مقالات مختارة

أسئلة عن هذه المصائب التي ترفض أن تفارقنا

توفيق رباحي
جيتي
جيتي
وأنا أتابع أخبار فاجعة الحريق الذي التهم صالة أفراح في محافظة نينوى العراقية ومعها عشرات الأرواح، لم أستطع منع نفسي من السؤال: لماذا كل هذه الكوارث، ولماذا هؤلاء الناس في هذه المنطقة من العالم بالذات؟

لم تجف بعدُ دماء ضحايا زلزال المغرب الثلاثة آلاف. ولم تجف بعد الأوحال التي غمرت سكان درنة الذين لا أحد يعرف كم ألفاً هم. وها نحن على موعد جديد مع المآسي ومواكب الجنائز.

الكوارث الطبيعية تحدث عبر العالم ولا تستثني منطقة أو شعبا. لكن ما يحدث معنا كثير.. فعلا كثير.

تبدو السنة الجارية استثنائية من حيث المصائب والخراب. يكفي أنها بدأت بزلزال سوريا وتركيا في شهر شباط (فبراير) الماضي وضحاياه الخمسين ألفا.

إذا جمعنا ضحايا زلزال تركيا وسوريا وضحايا زلزال الحوز في المغرب وقتلى سيول درنة وحريق نينوى وحوادث اصطدام القطارات في مصر وحوادث السير وحرائق الغابات في الجزائر والصراعات المسلحة هنا وهناك، نقترب بسهولة من الـ100 ألف قتيل. أغلبهم بؤساء مطحونون بالفقر والظلم وقلة الحيلة.

يحدث زلزال متوسط القوة في هذه المنطقة فيموت ألف شخص، بينما يموت 50 أو 60 لو حدث في جزء آخر من العالم حتى لو كان هذا الجزء مصنفا أقل تقدما.

يقع حادث اصطدام قطارين في مصر فيموت 100 مسافر مسكين، بينما لا يموت أحد، أو يمكن عدّ الضحايا على أصابع اليدين، لو وقع الحادث ذاته في منطقة أخرى من العالم.

تندلع نيران في بناية أو منشأة أو غابة، فتتكرر المأساة، ولنا في حرائق العراق وغابات الجزائر كل صيف وحرائق اليونان وإيطاليا وفرنسا، نموذج للمقارنة.

هناك دول ومناطق من هذا العالم مبتلاة بالأعاصير والطوفان لم يمت فيها خلال عقود عُشر عدد ضحايا سيول درنة الليبية التي دامت ساعات معدودة.

هل تذكرون كارثة باكستان في آب (أغسطس) 2022؟ لقد اجتاحتها سيول هائلة أودت بـ1100 شخص، حسب إحصاءات رسمية، وبلغت خسائرها المادية 10 مليارات دولار.

باكستان ليست نموذجا يُحتذى في الحكم الراشد، لكن كيف يموت فيها 1100 شخص وقد غمرت السيول ثلث مساحة البلاد المقدّرة بـ900 ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها 250 مليون نسمة، ويموت 10 آلاف في درنة المقدّرة مساحتها بـ32 ألف كيلومتر مربع وعدد سكانها 100 ألف؟

الجواب بسيط: الديكتاتوريات ثم الفساد فخراب المجتمعات واستسلامها لما تعتقد أنها أقدار.

الديكتاتوريات تمنع المحاسبة، وغياب المحاسبة يشجع الفساد، وتفشي الفساد يدفع المجتمع للإحباط أو المشاركة في الفساد، وغالبا للاثنين.

لماذا تنفرد مجتمعاتنا بقابليتها الهائلة لتقديم القرابين والضحايا للكوارث التي يسهل تعويم المسؤوليات فيها والاختباء وراء "القدر والمكتوب" و"ما حدا يموت ناقص عمر"؟

الزلازل لا تقتل. ما يقتل هو الغش في البناءات عندما يصبح مفخرة وطنية، وغياب الردع القانوني وانعدام ثقافة البناء والصرامة العمرانية من جانب الدولة والمؤسسات. من جانب المجتمع ما يقتل هو الإهمال وهيمنة ثقافة "التشطر" على الدولة و"مَشِّي أمورك" وغياب الوعي الجمعي ولجوء الناس إلى البناء كيفما كان حيثما كان بلا تراخيص ولا مسؤولية ولا محاسبة معتقدين أن المصائب تحدث للآخرين فقط، وأن النهر المجاور الذي لم يفض منذ 30 سنة لن يفيض أبدا، وأن منطقتهم التي لم يضربها زلزال في حياتها مُحصَّنة إلى الأبد.

