كتب

هل يمكن فصل الفرنكوفونية عن سياقها التاريخي؟ كتاب يجيب

الغرب لا يمكنه أن يكون ديمقراطيّا ما لم يؤمن بالاختلاف والتعدد الحضاري والثقافي
الغرب لا يمكنه أن يكون ديمقراطيّا ما لم يؤمن بالاختلاف والتعدد الحضاري والثقافي

عنوان الكتاب: الحرب الحضاريّة الأولى
المؤلّف: د. المهدي المنجرة
الطبعة الأولى: 1991
عدد الصفحات: 256 


تحتضن مدينة جربة التونسيّة يومي 19 و20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 أشغال القمّة الثامنة عشرة للمنظمة الدولية للناطقين باللغة الفرنسية والمعروفة اختصارا بالفرنكفونيّة، التي توافق هذه السنة الذكرى الخمسين لإنشائها. وكانت القمّة مقررة بداية يومي 12 و13 كانون الأول (ديسمبر) 2020 وتمّ تأجيلها بسبب جائحة كورونا، ثم حالت الإجراءات الاستثنائية التي أقدم عليها الرئيس قيس سعيّد يوم 25 تموز (يوليو) 2021 وما رافقها من وقف لأعمال البرلمان المنتخب وحلّ الهيئات الرقابية، دون عقدها يومي 20 و21 تشرين الثاني/نوفمبر 2021.

ولئن كانت تونس بلدا مؤسِّسا للفرنكفونيّة وعضوا ناشطا في المنظمة الدولية للفرنكوفونية، فإنّ انعقاد هذه القمّة في الظروف السياسية الاستثنائيّة التي تمرّ بها تونس، وطبيعة الدّعم الفرنسي غير الخافي لسلطة الرّئيس سعيّد، رغم جملة الانتقادات المتعلّقة أساسا بحريّة الرأي والتعبير والذهاب في مسارين؛ دستوري وتأسيسي، يغيّبان الأحزاب السياسيّة والمنظمات المدنيّة الفاعلة في المشهد التونسي، قوّيا الجدل القديم المتجدد بين النخب الفكريّة والسياسيّة حول طبيعة المنظمة الفرنكفونيّة وأهدافها غير المعلنة. إذ بالرغم من أن الفرنكفونيّة تعرّف نفسها على أنّها "جهاز مؤسساتي إقليمي أنشئ للنهوض باللغة الفرنسية، وإقامة تعاون سياسي، وتربوي، واقتصادي، وثقافي في صلب الدول والحكومات الثماني والثمانين، التي تتكون منها المنظمة الدولية للفرنكوفونية"، فإنّ كثيرين يرون فيها أداة نفوذ فرنسي ناعم داخل مستعمراتها القديمة.

في هذا الإطار، يكون من الأهمية بمكان العودة إلى كتاب "الحرب الحضاريّة الأولى" للدكتور المهدي المنجرة (توفي في 13 حزيران/يونيو 2014)، الاقتصادي المغربي وعالم الاجتماع المتخصص في الدراسات المستقبلية، وأحد أكبر المراجع العربية والدولية في القضايا السياسية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية، ومؤلّف كتاب "الإهانة في عهد الميغا إمبريالية". وقد أتى الدكتور المنجرة في مؤلفه "الحرب الحضاريّة الأولى" على تحليله للماضي والحاضر، ورؤيته للمستقبل، وتناول فيه ما يرى من تغييرات أساسيّة مطلوبة في بلادنا العربيّة-الإسلاميّة، وتغييرات في الغرب وتأكيده ضرورة الاهتمام بالبحث العلمي والرؤى المستقبليّة. وقد تناول في جزء مهم من الكتاب الذي بين أيدينا التمييز بين الفرنسية بوصفها لغة وثقافة وبين الفرنكفونيّة، كأداة هيمنة لغويّة ونفوذ سياسي داخل المستعمرات الفرنسية القديمة.

