كتاب عربي 21

سلاح المقاطعة ومغزى إسناد المقاومة.. قاموس المقاومة (17)

سيف الدين عبد الفتاح
المقاطعة "مقاومة عابرة للحدود"- جيتي
المقاطعة "مقاومة عابرة للحدود"- جيتي
في مقالنا السابق تبيّن أن واجبات أمة العرب والمسلمين تختلف عن واجبات غيرها، لأن الأرض المسلوبة عربيّة ذات اعتبار إسلامي بالقدس والأقصى، ولأن الشعب المهجّر والمنتهكة حقوقه عربيّ. فكون قضية فلسطين قضية عربية وإسلامية يعني أن العرب والمسلمين ليسوا فيها مراقبين محايدين، أو طرفا ثالثا، بل هم الطرف الخاضع للاحتلال الاستيطاني، وبالتالي واجباتهم ومسؤولياتهم تختلف عن واجبات ومسؤوليات غيرهم. فإن كان أقصى ما يراد من غيرهم هو المقاطعة، فإن هذا الواجب هو أقل ما يراد من العرب والمسلمين.

والمقاطعة هي كل نشاط يهدف لنزع الشرعية وعزل العدوّ الصهيوني سياسيا، وثقافيا واقتصاديا وأكاديميا، وغيرها من المجالات المتعددة التي من الممكن أن تكون محلا لفعل المقاطعة الفردي والجماعي الناهض بمواقف الأمة في دحر العدوان وأعوانه ودعم المقاومة في كل أشكالها.

إن انتشار ثقافة وحركة المقاطعة في كل أشكالها ومستوياتها وأوعيتها أمر إيجابي وضروري، بل هو واجب الأمة في حال القيام بالجهاد والمقاومة للعدو، لكن يجب التذكير دائما بأنه أقل واجبات العرب والمسلمين، أما أعلى واجباتهم فهو المقاومة. والمقاومة لا تنحصر فقط في الأنشطة العسكرية، بل تشمل كل نشاط -عسكري أم سلمي أم اقتصادي- لا يهدف فقط لنزع الاعتراف والشرعية عن الصهاينة، بل في هزيمتهم وإنهاء احتلالهم. لهذا هناك تداخل بين المقاطعة والمقاومة، حيث إن الأولى يمكن أن تتحول إلى الثانية، لأنها تتضمن نوعا من الإضعاف غير المباشر.

المقاطعة هي كل نشاط يهدف لنزع الشرعية وعزل العدوّ الصهيوني سياسيا، وثقافيا واقتصاديا وأكاديميا، وغيرها من المجالات المتعددة التي من الممكن أن تكون محلا لفعل المقاطعة الفردي والجماعي الناهض بمواقف الأمة في دحر العدوان وأعوانه ودعم المقاومة في كل أشكالها

دخلت كلمة "boycott" اللغة الإنجليزية خلال حرب الأرض الأيرلندية (Land war) واشتقت من اسم الكابتن تشارلز بويكات (charles boycott) وهو وكيل أرض المالك الغائب (absentee landlord) اللورد إيرن. وكان الكابتن تشارلز بويكات يعيش في منزل على بحيرة ماسك بالقرب من بالينروب في مقاطعة مايو في أيرلندا. ويمكن متابعة أصل المقاطعة في الغرب من هذه الكلمة (boycott) التي صارت رمزا لفعل المقاطعة والتي ارتبطت كذلك في بادئ أمرها بالمقاطعة كحالة امتناع اختياري ومتعمد عن الاستخدام أو الشراء أو التعامل مع شخص أو منظمة أو بلد، كتعبير عن الاحتجاج، وعادة ما تكون لأسباب أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية أو بيئية.

وغرض المقاطعة هو إلحاق بعض الخسائر الاقتصادية بالشخص أو المنظمة المستهدفة أو الإشارة إلى إساءة أخلاقية؛ لمحاولة إجباره على تغيير سلوك مرفوض. وفي بعض الأحيان يمكن أن تكون شكلا من أشكال نشاط المستهلك، وعندما تشرعه حكومة بلد ما فإنه يسمى عقوبة أو جزاء. وكما يؤكد علماء المفاهيم ومتابعة سيرة الأفكار؛ فإن الظاهرة تنشأ أولا على أرض الواقع ثم تتخذ اسما أو مسميات متعددة، وقد ترتبط بحادثة رمزية أو شخص ارتبط بها. وتنتشر في ثقافات مختلفة وأهمها ذاكرة الثقافة والحضارة الإسلامية واتخذت فيها أسماء وأشكالا مختلفة.

