قضايا وآراء

ما سرّ اهتمام جونسون بكييف إلى هذا الحدّ؟

عماد الشدياق
1300x600
1300x600
قبل أيام قليلة، استُقبِل رئيس وزراء بريطانيا المستقيل بوريس جونسون في العاصمة كييف، استقبال الفاتحين. جونسون ضرب عرض الحائط بالسباق الذي كان جاريا في لندن لاختيار خليفة له بعد استقالته على خلفية فضائح وتحقيقات وإخفاقات، وجاء إلى أوكرانيا يدعو الأوروبيين إلى "مواصلة المسار" على الرغم من ارتفاع تكاليف المعيشة بسبب الحرب، مذكراً إياهم بأنّ شعب أوكرانيا يدفع دمَه ثمن "الشرّ الروسي".

لم يكترث جونسون لكلّ الأزمات في بلاده، التي كان هو نفسه جزءاً من أسبابها، وإنّما جلّ ما كان يصبو إليه هو استمرار الدعم لكييف من أجل مواصلة الحرب!

للوهلة الأولى، يظنّ المراقب أنّ جونسون هو الرئيس الأصيل لحكومة بريطانيا: كان يجوب العالم، يوزع الأوامر، يُطلق التوصيات، ويمارس الضغوط التي كان آخرها ما أفرغه في جعبة الرئيس زيلينسكي من "حقن" و"نفخ" مبطنين، من أجل حضّه على عدم التفكير في أيّ حلّ تفاوضي للأزمة، ومحذراً إياه مواربة، من مغبة خوض المحادثات مع موسكو لأنّها ستحلّ "كارثة" على "العالم بأسره".

"العالم بأسره".. ذاك المصطلح السحري الذي تحاول واشنطن تعميمه على الأزمات العالمية. وهو بالمناسبة، دليل على الأسلوب النموذجي الذي تسعى العاصمتان (لندن وواشنطن) للتأثير من خلاله على الرأي العام العالمي في أيّ موقف قد لا يتقاطع مع مصالحهما: تمارسه واشنطن مع الرأي العام العالمي في الأزمة الدائرة بين الصين وتايوان، وتتبناه لندن في مقاربة النزاع الأوكراني مع روسيا، في لعبة تقسيم أدوارٍ وسعيٍ إلى مزيد من النفوذ.

زيارة جونسون إلى كييف لم تنته عند حدود الدعم المعنوي والتحذير اللذين وجّههما جونسون إلى زيلينسكي، بل استُتبع بمبادرة قام بها الرئيس الأوكراني، تكاد تكون سابقة لم يشهدها العالم من قبل، وهي أنّ الأخير تقدّم بالتماس غريب عجيب، يدعو فيه سلطات بلاده إلى منح جونسون الجنسية الأوكرانية وترشيحه أيضاً لمنصب "رئيس وزراء أوكرانيا"!

قد يقول قائل إنّ الالتماس يحمل رمزية حول حجم امتنان أوكرانيا للرجل، هذا صحيح، لكنّه أيضاً وبلا شكّ يعكس حجم الحماسة التي تظهرها أوكرانيا لبريطانيا، وفي مقابل حجم الحماسة التي تظهرها بريطانيا للحرب في أوكرانيا، وليس بالضرورة لأوكرانيا نفسها.

هذه الحماسة ليست وليدة صُدفة، ولا حتى نتاج الحرب التي اندلعت في أوكرانيا قبل ستة أشهر، وإنّما تنطلق تلك الحماسة من الاستراتيجية التي ترسمها وزارة الدفاع البريطانية لنفسها مع بداية العام.

المراجعة الدفاعية والخطوط العريضة للسياسة الخارجية البريطانية، التي سبق أن نشرتها السلطات الأمنية في لندن، تبوح بشكل صريح وغير موارب، بأنّ "التهديد الرئيسي" المباشر على أمن بريطانيا مصدره روسيا. وقد يفسّر هذا كلّه حجم اهتمام لندن بكييف، ويفسر أيضاً توقها الدائم إلى حشد الدعم للجيش الأوكراني بالسلاح والمعدات.