هذا ما يحدث عادة كلما وقعت كارثة (كان يمكن تفاديها): يغضب المسؤول من قصره أو مكتبه (أو يدّعي الغضب والتأثر) ثم يوجه بتسخير المساعدات وتكثيف جهود الإغاثة ويأمر بفتح تحقيق. كأن ضحايا الكارثة لا يستحقون الدعم وتلقي الإغاثة إلا إذا أمر سيادته أو سموه أو جلالته. وكأن المأساة لا تتطلب تحقيقا إلا إذا ارتأى سيادته ذلك.

ثم يأتي الإعلام المحلي ليقيم الأفراح ابتهاجا بحرص سيادته على السهر شخصيا على متابعة تفاصيل أعمال الإغاثة. ويزيدنا هذا الإعلام بأن سيادته أمر بالتكفل بالمصابين ومنْحِ مبالغ مالية لذوي المتوفين.

غالبا يصطدم التحقيق بالواقع والمصالح والمافيات الحاكمة والمتنفذة فيلفّه النسيان في انتظار المأساة المقبلة. تسمع الكثير من "الرغي" عمَّا سبّب المأساة الحالية، لكنك لن تسمع كلمة عمَّا فُعل لمنع المقبلة. أما إذا كانت المصيبة كبيرة واشتد الغضب الداخلي والاستياء الخارجي فالحل متوفر وسهل: التضحية بعدد من أصحاب المناصب والقرارات، غالبا الحلقات الضعيفة في الزمر الحاكمة، في توجه أقرب إلى الانتقام وتصفية الحسابات منه إلى تحقيق العدالة للضحايا. وهكذا يبتلع المجتمع "الحبّة" ويستسلم لدجل السياسة وبهتان الإعلام المحلي، بينما يلتفت الخارج لشؤونه.

المجتمعات استسلمت أيضا لسماسرة الدين ممن يغتنمون المآسي لترويع الناس وتذكيرهم بــأنها من علامات الساعة وبأنها نتيجة لـ"معاصيهم" و"انحرافاتهم".

واستسلمت كذلك لوحوش "السوشال ميديا" وعبثهم الخطير بمآسي الناس وحياتهم، وتصر على رفض الانتباه لخطورة هذه الفضاءات.

مجتمعاتنا في حاجة إلى ثورة على الحكومات وسماسرة الدين ووحوش "السوشال ميديا". مع الحكومات يجب التوقف عن الابتهاج بأخبار سيادته أو فخامته الذي تبرع بقطرة دم وأمر بالتكفل بالضحايا. عليها أن نتعلم أن هذا لا يكفي، وأنه أبسط واجب، وأن الصح هو العمل القانوني والإداري والميداني على ألَّا تتكرر مثل هذه المآسي. هذا هو المطلوب وهذا ما يبقى.

مع سماسرة الدين حان الوقت ليدرك الناس أن أغلبهم مجرد ثرثارين بعضهم لا يتقن قواعد اللغة العربية ونحوها. يتمتعون برؤية الناس مكتئبين مذعورين يفكرون في موتهم أكثر مما يهتمون بتغيير حياتهم. يدفعون الناس إلى الاستسلام لمصائبهم بدل توعيتهم بحقوقهم وطرق المطالبة بها.

مع وحوش غابة "السوشال" ميديا يجب تنمية القدرة على عدم الثقة فيهم والابتعاد عنهم. كلما ابتعدت عن هؤلاء، اقتربت حياتك إلى الراحة والسلام الداخلي.

مجتمعاتنا ضحية لكنها مذنبة باستسلامها وخضوعها. عليها أن تتوقف عن الاعتقاد أن دورها ينتهي عند ذرف الدموع على المصابين والمتضررين وجمع المساعدات والتسابق نحو إرسالها لهم. وعليها أن تدرك أن دورها أيضا لا ينتهي بلعن المسؤولين على إخفاقهم في إدارة الكارثة.

عليها أن تبدأ رحلة العمل والضغط على ألا تتكرر المآسي. هذا العمل مقدّس أكثر من جمع التبرعات العينية التي لا خلاف على أهميتها.

القدس العربي
التعليقات (0)