تترافق فعاليات العمل الشعبي الكفاحي والمقاوم المناهض للاحتلال والعدوان في فلسطين مع تطور حملة مقاطعة الاحتلال، وتؤكد على طبيعة هذا الفعل الحضاري في الممانعة والمدافعة في المناهضة والمقاومة؛ وهي الحملة التي تعد في جوهرها شكلا من أشكال المقاومة بطابعها السلمي الحضاري طويل النفس، ويمكن لها أن تحشد المزيد من الداعمين والمساندين على امتداد العالم بأسره لمؤازرة القضية الفلسطينية؛ فتنداح دوائرها وتتسع لتشكل حركة عالمية قوية في شتى بقاع الأرض لمحاصرة العدوان والعدو الصهيوني معا؛ حتى لو كانت تلك المواقف رمزية تبرز المواقف المناهضة للصهيونية والصهاينة والمتصهينة على حد سواء.

خطاب المقاطعة كما يؤكد العالم المتميز في علم تحليل الخطاب الأستاذ الدكتور عماد عبد اللطيف؛ "هو كل النصوص والصور والتسجيلات التي تتداول لحث جماهير الناس على المقاطعة، وإضفاء مشروعية عليها، وتبرير مسوغاتها، والتأكيد ليس فحسب على فاعليتها، وإنما أيضا على ضرورتها الحاسمة. في المقابل هناك خطاب مضاد للمقاطعة، تروجه قوى الاحتلال ومن يدافعون عنها، يسعى إلى التقليل من تأثيرها، وتحريض الجماهير العربية على رفض المقاطعة أو التخلي عنها. وقد عرف العالم العربي والإسلامي أشكالا من خطابات المقاطعة على مدى الأعوام الثلاثين الأخيرة، نذكر منها على سبيل المثال، حملة المقاطعة الهائلة في الانتفاضة الفلسطينية الثانية وما تبعها. ومن ثم، فإن لدينا تراثا من خطابات المقاطعة، وما ينتج ويُتداول من نصوص وكلام في سياق خطاب المقاطعة الراهنة يتشابه في بعض الأمور مع الخطابات السابقة، ويختلف عنها في أمور أخرى؛ وما يتميز به خطاب المقاطعة الراهن، المصاحب لطوفان الأقصى".

لا تتخذ شكلا من الأشكال الذي يتعلق بالبضائع والسلع، ولكنها تمتد لكل أرض وتمتد في كل مجال؛ الثقافي والإعلامي والفني والرياضي والأكاديمي، وهنا فإن ابتكار أشكال ومستويات جديدة من المقاطعة هو رهن بقيام الأمة بهذه المواجهة الحضارية الشاملة والمتكاملة

المقاطعة إذا في ارتباطها بالمقاومة؛ خاصة تلك المقاطعة الاقتصادية؛ هي عملية استغناء والتربية عليه، وهي خروج على صنم الاستهلاك وتكديس الأشياء كما يؤكد على ذلك مالك بن نبي؛ ثقافة الاستغناء عن الأشياء غير الضرورية والتي تشكل جوهر الصناعة الرأسمالية، والتي تتسرب إلى كافة المجالات الكمالية، كما أنها أيضا تؤكد على أن الأمر لا يتعلق فقط باستيراد سلعة أجنبية، بل تؤكد في الجانب الآخر أننا قادرون على صناعة احتياجاتنا الأساسية.

المقاطعة: تربية نفسية، وصناعة تربوية تمكن لذلك الحاجز النفسي مع العدو نحو مفهوم جديد للولاء والبراء؛ الولاء للقضية الفلسطينية وكل ما يحدث في غزة من مقاومة عزيزة وكريمة وقتل وقصف في غزة لكل حي فيها ولكل حجر وشجر، وهي بذلك تحدث هذا الأمر الذي يتعلق بمصيرية الصراع مع هذا الكيان الصهيوني الذي يشكل معركة وجود لا بضعة من أرض أو حدود.

