ّيمكن تدمير غزة، كي يفهموا بأنه لا يجب إغاظتنا" واعتبر الحملة فرصة "لسحق آلاف المنازل للمخربين كي يفكروا مائة مرة قبل أن يطلقوا صاروخا" أو في تصريح ليبرمان عند قوله "شعب إسرائيل لن يكون في أمان مادامت حماس تحكم قطاع غزة، وعلينا الاستمرار في الحرب حتى أنهاء وجود حركة حماس، والقضاء عليها قضاء مبرما"، داعيا إلى إلقاء قنبلة ذرية على القطاع باسره وطمره تحت الأنقاض مرة واحدة وإلى الأبد عند قوله بتلميح أصاب العالم صمّ عن سماعه أو التنديد به "إن الحل يتمثّل في أن نقتدي بالضبط بما قامت به الولايات المتحدة لحسم الحرب العالمية الثانية، ويتوجب علينا أن نتصرّف بالضبط مع غزة كما تصرفت الولايات المتحدة مع اليابان، وبالتالي لا داعي لاحتلال غزة".
فكان الأداء السياسي الإسرائيلي مباراة حقيقية بين مختلف حساسياته السياسية في التطرف لتسجيل نقاط عند الرأي العام الإسرائيلي واستثمارها لاحقا في الحملات الانتخابية. ولم يحدّ من غلوّه غير ردة فعل الرأي العام الدولي التي حرّكت الدول الغربية لتفرض عبور قوافل الإغاثة على إسرائيل.
4 ـ الأداء الإسرائيلي على المسار العسكري
يقدر الأثر أن الإسرائيليين خططوا لعدوان سريع وخاطف. فسخروا لهذه المهمة قوات برية تعدادها نحو 15 ـ 20 ألف جندي منها خاصة ألوية النخبة والوحدات الخاصة. واستدعت نحو 16 ألف جندي من قوات احتياطها. ومن قواتها الجوية استعملت طائرات أف 15- وآف 16 والعديد من الحوامات وحاصرت القطاع من ناحية البحر بالزوارق والسفن.
وفضلا عن ضرب المقاومة وتدمير قدرتها على إطلاق الصواريخ وتغيير الوضع في غزة لتحويل القطاع إلى إقليم مهادن كانت هذه الحملة تستهدف استعادة الجندي الأسير جلعاط عساه يسهم في ترميم صورة إسرائيل ويؤكد امتلاكها لقوة ردع معتبرة بعد أن تضررت هذه الصورة كثيرا بفعل حربها المكلفة ضد لبنان صيف 2006 حتى تيعيد للجندي الإسرائيلي ثقته في قدرة بلاده الحربية بعد تلك النكسة.
وكان لهذا العدوان أهداف موازية منها استغلال إيهود أولمورت وباراك لفعل الحرب على الفلسطينيين، المستجيب لتطلعات العام الإسرائيلي المتطرف ضمن مخططاتهما الانتخابية باعتبارهما الممسكين بالسلطة حينها، وتنافسهما في حصد نتائجها، ومحاولة بقية مكوني المشهد السياسي قطع الطريق عليهما لتحقيق مكاسبهم الخاصة بدورهم. ومنها محاولة تعبيد الطريق أمام مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الأمريكي المتعثر حينها.
وأرادت إسرائيل لهذه الحرب أن تكون خاطفة لأنها لم تكن مطلقة الأيدي تماما، رغم البطاقة البيضاء الممنوحة أمريكيا وأوروبيا. فقد كانت تقيدها جملة من الإكراهات كالخشية من خسائر معتبرة في صفوف عسكرييها وهو ما يكون له وقع ثقيل في الانتخابات أو الخشية من ظهور انتفاضة في الضفة الغربية فيتم تعميم روح المقاومة في كل الأراضي الفلسطينية بدل قمعها أو الخوف من افتضاح صورتها بعد أن أصبح من المستحيل عليها إخفاء جرائمها بسبب التغطية الإعلامية الكبيرة التي بدأت تحوّل الرأي العام الدولي إلى قوة ضاغطة على حلفائها الغربيين المتواطئين معها في السر والعلانية. ولا بد لإسرائيل أن تلتمس لهم عذرا، فلهم بدورهم حساباتهم الانتخابية الخاصة ولهم رأي عام فاعل يتأثر سلبا بمشاهد الدمار الذي تلحقه الآلة الحربية الإسرائيلية بالأبرياء.
5 ـ الأداء الإسرائيلي على المسار الإعلامي
انتهجت إسرائيل سياسة الكذب وإنكار الحقائق على الأرض واعتماد الحجة: "نحن لم نفعل هذا، هم جعلونا نفعله". فادّعت أن هذه الحرب ذكية أو نظيفة تذهب قنابلها رأسا إلى "الإرهابيين دون غيرهم". وأعلن أولمرت أن إسرائيل لا تعلن الحرب ضد سكان قطاع غزة وأنها "ستعامل السكان بقفازات حريرية" غير أنها ستتعامل بقبضة حديدة مع حماس.