تعهير اللغة الفرنسيّة (prostituer)

يؤكد الدكتور المنجرة ضرورة التمييز بداية بين الفرنسيّة كلغة وكثقافة وبين الفرنكفونيّة. فإن كانتا الفرنسية والثقافة الفرنسية تمثلان بحسب رأيه، في إطار العلاقات الدّوليّة، عنصر توازن، باعتبارهما يتيحان للنّاس إمكانيّات متعددة للانفتاح على الثقافة العالميّة، وليس على تيّار واحد تتزايد هيمنته باستمرار وهو التيار الانجلوسكسوني، فإنّ الفرنكفونية غير ذلك، إذ يكفي وضع أيّ شيء وراء كلمة فرنكفونيّة لتحصلوا على المال الذي تريدون. بما يعني أنّ الفرنكفونيّة أداة غير الثقافة والتثاقف.

 

إنّ الدّيمقراطيّة مثل الهواء بالنسبة للإنسان، ولذلك ليس الإنسان المحروم من حريته وحقه في التعبير عن الرّأي والكرامة، في حاجة إلى أن تأتيه فكرة الديمقراطيّة عبر وسطاء من الخارج، حتى يستطيع حينها النهوض للمطالبة بحقّه في الدّيمقراطية، تماما كما لم تكن حركات التحرر الوطني على اختلافها في الوطن العربي وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاّتينية في حاجة إلى وسيط لتنتفض ضدّ المستعمر.

 



وعلى عكس البرامج الإذاعيّة المغربيّة والقناة الثانية المغربية (في بداية تسعينيات القرن الماضي) التي تصمّ الآذان من الصّباح إلى المساء، فإنّ الحقيقة ماثلة أمام الجميع؛ وهي أنّ النّاس الجدّيين لا يأخذون اللغة الفرنسيّة بجدّية. وإنّه من المؤسف أن يتمّ تعهير اللغة الفرنسية، هذه اللغة الكونيّة التي ساهمت في إغناء التراث الثقافي الإنساني وأعطت الشيء الكثير، سواء في مجال الأدب أو العلوم والطب. من المؤسف أن يتمّ تعهيرها على المستوى الدّولي، من أجل خلق أسواق ومن أجل خلق هيمنة سياسية، ومن أجل إبقاء أناس أو رؤساء دول في حكم، ما كانوا أن يبقوا فيه أكثر من أربع وعشرين ساعة لولا الفرنكفونيّة. إنّه التعهير التام للثقافة، يضيف الدكتور المنجرة.

الفرنكفونيّة أداة تمييز

بالرّغم من الشعارات التي يتغنّى بها الدّاعمون للحركة الفرنكفونيّة على أنّ الفرنكفونيّة إنّما هي تستهدف -في جوهرها- تحقيق تقارب بين النّاس، فقد خلقت الفرنكفونية في الواقع حاجزا بين من يستعملون اللغة الفرنسية ويساهمون في الثقافة الفرنسيّة، وهم فرنسيّون، يتوفّرون على جواز سفر فرنسي وبين الآخرين، كلّ الآخرين، الذين هم مجرّد فرانكفونيين، تمنح لهم تارة جائزة الفونكور، وتارة أخرى جائزة فيمينا. هؤلاء جديرون بالتكريم، لكنّهم يظلّون في نظر فكرة الفرنكفونيّة مجرّد كتّاب فرنكفونيين ليس كتّاب فرنسيين.