المقاطعة: لا تتخذ شكلا من الأشكال الذي يتعلق بالبضائع والسلع، ولكنها تمتد لكل أرض وتمتد في كل مجال؛ الثقافي والإعلامي والفني والرياضي والأكاديمي، وهنا فإن ابتكار أشكال ومستويات جديدة من المقاطعة هو رهن بقيام الأمة بهذه المواجهة الحضارية الشاملة والمتكاملة.

المقاطعة: انتصار على مقولة الولع ودحر لموسوعة المغلوب، فهي في حقيقة الأمر تؤكد على تلك الطاقة النفسية التي تشكل سندا معنويا لكل أمر مقاوم، فإن المقاطعة من المقاومة، والمقاومة من المقاطعة. إن هذه المقاومة والممانعة تؤكد على مواجهة العدو في أي مكان وفي كل مكان في المعمورة.

المقاطعة: سلاح الأمة الماضي الذي يشكل مشاركة شعورية ممتدة لمقاومة الأمة وجهادها، وهي اجتهاد وجهاد تقوم به الأمة دعما لمقاومتها، ومحاصَرة لأعدائها.

المقاطعة: رمز عبادي؛ وكما أشرنا سابقا، هي معنى العبادة الصامتة التي تتعلق بالترك والامتناع، ولها ألف سند من الشرع تتأكد به هذه المقاطعة لتستند إلى أنها ضرورة حياتية وشرعية في مواجهة كل السياسات الصهيونية.

المقاطعة: مقاومة عابرة للحدود؛ فهي لا تتعلق بقُطر دون قُطر، ولكنها تتعلق بشعوب الأمة بأسرها أينما كانت، وأينما كانت مواقف النظم الرسمية فيها، فهي عمل عابر لكل سلطة تحاول تكميم الأفواه، أو تمنع عموم الناس من الفعل والفاعلية، وهي كذلك شاملة للأمة، وأمة الإنسانية بأسرها، لتعبر عن معنى التحرير ومقاومة العدوان والطغيان

المقاطعة: حالة وموقف؛ أما الحالة فهي التي ترتبط بالأمة بأسرها، على كل أحد أن يتصور أن له دورا في معركة الأمة القائمة والماضية مع هذا العدو الاستيطاني الذي يشكل احتلالا واغتصابا، وهي موقف مستمر قائم على قاعدة تمكين المقاومة من أهدافها وتحقيق الهدف النهائي في مواجهة العدوان، والتحرر من الاحتلال والطغيان.

المقاطعة: مقاومة عابرة للحدود؛ فهي لا تتعلق بقُطر دون قُطر، ولكنها تتعلق بشعوب الأمة بأسرها أينما كانت، وأينما كانت مواقف النظم الرسمية فيها، فهي عمل عابر لكل سلطة تحاول تكميم الأفواه، أو تمنع عموم الناس من الفعل والفاعلية، وهي كذلك شاملة للأمة، وأمة الإنسانية بأسرها، لتعبر عن معنى التحرير ومقاومة العدوان والطغيان.

المقاطعة: بنيان مرصوص يحرك طاقات الأمة كحائط صد في مواجهة العدو والعدوان ومواجهة هؤلاء الذين يساندونه ويتحالفون معه من أعوان، ذلك أن هذا الفعل لا يحقرنّ منه أحد أو يستصغر شأنه أو يهوّن من أثره، فإن الصناعة الرأسمالية لا تبحث فقط عن الدولار الذي تحصله، ولكنها تبتئس كثيرا من الدولار الذي تفقده، والممانعة في هذا المقام تعبر عن كل هذا الشأن الذي يتعلق بمقاومة من نوع جديد.

المقاطعة في النهاية هي كيان أمة، وأمة قطب، تستقطب اللُحمة الجامعة، والمواقف الفاعلة؛ "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد"، "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".. وهي أيضا ذمة أمة وشهودها؛ "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم". إن هذه الوحدة الجمعية والانتماء الجماعي إنما يشكلان في النهاية ذمة الأمة في مقاطعتها دعما لكيان الأمة ووحدتها، ومقاومة لمن يسعى إلى أن ينتهك حياض الأمة وكرامتها وعزتها وجهاد مقاومتها؛ المقاطعة مقاومة؛ والممانعة مقاومة.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)