الذهاب أبعد من ذلك يكشف أيضاً، أنّ اهتمام لندن بالملف الأوكراني ينطلق من نظرتها إلى رُقعة مصالحها الجيوسياسية والاستراتيجية داخل القارة الأوروبية التي تعتبر نفسها إلى اليوم "الوصيّ الشرعي" على القارة. وصاية لندن على أوروبا تشبه إلى حدّ بعيد الوصاية أو النظرة التي تنظر فيها الولايات المتحدة إلى مصالحها الاستراتيجية في تايوان، تلك الجزيرة التي أمست منذ نحو شهر إلى اليوم "محجّة" يقصدها الدبلوماسيون الأمريكيون من أجل تأجيج الصراع مع الصين، بشكل غير مفهوم ولا مبرّر.

هذا كلّه، قد يعيدنا في الذاكرة أيضاً إلى أشهر خلت، تحديداً إلى نهاية عام 2021، يوم نشرت مجموعة من "المهكرين" الدوليين، حزمة وثائق بريطانيّة مسرّبة، تكشف النقاب بشكل مفصّل بالأسماء والجهات والتواريخ، عن عمليات نفذتها وكالات الاستخبارات البريطانية في مناطق البلقان.

هذه الوثائق، وضمنها مجموعة كبيرة من المراسلات الدبلوماسية التي تتسم بالسرية، تشير إلى تورّط بريطانيا في صراعات عدّة حول العالم، إلى جانب التدخل في دول البلقان وتوجيه جهات غير حكومية فيها، ومن بين تلك النزاعات التي كان للاستخبارات البريطانية يد طولى فيها: النزاع في سوريا، وزعزعة الاستقرار السياسي في لبنان، وتحفيز النشاط الاحتجاجي في روسيا..

بحسب التقارير الإخبارية التي واكبت الوثائق وحلّلتها، فإنّ التدخلات كانت تحصل من خلال سياسة "القوة الناعمة". هذه القوة الناعمة تمارسها السلطات البريطانية على دول الخارج من خلال برامج تستهدف مؤسسات غير حكومة، أو منظمات تُعنى بحق الإنسان أو الإعلام. في بعض الحالات إن وجدت المجال مفتوحاً للاختراق أوسع، تتوسع لتطال أجهزة أمنية وحكومية (مثلما حصل مع قوى الأمن الداخلي والتفتيش المركزي وشركات الاتصالات في لبنان).

أمّا السياسة المتبعة من أجل ذلك، فقوامها "التأثير إيجابياً" الذي يمارس على القيادات والمجتمع الأهلي والمدني وعموم السكان. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، تُصور الممارسات على أنّها "مفيدة للطرفين"، لكن في الواقع قد لا تكون إلاّ نشاطاً تحريضياً يخدم طرفاً واحداً هو غالباً الجهاز المشغّل. تستهدف هذه الطريقة اللعب على التناقضات، ويتمّ ذلك غالباً على يد مؤسسات أو جهات بريطانية قد تبدو ظاهرياً غير أمنية وغير خاضعة للرقابة في لندن (منظمات غير حكومية، مؤسسات تقدم خدمات اجتماعية)، لكنّها في السرّ والباطن تتعاون مع وكالات الاستخبارات.

لعل هذا يفسّر حجم الاهتمام الذي تظهره لندن بكييف، ويفسر أيضاً الطاعة التي تظهرها كييف وزيلينسكي لـ"رئيس وزراء مستقيل". ففي العُرف الغربي السائد اليوم، أن تكون مطيعاً يعني أنّك طيبٌ ومحبٌّ للديمقراطية والحريات، أمّا إن قادتك أفكارك إلى خلاف ذلك إلى ما يشبه الحلول التفاوضية أو الدبلوماسية لحلّ نزاع مسلّح تختلف معهم به.. فهذا يعني أنّك انهزامي أو تتسبّب بالكوارث "على العالم بأسره"!
التعليقات (0)