لا يخفي الدكتور المنجرة تفضيله قراءة مؤلف لشخص من أصل فرنسي، يعبّر عن اللغة والثقافة الفرنسيّة، أكثر ممّا يفضّل القراءة لفرنسي زائف، اختار هذا النهج كنوع من التعويض ـ كما يقال في علم النفس ـ؛  لأنّه لم يستطع أن يكون شيئا آخر. ولذلك يقول؛ "إنني أفضّل الرجوع إلى النّبع. لماذا تريدون أن تفرضوا عليّ كتّابا رديئين بالفرنسيّة، فقط لأنّهم يعتبرون فرنكفونيين، ويتمّ تشجيعهم بمنح دراسيّة، ويذهبون إلى المراكز الثقافيّة الفرنسيّة، وتفتح أمامهم كلّ الأبواب. فنحن إذن أمام سياسة ثقافيّة تسيء إلى فرنسا؛ لأنّها لا تهدف إلى تحقيق أهداف ثقافيّة بل إنّها أهداف سياسيّة. وخير دليل على ذلك، ما عايشه بوصفه عاملا باليونسكو سنوات 1961-1962-1963، حيث كان المنجرة مضطرّا للطّواف على مجموع القارة الأفريقية لكي يجد بلدا يقبل استضافة اجتماع حول اللغات الأفريقيّة الأم! فكلّ الحكومات الأفريقيّة كانت خائفة، ممّا اضطرّا لعقدها حينها في الكامرون؛ لأنّ هذا البلد كان في ذات الوقت بلدا فرنكفونيّا وإنجلوفونيّا.

فالمشكل وفق الدكتور المنجرة ليس اللغة الفرنسيّة، فهو من يتقنها ويستعملها ويكتب بها كما يكتب بغيرها، ولا يخفي اعتزازه بمعرفتها، فهو بحكم تجربته في التعاون الدّولي يعرف مدى مساهمة اللغة الفرنسيّة للبشريّة، إلا أنّه ينتقد شددي الانتقاد مفهوما سياسيّا، يكتسي طابعا استعماريّا جديدا، لا يقبل واقع تطوّر الأشياء ويريد التعلّق بشيء نبيل مثل اللغة الفرنسيّة، من أجل استعمالها كوسيلة للتفاوض من أجل إبقاء الوضع القائم على ما هو عليه، ومنع التغيير في بعض البلدان، بل أكثر من ذلك، استعمالها كوسيلة لمحاربة اللغات الوطنيّة واللغات الأم.

المغرب العربي والفرنكوفونيّة

يقول المنجرة؛ إنه بمناسبة انعقاد المؤتمر الفرنكفوني الثاني بمدينة كيبك الكنديّة، نظّم مركز العلاقات الدّوليّة بالكيبك مناظرة حول مستقبل هذا المؤتمر الفرنكفوني. وكان من بين الحاضرين الذين تمّ استدعاؤهم لحضوره ثلاثة أشخاص من المغرب العربي، هم بكّار التوازني، وهو وزير سابق للصناعة والتجارة وتولّى، لاحقا منصب الكاتب العام للغرفة التجاريّة الفرنسية ـ العربيّة وسليمان الشيخ، عميد جامعة الجزائر وشغل لاحقا منصب وزير التعليم، بالإضافة إليه هو بوصفه أستاذا جامعيّا من المغرب.

 

إنّ الغرب لا يمكنه أن يكون ديمقراطيّا ما لم يؤمن بالاختلاف والتعدد الحضاري والثقافي، بدل أن يمارس هيمنته اللغويّة ويفرضها داخل نماذجه ومساعداته المحمّلة بقيم الفرنكفونيّة مثلا أو غيرها

 



حاول الحضور المغاربي حينها تقديم وجهة نظر مغاربية مشتركة، وكان مما يستذكره من تلك المناقشة أنّ سليمان الشيخ وضّح الطّريقة التي تمّت بها محاربة اللغة العربيّة خلال سنوات طويلة في الجزائر، وأنّه أشار إلى أنّه من غير الممكن أن نطلب من أناس أن ينسوا، بين عشيّة وضحاها، مائة وثلاثين سنة من الاحتلال الفرنسي للجزائر، تعرّض خلالها شيء حميميّ بالنّسبة إليهم، وهو لغتهم الأم، لغتهم الوطنيّة، لحرب شرسة، إلى الحدّ الذي جعلهم يعانون اليوم من شكل من الاستلاب الثقافي. وأطروحة سليمان الشيخ هي أنّه لا يمكن الحديث عن الفرنكفونيّة دون التفكير في السنوات الطويلة التي تمّت خلالها محاربة اللغة العربيّة. ويقول المنجرة؛ إن الإشكاليّة التونسيّة أقلّ خطورة، لأن التونسيين احتفظوا دائما بنوع من الازدواجيّة اللغويّة، التي تمكّن النّاس من الانتقال بسهولة من لغة إلى أخرى، فهم مرتاحون تماما بلغتهم الأم. أمّا الفرنسيّة فهي بالنسبة إليهم لغة يستعملونها كأداة ثانية، كما يمكنهم أن يتعلّموا لغة ثالثة أو رابعة. وعليه يجزم الدكتور المنجرة أنّ مفهوم الفرنكفونيّة لا يمكن فصله عن سياقه التاريخي المرتبط بالمرحلة الاستعماريّة، وكذلك بمرحلة تصفية الاستعمار التي لم تكتمل بعد.