وفي سبيل إقصاء كل صوت مخالف لهذا الصوت المضلل ورغبة منها في إخفاء جرائمها منعت وسائل الإعلام العالمية من الوجود الميداني وسحبت الهواتف الخلوية من الجنود لمنعهم من نقل الوقائع إلى ذويهم واعتبرت أنّ الأداء الإعلامي جزء من القرار العسكري لا بدّ أن يحافظ على وحدة الإدارة ووحدة الهدف رغم الاختلاف في التوجهات والسياسات. فشكلت هيئة إعلام قومي لتعدّ المواد الإعلامية التوضيحية والمقابلات والرسائل سلفا ولتضمن لآلة الدعاية "الظهور في كل مكان وقول نفس الشيء والتأكد من بقاء الخصوم مختفين قدر الإمكان". وتدافع الجهات الرسمية على هذا الاختيار قائلة: "نحن لا نحل محلّ الناطقين باسم الخارجية أو الجيش أو المؤسسات الأخرى، بل نساعدهم وننسق بينهم ليتحدثوا بخط واحد".
الرأي العام الدولي الواعي، والمثقفون الحقيقيون فيدركون أنّ الفلسطينيين لا يدافعون عن أرضهم المحتلة فقط، بل عن إنسانية الإنسان نفسه.
وعندما تكون المشاهد فظيعة كان المتحدثون يستثمون الصور النمطية. فيذكرون معاناة الشعب الإسرائيلي لتهميش وقعها ولتحويل الأنظار عن معاناة الفلسطينيين. وكان المسؤولون يسارعون باتهام كل صوت معارض لهذه الحرب الوحشية بمعاداة السامية ويحرضون على الفلسطينيين واتهامهم بالارهاب شعارهم "هم من اعتدى ونحن لا نفعل غير حق الدفاع عن النفس".
5 ـ المفارقة التي أرهقت العقل الإسرائيلي
لقد كانت حصيلة ذلك العدوان مرعبة حقا. فليس قطاع غزة، جغرافيا سوى شريط ساحلي يفتقد إلى العمق الاستراتيجي ويقع بالكامل في مرمي النيران الإسرئيلية. زتسهل محاصرته لضيق مساحته. وللقضاء على قياداته وخلق فوضى ميدانية على أرضه وللضغط على المجتمع المدني بإنهاكه لإضعاف قدرته على الصمود والمقاومة شنت إسرائيل أثناء العدوان نحو 1500 غارة جوية وأطلقت أكثر من 1000 صاروخ من نوع هيل فاير وعوريف المدمرين وألقت طائراتها نحو 1.5 مليون طن من المتفجرات في مساحة لا تتجاوز 35 كم طولا و14 كلم عرضا وتؤوي 1.5 مليون نسمة.
وكان معدل نصيب الفرد الواحد1 طن من المتفجرات. ولكن النتيجة كانت مفارقة. فرغم هول الدمار وفداحة الخسائر لم تنكسر المقاومة ولم تتراجع إرادة الفلسطيني في الدفاع عن أرضه. وفي الحروب لا يقاس مدى النجاح بما دُمّر من المنازل أو بما أُسقط من الضحايا وإنما بما حُقق من الأهداف. ويجمع الخبراء على أنّ إسرائيل "لم تنجح في إيجاد قوة ردع أمام الصواريخ الفلسطينية التي مازالت تسقط على المستوطنات الإسرائيلية في المناطق الجنوبية"، بل إنها تفرض شيئا فشيئا توازن الرّعب بين الطرفين ومنظومة القبة الحديدية نفسها التي بنيت لاحقا بمساعدة أمريكية أثبتت فشلها في حماية الأراضي المحتلة من وابل الصواريخ بعد كشف حماس لنقاط ضعفها. وهذه هي المعادلة التي أرهقت العقل الإسرائيلي لأنه ينسى سلاحا آخر يفتقد إليه جيشه هو الإيمان بعدالة القضية.
5 ـ العدوان إثر العدوان.. وبعد؟
تعلن إسرائيل انتصاراتها الوهمية في كلّ عدوان وتحتفل بالرقص على جثث الأطفال والنساء والشيوخ ولكنها تنتهي دائما إلى النتيجة نفسها ومدارها أن الفلسطينيين يطورون أسلحتهم بعد أن اقتنعوا أنهم يواجهون قدرهم لوحدهم في معركتهم ويحمون أرضهم بصدورهم العارية وأنّ النظام الدّولي متواطئ ضدهم لأن القيم التي تحكمه هي قيم المصالح الاقتصادية لا قيم الإيمان بحق الشعوب في تقرير المصير وأنّ فعل المقاومة فعل وجود بالأساس. وإن لم يكفل استقلال فلسطين حتى اليوم، فهو يحفظ الأمل في تحقيقه كما تُحفظ الأجنة في المخابر لتبعث يوما ما. أما الرأي العام الدولي الواعي، والمثقفون الحقيقيون فيدركون أنّ الفلسطينيين لا يدافعون عن أرضهم المحتلة فقط، بل عن إنسانية الإنسان نفسه. فالاحتلال كالعبودية تماما: لوثة تُلحق بها وتهينها مهما كان المُحتلّ ومهما كانت دوافعه.