قضايا وآراء

غورباتشوف في المرآة الأفغانية والسورية

أحمد موفق زيدان
1300x600
1300x600
ودّع العالم في الأسبوع الماضي آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، الذي وصفه الشاعر الألماني هانز ماغنوز إينزينسبيرغر بأنه بطل التراجع، فيما وصفه آخرون بملك الانفتاح، لكن سيظل إرث غورباتشوف مثار خلاف وجدل بين الأجيال المقبلة، تماماً كما كان مثار خلاف وجدل خلال جنازته وتشييعه، فانعكس ذلك باهتمام غربي كبير بجنازته وبإرثه وبالحديث عنه في الإعلام الغربي، بينما أظهر الروس والرئيس فلاديمير بوتين عكس ذلك، وهو الذي دأب على وصف ما فعله غورباتشوف من تدمير للاتحاد السوفييتي بأنه أعظم كارثة جيواستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.

في مقالنا هذا ما يهمنا هو غورباتشوف في المرآة الأفغانية، حيث كنت أغطي يوم وصوله إلى السلطة عام 1985 الشأن الأفغاني، يومها كسر بوصوله للسلطة محرماً سوفييتياً لكونه دون سن السبعين، حيث كان البوليتبورو أو المكتب السياسي السوفييتي يقذف بأعضائه الواحد تلو الآخر من بريجنيف إلى تشيرنينكو فأندربوف ليضحي بهم، ميزتهم الوحيدة أنهم بلغوا السبعين عاماً، فأتى وصول غورباتشوف الشاب نسبياً في تلك الفترة ليكسر القاعدة، ويمنح صورة مختلفة عن الاتحاد السوفييتي ومستقبله.
انعكس ذلك باهتمام غربي كبير بجنازته وبإرثه وبالحديث عنه في الإعلام الغربي، بينما أظهر الروس والرئيس فلاديمير بوتين عكس ذلك، وهو الذي دأب على وصف ما فعله غورباتشوف من تدمير للاتحاد السوفييتي بأنه أعظم كارثة جيواستراتيجية في القرن الحادي والعشرين

كان غورباتشوف صارماً ومصرّاً على التخلص من المستنقع الأفغاني، وحريصاً كذلك على الانسحاب من أفغانستان مهما كان السبب. ولعلي أوضحت ذلك بتفصيل كبير في كتابي صيف أفغانستان الطويل، وأظهرت كيف أن وزير خارجيته إدوارد شيفارنادزة كان يطبق سياسته بحذافيرها في الإصرار على الانسحاب، ليعتلي لاحقاً شيفارنادزة رئاسة جورجيا.

كان غورباتشوف قد وصف أفغانستان بالجرح النازف، وأن هذا النزيف الذي استنزف خزينة موسكو المالية والعسكرية والسياسية والاجتماعية لا بد أن يتوقف. ولعل روائية فتيان الزنك قد لامست الكثير من الجروح الاجتماعية التي بدأت تتعمّل وتتقرح في الجسد السوفييتي، نتيجة الخسائر البشرية، بالإضافة إلى تفشي تعاطي المخدرات، ووصولها إلى الاتحاد السوفييتي، فكان لزاماً على أي قائد سوفييتي أن يتطلع إلى السبب فيعالجه.

تزامن يومها وصول غورباتشوف ورغبته في التخلي ليس عن أفغانستان فحسب كما ثبت لاحقاً؛ وإنما التخلي عن الاتحاد السوفييتي كله ليتفكك بعد سنوات، مع رفع واشنطن منسوب الدعم العسكري لمجاهدي أفغانستان، فتدفقت صواريخ ستينغر عليهم، مما حيّد سلاح الجو السوفييتي، وشوهدت الطائرات السوفييتية تتهاوى بسرعة البرق، مما سرّع في قرار القيادة السوفييتية الانسحاب من أفغانستان. وشوهد لأول مرة الشيوعيون الروس يتخلون عن رفاقهم في كابول، لنرى بعد سنوات شنق آخر رئيس شيوعي لأفغانستان، نجيب الله، والذي كان الطفل المدلل لموسكو نظراً لكونه مدير المخابرات الأفغانية (الخاد) لفترة طويلة، وهو في الواقع والحقيقة فرع المخابرات السوفييتية (كي جي بي) في أفغانستان.

لكن وبحكم سوريتي كنت معنياً بمتابعة تأثير غورباتشوف وترائيه في المرآة السورية أيضاً، لأقف أخيراً على ما كتبه نائب وزير خارجية الاتحاد السوفييتي السابق فيكتور إسرائيليان، الذي حضر لقاء غورباتشوف مع حافظ الأسد عام 1987. كان اللقاء من وجهة الأسد مهماً جداً كونه سيختبر العلاقة السوفييتية- السورية المستقبلية، لا سيما مع تخلي موسكو عن حليف مجاور لها جغرافياً، أنفقت عليه المليارات من الدولارات لسنوات، وهو الحليف الأفغاني، الأمر الذي قرع أجراس خطر في دمشق بأن يكون التخلي عن الأسد من باب أولى. وفوجئ الأسد -بحسب محضر اللقاء- بلهجة غورباتشوف التي كانت منسجمة ومتسقة مع سياساته في الانكفاء إلى الداخل السوفييتي، فإن كان بإمكانه التخلي عن نجيب الله وأفغانستان، وإن كان بإمكانه التخلي لاحقاً عن أعباء وأحمال جمهوريات سوفييتية تحت سيطرته، فمن باب أولى التخلي عن سوريا، والأسد!
ربما لو كان غورباتشوف محلّ فلاديمير بوتين لما كان التدخل الروسي في سوريا قد حصل، وهو الذي جرّب ويلات أفغانستان، فانسحب منها، بل انسحب إلى داخل روسيا من الاتحاد السوفييتي

كان ذلك يقلق على ما يبدو حافظ الأسد، ولذا فقد أتت لهجة غورباتشوف خلال اللقاء لتزيد من قلقه، حين خاطبه غورباتشوف بأنه مستغرب جداً من استيراد النخب السورية الحاكمة لكماليات ورفاهيات تقدر بمئات الملايين من الدولارات من الدول الغربية، أعداء الاتحاد السوفييتي وخصومه، وهي تدعي أنها تريد محاربة إسرائيل، وتود إقامة توازن استراتيجي معها، بينما تعجز عن دفع ديونها العسكرية لموسكو المقدّرة بـ 13 مليار دولار. وذكّر غورباتشوف الأسد أيضاً كيف أن قيادة المكتب السياسي السوفييتي يستخدمون سيارات سوفييتية الصنع، بينما القيادة السورية تحرص على ركوب سيارات المرسيدس والبيجو!

ربما لو كان غورباتشوف محلّ فلاديمير بوتين لما كان التدخل الروسي في سوريا قد حصل، وهو الذي جرّب ويلات أفغانستان، فانسحب منها، بل انسحب إلى داخل روسيا من الاتحاد السوفييتي، بالإضافة إلى قناعته بأن الاعتماد على الآخرين بالطريقة التي اعتمدت فيها موسكو عليهم أثبت فشله، وما درس السادات وتخليه عنهم في الشرق الأوسط، ولجوؤه للغرب إلا دليلا آخر، لمن هو مغرم بالحديث عن اختلاف الدول والنماذج، ولا أدلّ على ذلك مما جرى في أفغانستان لعقد من الغزو العسكري، ولعقود من الغزو والتدخل الهادئ الناعم، لتكون العاقبة هزيمة مذلة كالتي حصلت..
التعليقات (0)