المساعدات المحمّلة بقيم الفرنكفونيّة والهيمنة اللغوية

إنّه من المؤسف أن ينتصب الغرب مدرّسا وواعظا في الديمقراطيّة وحقوق الإنسان وفي شروط المجتمع المدني، لم يكن قبل بضع سنين يؤمن بصلاحيّة تطبيقها داخل مجتمعاتنا. إنه يحاول فرض بعض القيم اليهودية المسيحيّة على دول الجنوب دون احترام منه لمبدأ الاختلاف والتعدّد، سواء تعلّق الأمر بحضارات مثل الحضارة العربيّة الإسلاميّة، أو بالحضارات الأفريقية والآسيويّة اليابانيّة والصّينيّة وغيرهما، أو بحضارات أمريكيّة لاتينية.

على هذا الأساس، فإنّ الغرب لا يمكنه أن يكون ديمقراطيّا ما لم يؤمن بالاختلاف والتعدد الحضاري والثقافي، بدل أن يمارس هيمنته اللغويّة ويفرضها داخل نماذجه ومساعداته المحمّلة بقيم الفرنكفونيّة مثلا أو غيرها. ثم إنّ الدّيمقراطيّة مثل الهواء بالنسبة للإنسان، ولذلك ليس الإنسان المحروم من حريته وحقه في التعبير عن الرّأي والكرامة، في حاجة إلى أن تأتيه فكرة الديمقراطيّة عبر وسطاء من الخارج، حتى يستطيع حينها النهوض للمطالبة بحقّه في الدّيمقراطية، تماما كما لم تكن حركات التحرر الوطني على اختلافها في الوطن العربي وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاّتينية في حاجة إلى وسيط لتنتفض ضدّ المستعمر.

ينتهي الدكتور المنجرة إلى خلاصة تجربته وفهمه للفرنكفونية، وهي بمنزلة الخلاصة الصّادمة، مفادها أنّه "إذا قام شخص ما بالدّعوة إلى عقد اجتماع لبائعي رافعات النهدين الفرنكفونيين أو حمّالات البنطلونات، فإنّه سيحتلّ مرتبة، وسيحصل من الغرفة التّجاريّة الفرنسيّة، ومن المركز الثقافي الفرنسي على مبالغ من المال مخصص لهذا الغرض! فسواء كنت نجّارا أو حلاقا أو أيّ شيء آخر، يكفي أن تضيف كلمة فرنكفونيّة إلى التّظاهرة التي تعتزم تنظيمها لكي تحصل على المال الذي تريده. 

وفي ذات الوقت يقول؛ إن خلاصة فهمه للعلاقات الدّولية أنّ النّظام العالمي الجديد جاء لحماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بثلاثة خطط دقيقة هي: سياسة التجزئة ومحاربة الوحدة، سياسة الاستقرار ومحاربة التغيير وسياسة التوسّع الحضاري، وتحقيق الهيمنة اللغوية والحضاريّة والفكرية للحضارة المسيحية اليهوديّة ضدّ كلّ الثقافات الأخرى. وقد بدأت الحملة ضدّ الإسلام بعد أن كشف معهد بالفاتيكان متخصص في دراسة الإسلام، أنّ عدد الكاثوليك انخفض لأوّل مرّة في التّاريخ عن عدد المسلمين، مع احتمال اتساع الهوّة بانخفاض نسبة المسيحيين وارتفاع نسبة المسلمين.


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم